يحل شهر رجب الحرام حاملا ريحا طيبا تبشرنا وتذكرنا بقرب حلول الضيف الكريم الذي يزورنا مرة في العام؛ شهر رمضان أعظم مواسم الطاعات والبركات والخيرات. شهر رجب خصه الله بفضل عظيم فهو من الأشهر الحرم، ويحمل في ثنايا اسمه معاني التعظيم. هو رجب الفرد، رجب الأصم؛ شهر السلم والأمن الذي ينبغي ألا تسمع فيه قعقعة السلاح، رجب الأصب الذي تصب فيه الرحمات الربانية صبا على من تحراها وتعرض لنفحات الله فيها.
ويتساءل البعض عادة عن الأعمال الصالحة التي ينبغي القيام بها في هذا الشهر. وإذا كانت الأحاديث الواردة حول فضل هذا الشهر تنقسم بين أحاديث ضعيفة جدا أو موضوعة، فإنه لا اختلاف على أنه من الأشهر الحرم التي شرفها الله وفضلها على باقي شهور السنة، وكفاه بذلك فخرا، في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ (التوبة، 36).
وتعظيما لما عظمه الله؛ نعظم بدورنا هذه الشهور التي حرم فيها القتال، إلا دفاعا عن النفس، ويضاعف فيها أجر وثواب الطاعات والأعمال الصالحة، بالموازاة مع مضاعفة إثم وعقاب المعاصي والأعمال السيئة، خاصة الظلم، بقوله تعالى في نفس الآية فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ. قال قتادة في تفسير ذلك: “الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء”.
فبدل التركيز على أعمال صالحة قد يختص بها رجب، ينبغي بالأحرى الانتباه للأعمال السيئة التي تؤدي إلى ظلم النفس، وأكبر ظلم للنفس عدم تزكيتها وحرمانها من معرفة خالقها والاتصال به والسعي لنيل مقامات القرب منه. كما أن ظلم الغير قريبا كان أو بعيدا بمختلف أشكال الظلم هو ظلم لنفس الظالم أولا وقبل كل شيء.
هي إذن دعوة في هذا الشهر للوقوف مع الذات ومحاسبة النفس ورد المظالم وتفقد حال القلوب وإصلاحها تمهيدا لاستقبال أنوار سيد الشهور، إذ الاستعداد القلبي أهم وأعظم استعداد. فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” (متفق عليه).
ففي شهر رجب، يركز المؤمن الفطن على هذه المضغة التي حولها مدار العمل كله، خاصة بإحياء عبادة التعظيم، إذ إن دلالات هذا الشهر نستقيها أولا من معناه اللغوي؛ فرجب من الترجيب، والترجيب هو التعظيم. فهو شهر يلفت انتباهنا إلى هذه العبادة القلبية المنسية أو المجهولة لدى أغلب المسلمين، بكل ما تحمل كلمة تعظيم من معاني التوقير والإجلال والاحترام والعلو.
وأعظم من نعظم الله عز وجل، فهو العظيم وأمر عباده بتعظيمه في قوله تعالى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (الواقعة، 96). ويختص سبحانه بالعظمة الكاملة التامة، ومن نازعه فيها من جبابرة فجزاؤه جهنم، إذ يقول عز وجل في الحديث القدسي “الكبرياء رِدائِي، والعَظمةُ إِزارِي، فمَنْ نازعَنِي واحِدًا مِنهُما قذَفْتُهُ في النارِ” (صحيح أبي داود).
وينبثق تعظيم الله من الاعتقاد الراسخ في القلب بأن الله تعالى عظيم في ذاته وأسمائه وصفاته، وملكه وسلطانه، وفي ما خلق من مخلوقات، بما يترتب عن ذلك من العبودية الخالصة لله عز وجل، وتقديم العبد المؤمن محبة الله على ما سواه، والانكسار والذل ودوام الوقوف ببابه، وإلحاح الطلب، والصبر والرضا، واليقين، وحسن الأدب مع الرب الخالق، وذكره الدائم، وذكر وشكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
ويجمع ذلك كله المعنى القلبي للإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”؛ أولهما مقام مشاهدة؛ أن ترى الله في كل شيء. والثاني مقام مراقبة؛ تستحضر فيه أن الله يراك في كل حين. فتعظيم الله من أجلّ العبادات القلبية، وهو جوهر السلوك والعبادة التي خلق الله الخلق لأجلها وأرسل الرسل لتحقيقها.
ومن تعظيم الله؛ تعظيم شعائر الله بمعناها الواسع الذي يشمل كل ما يدل على الله ودينه من عبادات وأعمال وقربات. وتعظيم الشعيرة ليس مجرد أداء حركات وأعمال ظاهرة، بل هو إقبال قلبي كلي على أداء الطاعة عن طيب نفس وحب وصدق وشكرا لله عز وجل، وذلك روح الخشوع في كل العبادات، وعلى رأسها الصلاة: سبحان ربي العظيم.
ويورث تعظيم شعائر الله حصول التقوى في القلوب لقوله تعالى: ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج، 32)، فيظهر أثر ذلك في السلوك والمعاملات وتزكية النفس، فيكف الفرد بذلك عن ظلم النفس الذي عظم الله من وزره في الأشهر الحرم.
ومن تعظيم الله يأتي تعظيم كلامه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيعظم المؤمن القرآن الكريم بالعكوف عليه تلاوة وحفظا وتدبرا وامتثالا لأوامره واجتنابا لنواهيه، وسعيا لأداء أمانة الاستخلاف في الأرض المنوطة بالإنسان وإقامة دولة القرآن أولا في القلب ثم على الأرض.
ولا يكتمل إيمان المؤمن إلا بتعظيم من عظمه الله وأمر بتعظيمه؛ حبيبه وصفوة خلقه وخاتم أنبيائه وسيد ولد آدم الذي رفع تعالى له ذكره سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم، 4). ونعظمه صلى الله عليه وسلم استجابة لقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (الفتح، 8-9)، حيث ذكر عز وجل حقا خاصا به تعالى وهو التسبيح وحقا خاصا برسوله صلى الله عليه وسلم وهو التعزير (النصرة) والتوقير (التعظيم).
وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي محبته، والتأدب معه، ومعرفة شمائله وسيرته، وتعلم واتباع سنته الكاملة، والتخلق بأخلاقه الظاهرة والباطنة، وتلاوة أحاديثه الشريفة، والتفقه فيها، والإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بحضور قلبي وتعظيم كبير لمقام من نصلي عليه.
ومن تعظيم الله تعظيم خلق الله؛ فيعظم المؤمنون بعضهم البعض تقديرا وإكبارا وإجلالا ومحبة وخدمة وغضا للطرف عن العيوب لتقوى وتتماسك الجماعة المؤمنة الساعية لإقامة دين الله في الأرض. ولأن حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة، فإن تعظيم حرمته تقتضي في وقتنا الراهن الغضب لانتهاك حرمات إخواننا في فلسطين وما يتعرضون له من أشكال الإبادة الجماعية الممنهجة؛ بإراقة دماء وتجويع وتشريد وتهجير على يد الصهاينة الغاصبين، وبذل أقصى الجهد في واجب نصرتهم بجميع الوسائل الممكنة.
ومن تعظيم خلق الله أيضا الرحمة والشفقة بهم، والحرص على دعوتهم لله ولمعرفة الله عز وجل وهدايتهم للخير، وتذكيرهم بالآخرة. فالدعوة إلى الله وظيفة الرسل والأنبياء، وتبليغ الدعوة أشد ما يكون إلحاحا في زمن الفتنة التي تعيشها الأمة ولإنقاذ الإنسانية من براثن الجاهلية المعاصرة.
وليستشعر القلب معاني التعظيم فتستقر فيه لا بد أن يكون قلبا سليما ينفذ إليه نور الإيمان، ولا سبيل لذلك إلا بالإكثار من ذكر الله، وأفضل الذكر الكلمة الطيبة “لا إله إلا الله” التي تلخص معنى تعظيم الله وتوحيده، ويتجدد بها الإيمان في القلوب، إضافة إلى تنوير القلب بالصلاة على النبي الأعظم، والإكثار من الاستغفار والدعاء أن يعيننا الله على ذكره وشكره وحسن عبادته وتعظيمه.
ولمن فاتته هذه الأسرار والدلالات التي يحملها شهر رجب في طياته، فهذا ذو النون المصري رحمه الله يقول: “رجب شهر الزرع، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد، وكل يحصد ما زرع ويجزى ما صنع”. وخير ما نزرع ونتعهد معاني التعظيم والعبودية الحقة في قلوبنا، أوعية الإيمان التي ستغرف من خيرات ورحمات وبركات رمضان على قدر سلامتها وصفائها واستقرار معاني تعظيم الله تعالى فيها.
اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان.