وانا أتجول ببستان الأديب مصطفى صادق الرافعي رحمة الله عليه أتذوق أطايب الكلام من حدائق ابداعاته وأتلذذ بنفحات ثمارها التي تعكس كنه المصطلحات وعمقها، فتسرح بخيالك الواسع وسط روعة المشاهد وجمالها فتننقلك من سطحية السطور لجوهر ما بين السطور، فتعيش الحقيقة النورانية في أبهى حللها كما أرادها صاحبها.
ومع أننا على مشارف العيد نقف مع أبدع اللوحات الفنية التي رسمها الأديب رحمة الله عليه لحقيقة العيد فلونها بألوان الطيف التي تعكسها براءة الأطفال وفرحتهم في هذا اليوم.
يقول رحمه الله:
جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم.
زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس؛ ليكون لهم بين الحين والحين يوما طبيعيا في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.
يوم السلام، والبشر, والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير.
يوم الثياب الجديدة على الكل؛ إشعارًا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم.
يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعًا في يوم حب.
يوم العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلو الكلمات فيه.
يوم تعم فيه الناس ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة.
وخرجتُ أجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء.
على هذه الوجوه النضرة التي كبِرَت فيها ابتسامات الرضاع فصارت ضحكات.
على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياسًا للزمن إلا بالسرور.
هؤلاء المجتمعون في ثيابهم الجديدة المصبَّغة اجتماع قوس قزح في ألوانه.
هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقد.
قانعون يكتفون بالتمرة، ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها.
ويعرفون كُنْهَ الحقيقة، وهي أن العبرة بروح النعمة لا بمقدارها.
هؤلاء الفلاسفة الذين تقوم فلسفتهم على قاعدة عملية، وهي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة.
فالطفل يقلب عينيه في نساء كثيرات، ولكن أمه هي أجملهن وإن كانت شوهاء.
فأمه وحدها هي أم قلبه، ثم لا معنى للكثرة في هذا القلب.
هذا هو السر؛ خذوه أيها الحكماء عن الطفل الصغير!
أيها الناس، انطلقوا في الدنيا انطلاق الأطفال يوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة، لا كما تصنعون إذ تنطلقون انطلاق الوحش يوجد حقيقته المفترسة.
أحرار حرية نشاط الكون ينبعث كالفوضى، ولكن في أدق النواميس.
يثيرون السخط بالضجيج والحركة، فيكونون مع الناس على خلاف؛ لأنهم على وفاق مع الطبيعة.
وتحتدم بينهم المعارك، ولكن لا تتحطم فيها إلا اللعب.
أما الكبار فيصنعون المدفع الضخم من الحديد، للجسم اللين من العظم.
لا يفرح أطفال الدار كفرحهم بطفل يولد؛ فهم يستقبلونه كأنه محتاج إلى عقولهم الصغيرة.
وكذلك تحمل السنة ثم تلد للأطفال يوم العيد؛ فيستقبلونه كأنه محتاج إلى لهوهم الطبيعي، ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر العالم لقربهم من هذا السر.
فيا أسفا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن سر الخلق بآثام العمر! يا أسفا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن حقيقة الفرح! تكاد آثامنا -والله- تجعل لنا في كل فرحة خَجْلَة.
أيتها الرياض المنورة بأزهارها،
أيتها الطيور المغردة بألحانها،
أيتها الأشجار المصفقة بأغصانها،
أيتها النجوم المتلألئة بالنور الدائم،
أنتِ شتى؛ ولكنكِ جميعًا في هؤلاء الأطفال يوم العيد!
من كتاب وحي القلم
ملحوظة: اجتلاء العيد للأديب في أربع صفحات حاولت الاستغناء عن بعضها للطرح المقتضب.