يقول الإمام عبد السلام رحمه الله: لسنا من هواة سياسة الكارثة، لكن الأمور تزداد سوءا سنة بعد سنة، والشعب أصبح يزداد إيمانا بأن المسؤولين عن معاناته يجب أن يرحلوا) 1 .
إذا بحثنا في الأصل الفلسفي للعملية الانتخابية، فإننا سنقف عند هذا الأصل تقرير الفصل بين الحاكم كشخص والسلطة باعتبارها وظيفة). ويصبح الأساس في ممارسة السلطة هو التفويض الشعبي وما يترتب على ذلك من تقييد لسلطات الحاكم، وعبر مسيرة سياسية وتاريخية ترسخ مبدأ أن الشعب هو المصدر النهائي للسلطات). فالشعب هو الطرف الأصيل بينما السلطة الوكيل عنه الممثل لإرادته والملبي لها.
فالنظام الانتخابي يمكن أن يكون في نهاية المطاف أداة ناجحة لبناء دولة حديثة قوية بما يتيحه دستورها الديمقراطي من ممارسة سياسة جيدة سليمة تؤدي إلى الانعتاق والحرية، ومشاركة فعالة في الشأن العام، وهذا هو حال الدول الديمقراطية. وقد يكون من جهة أخرى مجرد محطة شكلية واحتفالية لتأكيد شرعية الأمر الواقع، وإعادة إنتاج ما هو قائم فعلا كما هو الشأن في عالمنا العربي. وقد استطاع النظام المخزني تعميم مفردات سياسية للإيحاء للمتتبع للشأن السياسي المغربي أن هذا البلد منفتح حقا على الديمقراطية وأنه قطع أشواطا في عملية التنزيل هو الآن قاب قوس أو أدنى من بلوغ الهدف. “الانتقال الديمقراطي”، “التناوب الديمقراطي”، إنها “الثورة الديمقراطية” في الوقت الذي ما زالت غالبية الأحزاب السياسية مسيجة ومحاصرة بكم هائل من القيود والتقاليد وتعيش في عالم منغلق عن شرائح المجتمع ولا تظهر لها حركة إلا في مواسم الانتخابات. يقول المفكر والمؤرخ عبد الله العروي: من لا يخضع للأقنوم لا يكسب الشرعية. وإذا خضعت وكسبت الشرعية من أين يتسلل إلى ذهنك فكر الإصلاح؟) 2 .
قد تجد أفرادا وأحزابا تتبنى فكرا ثوريا أو إصلاحيا، فتنادي بتغييرات جذرية وإصلاحات عميقة، لكن بمجرد أن يفتح لها الباب وتتم عملية الاستوزار يحدث انقلابا فكريا، وتغييرا جذريا في المواقف، بينما المخزن ثابت في مواقعه يعيد إنتاج استراتيجيته وأهدافه بوجوه جديدة. … الأحزاب التي كانت تتكلم بلسان الوطنية أحرقت كل أوراقها، تسارعت إلى الاستسلام بدون شرط) 3 .
فالأستاذ عبد الهادي بوطالب رحمه الله لما كان في صفوف “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” كان يناظر ويحاضر أينما حل وارتحل ويرفع صوته بأن: الدستور الممنوح ليس هو الطريق لبناء دولة المؤسسات القادرة على قيادة المجتمع المغربي) 4 ، وهو أول من تلفظ بعبارة الدستور الممنوح). لكن الرجل صار له موقف آخر في دار المخزن، وقد كلف بقراءة نص “الدستور الممنوح” يوم الأحد 18 نونبر 1962، إنه المخزن الذي لا ينسى، والإذلال والإهانة من بين أسلحته المفضلة.
يقول الدكتور سعيد يقطين: كانت حكومة “التناوب التوافقي” بارقة أمل في تحقيق ذلك الانتقال، لكن الانخراط في تدبير شؤون الدولة بدل أن يجعل المعارضة ترتكز على أرضية الحركة الجماهيرية وتوطد علاقتها بها تختار الانحياز إلى مناطق السلطة غير عابئة برصيدها النضالي وتاريخ علاقتها بالشعب) 5 .
وحكومة “التناوب التوافقي” كما ذكر موريس بوتان: ليست بحال وليدة الإرادة الشعبية، ولكنها نتيجة توليفة انتخابية صنعها الحسن الثاني… فالملك وقد اشتد عليه المرض أراد أن يبدو المغرب بعد وفاته بمظهر بلد ديمقراطي، ولكن ألم يتصرف على ذلك النحو لخداع المعارضة وإحكام اللعبة حولها؟ بل إن الملك كان واضحا وهو يعرض موقفه في 20 غشت: “أنا من يضع سياسة البلد والحكومة موجودة كي تنفذ تعليماتي وخياراتي”) 6 .
التناوب الحقيقي يحمل دلالة واحدة أن السلطة ملك للشعب، وهذا ما يفتقده التناوب الممنوح حيث تظل الحكومة تناوبية بالاسم مع أنها سلطانية في الواقع… التناوب هو إبدال خادم بآخر، زيد بعمرو هذا ما يود النظام أن يسمعه، ويسمعه للشعب) 7 .
فمع حكومة عباس الفاسي حيث بلغ الوهن الحزبي مبلغه واتضح ذلك جليا من خلال ما آلت إليه الأمور، بدءا من تشكيلة الفريق الحكومي، وانتهاء بكيفية اشتغاله وممارسة أعماله، انفرد مستشارو الملك بتعيين شخصيات تكنوقراطية ومستقلة ونكرات في عالم السياسية في مناصب وزارية ذات طابع تقني، كانت من قبل من نصيب الأطر الحزبية السياسية، فكان من ضمن الأعضاء المعينين الممثلة ثريا جبران التي اعتاد الجمهور مشاهدتها فوق الخشبات المسرحية أو في وصلات إشهارية.
حزب العدالة والتنمية قاد حملته الانتخابية التي أهلته لرئاسة الحكومة برفعه شعار محاربة الفساد، لكن بعد التعيين، وبعد التأكد من أن الفساد متغلغل في كل مفاصل الدولة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، تراجع عن المهمة ورفع شعار عفا الله عما سلف) وتخلى حتى عن صلاحياته بتحويل تقارير المجلس الأعلى للحسابات إلى النيابة العامة التي هي تحت إشراف وزير العدل والحريات. وكثيرا ما كان يتصرف رئيس الحكومة وكأنه في حزب معارض لا حول له ولا قوة، فأمام تمرد مديرة أخبار القناة الثانية واستمرارها في استفزاز الحزب “الحاكم” لم يكن من السيد رئيس الحكومة إلا بث شكواه أن تلك القناة تجاوزت مرحلة التحامل والاستهداف وشرعت في التشويش على تجربته).
لماذا كل هذا العصيان؟ الجواب أن الإعلام العمومي يدخل في دائرة القطاعات الاستراتيجية التي كانت تاريخيا وما زالت من صلاحيات الملك، فرئيسها المباشر، والمدير العام للقطب العمومي يتم تعينهما من طرف الملك دون اقتراح من رئيس الحكومة أو استشارته. لذلك كانت مديرة القناة تصرح: لو كان بمقدور بنكيران أن يقيلني من منصبي ومهامي لفعل ذلك منذ وقت طويل).
خلاصة: إن وضع العملية الانتخابية على رأس الأولويات وقبل تهييء وتوافر الظروف والشروط الذاتية والموضوعية يعتبر صرفا للجهود والطاقات في غير محلها، وتكون النتيجة استمرارية الوضع الراهن، مع نزيف حاد لا يتوقف. فالانتخابات حين تصبح غاية فإنها في أحسن الأحوال توفر لحظة حرية مبتورة، وحين تكون وسيلة فإنها تصنع مجتمعا حرا أبيا. لا بد من وضع الحصان أمام العربة لكي تتقدم المسيرة صوب بر الأمان على عكس الوضعية القائمة الآن.
ما قيمة انتخابات تتم تحت سقف من الحدود والقيود المكبلة للحركة قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها؟
ما جدوى انتخابات تزكي واقع الاستبداد، ولا تعمل على الانفكاك منه؟
ما قيمة انتخابات تزعم أنها حرة شفافة وهي شاهدة على قمع الرأي المعارض، حيث الحرمان والقمع والاعتقال؟
لا أمل في وجود حياة سياسية سليمة دون تفكيك بنية التسلط السياسي ورفع القيود المكبلة لسائر القوى السياسية والاجتماعية، ودون وجود قوانين عادلة تؤمن حرية الجميع وتحفظ حقوقهم، فالحرية أولا، وهذا لن يتم إلا بتحالف كل القوى السياسية والاجتماعية على خلفية الحد الأدنى من الإجماع على مطالب سياسية مشتركة يكون على رأس أولوياتها إنجاز مهمة تغيير ديمقراطي حقيقي.
إن سنن الكون في انتصار الشعوب وظفرها بحريتها قد تتأخر لسبب أو لآخر، لكن في النهاية يستجيب القدر لأن الشعوب أرادت وأصرت على انتزاع حريتها.