من يحلم أن يسود الإنسانيةَ هناءٌ وصفاءٌ لا تكدرهما أطماعٌ ولا اعتداءات، وأن يعمَّها إيثارٌ وصدق فلا يتخللهما جشع وأنانية ولا كذب ونفاق، فإنما يحلم بجنة مستحيلة على أرض الدنيا، ومع ذلك فالإنسان مأمور ومكلف شرعا وعقلا بمدافعة السوء ومغالبة العدوان والعمل لإحلال الخير محل الشر وإقرارِ العدل محل الظلم قدر المستطاع.
في قصة موسى وفرعون التي ذكرها رب العزة مرات عديدة في القرآن الكريم بيان ناصع للكذب على بني إسرائيل واستغبائهم والاستخفاف بهم، قال عز وجل في سورة غافر على لسان فرعون مخاطبا قومه كاذبا عليهم: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد 1 ، وذكر تعالى قبل ذلك دعاية فرعونية مغرضة ترمي لصناعة رأي عام يؤيد محاربة دعوة موسى عليه السلام: وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد 2 ، وما كانت خدع فرعون لتنطلي إلا على قوم لهم في الأصل قابلية لذلك الاستخفاف، قال سبحانه وتعالى: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين 3 .
ما كان هذا السلوك الفرعوني إلا لتبليد حس بني إسرائيل خوفا من الصحوة والانتباه من النوم والغفلة، ولأجل الحفاظ على امتيازات الترف والملك والعلو في الأرض بغير حق.
ولعل من حِكم البارئ جل وعلا في هذه القصة تكرار شبيهاتها على مر العصور والأزمان في أحضان مختلف المجتمعات والحضارات البشرية، لاحظوا دعاية الولايات المتحدة الأمريكية لشعوبها ولشعوب العالم كلما أرادت تبرير شن الحروب على أعدائها، هل كانت دعاية أمريكا أو دعاية كافة القوى الاستعمارية تقل عن دعاية فرعون، لنتذكر حالتين على سبيل المثال لا الحصر، أولاهما أكذوبة محاربة الإرهاب، كيف تم التمهيد لغزو أفغانستان لمآرب خسيسة أخرى تحت ذريعة محاربة الإرهاب، رجل الشارع الأمريكي في غفلة عما يدبره فراعنة البيت الأبيض لتحقيق ما تقتضيه أطماعهم ومصالح شركاتهم العابرة للقارات، وهو في غفلة عما تسوِّق له ملءَ سمعِه وبصره وسائلُ الإعلام الجبارة، ثانيهما أكذوبة خطر الرئيس صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل في العراق، تأمل أخي اللبيب كيف روج دُهاة ساسة البيت الأبيض لضرورة مواجهة هذه الأخطار خارج حدود البلاد بالجنود والطائرات المُقنبلة قبل الاضطرار إلى معالجة ضحايا الدمار، القادم لا محالة، داخل البلاد بالأطباء وسيارات الإسعاف! و بذلك تم استجلاب التأييد الشعبي لشن العدوان على العراق قبل أن تنكشف الخدع و الترهات الرسمية، خدعُ البيت الأبيض لم تنطلِ على الشارع الأمريكي فحسب، بل تعدته إلى دول “متحضرة” أتت لنيل النصيب من كعكة النفط والغاز، وسيقت بعض الدول المتأسلمة التابعة الجبانة، فشاركت في المشروع القذر لسحق بلاد العراق وشعب العراق وحضارة العراق! آهٍ على العراق، آهٍ آه! لا دين ولا خلق ولا ضمير يكبح جشع بوش وأطماع زملاء بوش المجرمين، لكن ماذا تملك دولنا هذه الذليلة إزاء جبروت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو؟ طبعا لا تملك سوى الطاعة والتزلف خوفا وطمعا، والاصطفاف إلى جانب القوة الغالبة والاحتماء بها حفاظا على الكراسي و العروش المتململة، فهي تحت رحمة الخيار التهديدي: من ليس معنا فهو ضدنا)! ومن ليس معنا فهو مع الإرهاب)!. أكيد أنه لا يحتسي زقوم مثل هذه المذلة إلا من لا يخاف الله ولا يتقيه، وربنا تبارك وتعالى يقول: فلا تخشوهم واخشوني ويقول سبحانه: فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ومعلوم في ديننا الحنيف وفي الأثر الشريف أن من لم يخف الله أخافه الله من كل شيء، أنظمة استبدادية بمسوح “إسلامية” لا يقين لها بالله جل جلاله، ولا التزام بمقتضيات الطاعة والنهي، ولا ثقة بالنصر والموعود، ثم هي لا تستند إلى ركن ركين من الشعوب، بلغ حكام الجور والجبر فينا أسفل دركات الخزي والعار عندما انخرطوا إلى جانب الأمريكان في هذه الطوام رغم أنف الأمة الأسيرة الثائرة.
اُنظر أي حد بلغه استخفاف الإعلام بالشعوب الأمريكية وغيرها وبساسة الدول، سيل جارف ذكي من المشاهد السمعية البصرية يغزو الكثير من العقول النبيهة فما بالك بالغبية حتى الثمالة، إلى أن انقلبت عندها الحقائق رأسا على عقب!
أهمية الإعلام وخطورته في صناعة رأي عام، إيجابا أو سلبا، عبر عنها أحد المفكرين المنظرين اليابانيين عندما قال ما مفاده: أعطوني قناة إعلامية أصنع لكم شعبا)!
في الأوساط الشعبية الأوروبية يصور إعلام الاستغباء والاستبلاد حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وغيرها من فصائل المقاومة الشرعية في بلد محتل مظلوم بكونها إرهابا ينبغي أن يُناهَض وأن يُدان، في الوقت الذي يزين للعالم صورة الدولة العبرية المقامة على جثث أهالي فلسطين، وعلى أنقاض مدنهم وقراهم التي دمرتها العصابات الصهيونية المرسلة المسلحة المدربة من طرف بريطانيا، وعلى حقول أشجار زيتونهم المجتثة، دولة عنصرية صهيونية أضحت بتأييد الغرب الصليبي وسلاحه مصاصة دماء الأطفال والأبرياء، فترى الإعلام الماكر المغرض الذي يتحكم فيه اليهود يستغبي شعوب القارة العجوز، ويُبْدي للبلداء والأغبياء زوراً وبهتاناً شرعية الكيان الهمجي المسمى “إسرائيل”، ويزعم مظلومية شعب إسرائيل “المسكين” الذي يتعرض “للعدوان” فوجب أن يُـناصَر وأن يُعان!
هكذا يتم صناعة رأي عام عالمي، شعوب، بل وأنظمة، يُكذب عليها وهي لا تدري، وتساق إلى حيث تنتهي مصلحة ثلة من الفراعنة المفسدين في العالم، لا يخرق ذلكم الرأي العام الجاثم ولا يخترقه إلا صيحات هنا وهناك من ذوي الضمائر الحية النظيفة والفطرة النقية النبيهة من أفراد وهيئات، لكن ومع الأسف، كثيرا من تكون نداءاتهم بمثابة صرخة في واد، فـنَصيبُ المستضعفين من هذا السلاح الفتاك لا يعدو نصيبَ الأيتام في مأدبة اللئام.
لحساب من وعلى حساب من يتم تزوير حقائق التاريخ والكذب على الشعوب وصناعة رأي عام ضال مضل؟ لقد أشرتُ من قبل إلى قصة موسى وفرعون، يذكر فيها ربنا في كتابه العزيز ما حدث للمستضعفين من بني إسرائيل، يذكر حسن مآل الصابرين مع سيدنا موسى عليه السلام ونجاتهم من الغرق، وسوء عاقبة أتباع فرعون، ومن استخفهم فأطاعوه حتى هلك وهلكوا معه، إنهم كانوا قوما فاسقين، تلك من أحسن القصص التي يقصها رب العزة على عباده المؤمنين، فهي تعاد باستمرار، تتغير شخصياتها كل حين بتغير الزمان والمكان دون تغير جوهرها، وتجسد الصراع الأبدي بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم، بين الاستكبار والاستضعاف، فمن خلال مفاتيح القصة الربانية إذن نفهم في تاريخنا، وفي حاضرنا ومستقبلنا من يستغبي من، وما غاية الاستغباء، والعاقبة للمتقين.