مقدمة
شرع الله عز وجل الإسلام ليكون منهج بشرية ينظم أحوال دنياها وأخراها، وجعله خاتمة الشرائع والأديان فكانت خاصيته الشمولية لكل زمان ومكان تحقيقا لمقتضى الآية الكريمة: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (سورة المائدة، الآية 4).
إن تناهي النصوص الشرعية ولا تناهي قضايا البشرية استدعى إعمال النظر في تلك النصوص المعدودة، وفق منهاج استنباط مكن إدخال ما جد من تصرفات الناس ومعاملاتهم وعلاقاتهم غير المعدودة تحت حكم الله تعالى، ولولا مرونة الشريعة ما كان لها أن تسود بسرعة حياة شعوب متنوعة المشارب والعادات، هذه المرونة التي من رحمها خرج علم الاجتهاد.
ميلاد الاجتهاد
لقد عرف الصحابة الكرام أهمية الاجتهاد ومحوريته في استمرار حركية الدعوة إلى الله عز وجل، ولا أدل على ذلك من حديث الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد إرساله إلى اليمن: “كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله على صدري وقال: أحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله”.
وهكذا مارس الصحابة الكرام الاجتهاد ورسول الله المعصوم بين أيديهم، بقلوب تغشاها الخشية من الله لكن بعقول متفتحة ومتنورة.
ففي غزوة بدر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنزول عند أدنى ماء من بدر فسأله الخباب بن المنذر رضي الله عنه: “أهذا منزل أنزلك الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة..”، فأشار عليه الخباب بتحويل المنزل، وأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ رأي الصحابي النبيه.
نعم لقد كانت مجالات الاجتهاد محدودة فيما دون مقام التشريع، لكن هذا يعكس بشكل جلي وواضح المناخ العام الذي كان سائدا، مناخ متخم بحرية المبادرة والإبداع، وذلك من أجل تحقيق مشاركة فعلية في حمل الرسالة، كما يكشف عن حجم الثقة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدرة أصحابه على الحفاظ على روحها وجوهرها رغم خطئهم، ألم يخبرهم صلى الله عليه وسلم “أنه إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد”.
لقد حافظ الصحابة الكرام من بعده على هذه الأرضية الخصبة التي نما فيها الاجتهاد وترعرع، رغم هبوب رياح الفتنة السياسية التي عصفت بالأمة إلى أن هزت كيانها بانقلاب الخلافة ملكا عاضا؛ كمم الأفواه الناطقة بالحق وشل العقول وعطل الإرادات.
الاجتهاد والانكسار التاريخي
تثاقلت شيئا فشيئا وتيرة الحركة الاجتهادية للمسلمين ولا نقول توقفت، وذلك “تحت رادعين اثنين، ضغط السلطان الحاكم بأمره وبعد المفتي والقاضي عن المشهد العام”. (1).
فكان النتاج اجتهادا مجزأ، ومعه ضياع للنظرة الشمولية وإغراق في تفريعات لا متناهية حيث: “أصبح الفقه فرديا، وهو لا يرى في الإمكان أبدع مما كان ومما هو كائن، فلا حاجة للتفسير وطلب التغيير. انطوى الفقه تحت طائلة السيف وخضع له وهو لا يمضي إلا حيث ينتهي الحاكم” (2).
فقه غزير من حيث الكم يطبعه عدم التوازن والتكامل في القضايا المطروحة، إفراط في فقه العبادات والمعاملات الفردية وتفريط في فقه التغيير والمنهاج، هذا دون أن ننسى ما أصاب فقه المرأة من انحباس.
وإن كان من الإنصاف أن نشيد بما خلفه علماؤنا الأفذاذ من ثروة فقهية، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين موضحا نفاسة هذا الكنز الثمين ومبينا ما يزال ينتظر الأمة وعلماءها من نية وحركة واجتهاد وجهاد حتى يتسنى لنا الاغتراف من ينابيع هذا المعين الصافي، فينتفع به العباد: “فإن ما ورثناه عن سلفنا الصالح من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة الأهمية. ما قننوه رضي الله عنهم من أسس في علم التعديل والتجريح وأصول الفقه وفروعه وأصول الدين وعلم السلوك باق رهن إشارتنا، باق في تجزئته و بعثرته… تراث مبعثر مكسر، شذراته اللماعة لا تزال صالحة للانتفاع في سياق تجدد في النيات والحركة والجهاد” (3).
ثم يدعو في رسالته العلمية للاستفادة من آلة الاجتهاد باعتبارها آلة منهاجية تركها لنا سلفنا الصالح حتى تعالج ما استجد في عالم الناس وطرأ لهم مما عصي عنهم، ولأن في حصيلة فقه من سبقنا بإيمان وعلم ثروة جليلة، يقول: “ثم إن الآلة المنهاجية التي اعتدها لنا علماء السلف الصالح، آلة الاجتهاد، آلة علم أصول الفقه، لهي أساس عقلي بعد الأصلين النقليين لا نكون إلا مبذرين سفهاء إن لم نعتمد على المتين منه، وإن لم نكمل ونؤصل للمستحدث من القضايا والظروف قياسا والتماسا واستئناسا. وإن في معاهد العلم في عصرنا لاجتهادات مهمة، نطلع ونعد المجتهد المفتي والباحث في ميادين السياسة والاقتصاد وما يحدثه الناس من فجور تقتضي أن تحدث لهم عليها أحكام. و في حصيلة فقه من سبقنا بإيمان وعلم ثروة” (4).
الموروث الفقهي بين الإعمال والإهمال
فكيف يجب أن يكون تعاملنا مع اجتهادات من سبقونا بالإيمان؟
أو “ما معنى ألا نردد كلام السلف الصالح وأن لا نجتر خطابهم واجتهادهم؟ ما معنى أن لا نعيش عالة عليهم نفكر بعقولهم بظروف غير ظروفهم؟” (5).
في هذا الإطار يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “إن الذين اجتهدوا قبلنا كانوا يدافعون عن قضايا ربما تكون الآن اندثرت، كانوا يتفاعلون مع واقعهم بنيات معينة بوسائلهم الممكنة لأهداف معينة، كانوا يجتهدون في نسبية تضع اجتهادهم ومواضيعه في الزمان والمكان والأهمية” (6).
مثاله شروط الاجتهاد والمجتهد التي جمعها علماؤنا من قبل كانت تتماشى مع الموسوعية التي كانت تطبع شخصياتهم، أما الآن فالغالب هو التخصص، لهذا ينادي الجميع بالاجتهاد الجماعي.
“فاللازم منا أن نقوم لنجمع باجتهادنا شتات العلم متخطين كل التجزيئات وكل الأفكار والاجتهادات والمواقف النسبية المظروفة بظروفها التاريخية، نعيد كل اجتهاد سابق إلى نصابه، نعرضه في حدود نسبيته على النموذج النبوي الكامل الذي طبق كلمة الله” (7).
ولا أدل على ذلك من التقسيم الذي اعتمده العلماء المعروف بدار الكفر ودار الإسلام، فهذا الأمر كان رهينا بظرفية تاريخية وسياسية معينة، أما وقد انقسمت الأمة وأصبحت الغلبة لغير المسلمين، فمطلب التجديد يستدعي منا أن ننظر إلى الآخر بأنه أمة دعوة ونحن أمة استجابة.
“نكون منهاجيين إن نحن جعلنا تحت أيدينا الفقه الموروث المجزأ نخاطبه ونحاوره ونسائله وننتقده ونستفيد منه حسب ما نجد عنده أو لا نجد من خبر أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد الموفق المعصوم. وخلاصة القول إن قراءة الكتاب والسنة من جانب واحد ومن أسافل التقليد وعبر منظار من عاش في زمانه ومكانه وأحواله ومات، ما هي القراءة الصحيحة، وإن الاعتصام بزيد وعمرو ممن مضى ومات وقبر ما هو الاعتصام بالكتاب والسنة، وإنما هو اعتصام بمجتهد أخطأ وأصاب” (8).
إن الاجتهاد المطلوب كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي هو اجتهاد انتقائي وآخر إنشائي.
ويشرح الانتقائي بقوله: “إنما الذي ندعو إليه هنا أن نوازن بين الأقوال بعضها وبعض ونراجع ما استندت إليه من أدلة نصية أو اجتهادية لنختار في النهاية ما نراه أقوى حجة وأرجح دليلا وفق معايير الترجيح وهي كثيرة، ومنها أن يكون القول أليق بأهل زماننا وأرفق بالناس وأقرب إلى يسر الشريعة وأولى بتحقيق مقاصد الشريعة وأولى بتحقيق مقاصد الشارع” (9).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] الأستاذ عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 2، ص 93 – 94.
[2] محمد طهير الإدريسي، معالم التغيير في نظام الإسلام، ص 64.
[3] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، ص 17.
[4] المصدر نفسه، ص 15.
[5] الأستاذ عبد السلام ياسين، الرسالة العلمية، ص 13.
[6] نظرات في الفقه والتاريخ، م. س، ص 23.
[7] المصدر نفسه، ص 17.
[8] تنوير المؤمنات، م. س، ج 1، ص 282.
[9] الدكتور يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص 115.