“إمارة الـمؤمنين”: المفهوم والتاريخ

Cover Image for “إمارة الـمؤمنين”: المفهوم والتاريخ
نشر بتاريخ

إن رياح التغيير التي تهب هذه الأيام على عدد من دول العالـم، دفعت الساسة والـمثقفين للبوح بدواعي تعثر عملية التحول الديمقراطي في البلدان العربية والإسلامية، ويكاد يجمع كل أولئك على أن التقهقر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تعرفه هذه الدول هو نتيجة لفساد الحكم وفشو الاستبداد في أنظمته النازعة إلى الهيمنة على مؤسسات الدولة، والـمتدخلة باستمرار في شؤون “المجتمع المدني”، فضلا عن احتكارها للمال والسلطة، بـمعزل عن الشعب الذي هو مصدر السلط، ووقوفها حجر عثرة أمام الانفتاح السياسي الذي تنشده القوى التحررية التواقة إلى العدل والكرامة والحرية والمساواة، حتى إن هذه القوى تُخيَّر بين أن تندرج ضمن السياق السياسي الذي ارتضته الأنظمة الحاكمة، أو تهمش من الساحة السياسية، أو يضيق عليها، بدعوى خروجها عن اختيارات الدولة وثوابتها.

إن من بين الأنظمة التي هي مـحور نقاش الآن بين أهل الفكر والسياسة، النظام القائم على الـملكية المطلقة، ومـحور هذا النظام ولبُّـه هو الـملك: “أمير الـمؤمنين”، الفاعل الـمحوري في الحياة السياسية والدينية.

إن لقب “إمارة المؤمنين” بـما يحمله من دلالات دينية وسياسية، جعلت الـملقب به يتصرف بإطلاق في شؤون الدنيا والدين، استنادا إلى الصيغة التاريخية لهذا الوصف، وعملا بـما تقتضيه المصلحة المرسلة التي هي أحد الأدلة المعتبرة في مذهب الإمام مالك رحمه الله.

فما مفهوم “إمارة الـمؤمنين”؟

إن “أمير المؤمنين” في الفكر السياسي الإسلامي لقب غلب على مسمى “الخليفة” و”الإمام” ورئيس الدولة على جهة الرِّفعة، ولم يكن معروفا في العهد النبوي ولا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه الذي كان يلقب بـ”خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فلما ولي الأمرَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا يدعونه “خليفةَ خليفة رسول الله صلى الله عليه”، فعدلوا عن هذا اللقب، ودعوه بـ”أمير المؤمنين”؛ لعلل لسانية راجعة إلى ابتعاد العربي عن الـهُجنة وما يوقع في اللَّبس، ومنها توالي الإضافات 1 ، ولقب به الخليفتان الراشدان : عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وجاء ملوك بني أمية وبني العباس ومن بعدهم فَتَسَمَّوْا بـهذا الاسم.

وأما في الـمغرب، وبعد سقوط دولة الأدارسة ومجيء دولة المرابطين، اتخذ الملك الصالح يوسف بن تاشفين لقب “أمير المسلمين” بدل “أمير المؤمنين”؛ إجلالا منه لهذا اللقب النوراني ذي الدلالة الخاصة، ولم يسْطُ عليه ويطوعْه لأغراض سياسية براغماتية، كما فعل عدد من الملوك ممن جاءوا بعده.وأضحى هذا الاسم لقبا ثابتا في ملوك السعديين والعلويين، وكُرِّس في كل دساتير الدولة المغربية منذ سنة : 1962 ثم 1972 و1992 وأخيرا 1996 في الفصل 19 منه.

اقتُدِيَ بعمر رضي الله عنه في اللقب، وتركت سيرته تاريخا محنطا تتداوله الأجيال من غير اتباع إلا ما شذ وندر.

إننا بالرجوع إلى حديث حذيفة عند الإمام أحمد في مسنده، نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن خلافتين اثنتين، وبينهما ملك عاض وجبري، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:“تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ”فالوارث للمُلْك أو المتغلب لا يصح اصطلاحا إطلاق لقب “أمير المؤمنين” عليه، فهو ملك عاض أو جبري.قال الجويني:ولم أر التمسك بما جرى من العهود من الخلفاء إلى بَنِيهِمْ؛ لأن الخلافة بعد مُنْقَرَض الأربعة الراشدين شابتها شوائب الاستيلاء والاستعلاء، وأضحى الحق المحض في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة ملكا عضوضا) 2 . ثم إن الملقب به له مواصفات هي نفسها مواصفات الإمام أو الخليفة، وقد فقدت هذه الأوصاف في عدد ممن لقب بذلك، حتى اضطر ناس ممن نظروا للإمامة العظمى أن يسموا خلافة الملوك بـ”خلافة الضرورة”.

إن هذا اللقب ليس ميزة شخصية أو فردية يتمتع بـها الأمير بمعزل عن رعايته لـمصالح الناس، إنما هو وكيل عن الأمة التي وكلته وارتضته عن اختيار، وهو أجير عندها يخدم مصالحها بتفان وصدق، ويحاسَب على مسؤوليته أمام نواب الأمة، إنه لقب مشعر بالقوة والأمانة والرفق بالمؤمنين والحنو عليهم، فدلالته شرعية وتربوية، ودنيوية وأخروية.

إن إمارة المؤمنين تتنافى مع احتكار السلطة والـمال، سعيا وراء تحقيق مصالح ذاتية مبنية على الأثرة، بالاستبداد والاستعلاء، وهذه بالذات هي نعوت الحكم الأوتوقراطي أو الملك الطبيعي الذي تحدث عنه ابن خلدون 3 ، كما أنها تتنافى مع احتكار الدين في يدها، عنها يصدر وإليها يرجع، بدعوى أنه ظل الله في الأرض، وهذا هو الحكم التيوقراطي.

إن الإشكال الجوهري ليس في المصطلح نفسه أو تغييره بآخر، إنما في التوسل به إلى إضفاء الشرعية على السلطة الزمنية، وشرعنة التصرفات الصادرة عن الملقب به، نعم إن المحافظة على المصطلحات الأصيلة ذات الدلالة القوية، وبخاصة ما ورد منها في القرآن الكريم والسنة المشرفة أمر مطلوب، لكن الأساس من نظام الحكم ومفاهيمه ومصطلحاته تحقيق العدل بين الناس.


[1] ينظر مقدمة ابن خلدون ص: 285.
[2] غياث الأمم ص: 78.
[3] “الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة”، مقدمة ابن خلدون ص: 244.