أنزل الله تعالى القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بتبليغه للناس. قال الله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك 1، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على الناس ويعلمهم آياته ويفسر لهم أحكامه وتعاليمه ويدعوهم إلى هداه. قال تعالى: هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 2.
وكان رسول الله يتعبد بالقرآن الكريم لربه، فكان يقوم به الليل ويتلوه بخشوع وتدبر ويناجي به ربه. ومما يدل على ذلك قصة نزول أواخر سورة آل عمران وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم لله بها. عَن عطاء قَالَ: “دَخَلْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: حَدِّثِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَبَكَتْ، فَقَالَتْ: قَامَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَقَالَ: “يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي، قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا يَسُرُّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ، فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الأَرْضَ، وَجَاءَ بِلالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاةِ فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَبْكِي، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟! لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ… “ 3.
وكان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم للسمع أيضا حظه من كلام الله عز وجل. فقد استمع عليه الصلاة والسلام لقراءة أبي موسى الأشعري وأعجب بها؛ فعن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود” 4. وأخرجه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه بزيادة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة مرا بأبي موسى وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا. فلما أصبح لقي أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا موسى مررت بك فذكر الحديث فقال: أما إني لو علمت بمكانك لحبرته تحبيرا.
وفي مجلس من مجالس العلم والإيمان التي كان يتلقى فيها الصحابة أصول التربية الإيمانية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر عليه الصلاة والسلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم فقال: (اقرأ عليَ القرآن) فتعجب ابن مسعود رضي الله عنه من طلب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله كيف أقرأ عليك وعليك أنزل). تعجب سيدنا عبد الله بن مسعود أن يطلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا الطلب وهو الذي اختاره الله تعالى لينزل عليه كتابه وهو المصدر الذي يتلقون منه القرآن وهو الذي يقرئهم ويعلمهم إياه… لكن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعلم والمربي، أراد أن يستمع للقرآن من أجل التدبر والخشوع وفي نفس الوقت أراد أن يعلم أصحابه وأمته أن الجلوس لسماع القرآن الكريم عبادة وأي عبادة. ولذلك أجابه عليه الصلاة والسلام: (إني أحب أن أسمعه من غيري). فالمستمع للقرآن يجعل من سمعه نافذة ينفذ منها نور القرآن الكريم إلى القلبِ، واللسانُ والعقلُ غير مشغولين بأحكام التلاوة ولا بضبط الحفظ ولا بالتركيز مع المتشابهات، ولا بمقاومة الشرود الذي ينتاب القارئ من المصحف… لأنه يلقي بكلّيته في تأمل معاني القرآن وأسراره وتدبر آياته، فيحدث ذلك خشوعا وبكاء وتأثرا لاسيما إذا كان القارئ حسن الصوت متقنا لصنعة التجويد. ولذلك لما وصل سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه إلى قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان 5. ومن الفوائد التي ذكرها النووي رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث: “استحبابُ استماعِ القراءة، والإصغاء لها، والبكاء عندها، وتدبُّرِها، واستحبابُ طلبِ القراءةِ من غَيرِه لِيستَمِعَ له، وهو أبلغُ في التفهم، والتدبر من قراءته بِنَفْسِه، وفيه تَواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم” 6.
إن سماع القرآن الكريم يجعل القلب يتأثر فتفيض العين معبرة عن الرحمة التي غشيت القلب. وهذه إحدى غايات استماع القرآن، قال الليث: “ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن، لقول الله جل ذكره: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون“ 7. وقال الإمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والانصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن سماعه. وأما الاستماع له فهو أن يلقي سمعه ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تلي عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.
ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة، وغيرها”.
وقد ربط الله تعالى بين الاستماع للقرآن الكريم وزيادة الإيمان؛ قال جل شأنه: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا 8. وهو سبب للخشوع والبكاء، قال تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين 9، وقال عز من قائل: قل آمنوا به أو لا تومنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا 10.
فهنيئا لمن اقتطع من يومه وليلته وقتا يجلس فيه لسماع القرآن الكريم ممن يحبّرونه تحبيرا. قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “على أن نتدرج بالركب الإسلامي جميعه إلى السماع الإحساني، وهو الاستماع والإنصات إلى كتاب الله عز وجل يُتلى، ويُرتل، ويُجوَّد، ويتغنَّى به المومنون، من الاستغناء به عن غيره، ومن الغنة وتحسين الصوت” 11.