طلب العدل مناهضة للظلم
العدل دعوةُ إنصاف وقسط، وإعطاء من غير جور أو إفراط أو تفريط، وهو كذلك وضع الأمور الصحيحة السليمة وتسويتها في المكان الصحيح السليم السوي، وهو فعل لا يقوم به إلا من كان عدلا صحيحا سليما سويا، ظاهرا وباطنا، وإلا حكم عليه بالسفه والخرف، لذلك قيل في لسان العرب: العدل “ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور” [1].
وقد يفهم أن العدل له ارتباط فقط بالحكم والقضاء، والقسمة السوية في الأرزاق، وعدم الشطط في استعمال السلطة في السراء والضراء، لكنه في الحقيقة يستغرق جميع مناحي الحياة، داخل البيت وخارجه وفي الوظيفة والشارع، بل هو عدل مع الرب والنفس والغير، وهذا ما يقره الحديث: فعن “عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ”، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: “فَلَا تَفْعَلْ، قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا” [2].
وقد ورد المعنى نفسه في حوار بين سلمان الفارسي وأخيه أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال أبو جحيفة: “آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان” [3].
طلب العدل إعمار للأرض
إن طلب العدل في الحياة العامة للناس، هو من صميم الاهتمام بأمر المستضعفين ونصرة المظلومين وإرشادهم إلى الحق والواجب، فإن ذلك لمن شأنه أن يسهل على المكلف فهم التكليف والتكاليف، وفهم الحق والواجب، وفهم الحرية وحدودها التي تستثقلها النفوس جهلا أو خوفا.
إلا أننا إذا أنزلنا هذه المعاني الجامعة في عصرنا فقد تصبح “فيه قسمة الأرزاق وإنتاجها وتمويل عملية التنمية وتنظيم ذلك تحديا قاتلا في وجه الأمة” [4]، بل يتقرر لدى كل متفحص أن مطلب العدل وإحقاق الحقوق ومناهضة الظلم وإعمار الأرض في واقع الناس اليوم واجب لا يسقط مهما تناسلت المبررات [5].
لذلك، كان من العدل أن يحيا كل مواطن عزيزا كريما آمنا في سربه، له قوت يومه، آمنا على دينه ووظيفته وبيته وأسرته في حله وترحاله، بشكل عام؛ التنعم بالاستقرار الأسري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ومن العدل كذلك، أن يكون لك بيت يؤويك وزوجة تسكن إليها وتسكن إليك، وأن تستفيد من خيرات بلادك التي تُبعثر على القينات في البر والبحر، وفي الليل والنهار. بل من العدل أن تتمتع بمناظر بلادك وتسافر وتتنقل بكل حرية دون قيد أو شرط، ومن العدل أن يكون تكافؤ الفرص وسيلة لاكتشاف الطاقات وحسن استثمارها في الرقي بالوطن.
بل بات من العدل أن تفك الرقاب، رقاب الناس، ويعلموا جميعا أنهم ليسوا في ضيعة أحد بل في أرضهم ووطنهم الذي يتسع للجميع، وهذا وعد إلهي.
يقول الله عز وجل: فَلَا اقْتَحَمَ اَلْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْريٰكَ مَا اَلْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ اَوِ اِطْعَام في يَوْم ذِي مَسْغَبَة يَتِيما ذَا مَقْرَبَةٍ اَوْ مِسْكِينا ذَا مَتْرَبَة [6].
اقتحام عقبة تحرير الأنفس، ثم تحرير الإنسان من العبودية لغير الله، إذ لا يتم الإعمار والإنسان عبد لشهواته، وعبد للطواغيت بكل تلاوينها وتصانيفها في عصرنا، ولا يتم الإعمار والثروات بأيدي المترفين يشترون بها دين وذمم العباد.
وإن لم يكن شيء من هذا؛ “فالعدل” حكر على المستكبرين في الأرض، والموت بالجملة عند أبواب المستشفيات وفي المداشر والطرقات والضيعات والبحار والمحيطات واقع ونصيب المستضعفين.
العدل مشروع مجتمع
المشروع المجتمعي هو “عبارة عن نسق من التصورات التأسيسية حول الإنسان والكون وما يرتبطان به من وجود وحرية ومصير … وتنتج عن هذه التصورات التأسيسية أفكار قابلة للتطبيق في مختلف المجالات” [7].
وهو نسق تحتضنه مؤسسة اجتماعية تهدف إحداث تغييرات.
ومن خصائص هذا المشروع:
أولا: الشمولية: يتضمن تصورات تأسيسية حول الإنسان وعلاقاته الأفقية والعمودية انطلاقا من مرجعية واحدة.
ثانيا: التغيير الجذري لا الإصلاح.
ثالثا: القابلية للتطبيق وليس ترفا فكريا.
رابعا: المستقبلية: فهو مشروع فإذا طبق أصبح نظاما اجتماعيا. [8]
فبناء على هذا الطرح، لا يمكن نشر قيم العدل بين الناس إلا عن طريق مشروع مجتمعي متكامل، يجمع بين الغايتين الإحسانية والاستخلافية، بين الخلاصين الفردي والجماعي، مشروع مجتمعي غايته تعبيد الناس لله.
مشروع مجتمعي لا يغيب عنه أن أذن الجائع لا تسمع إلا مناديا يبشر بالخبز والأمن والمأوى وحقوق الإنسان والمساواة وحق الشغل وغيرها من الحقوق، ويكشف “المصالح الطبقية بين ظهرانينا لتعرف الأمة من أعداؤها” [9]، وسبب تخلفها وفقرها وجوعها وعطشها بين الأمم.
مشروع يقر حقيقة ألا إعمار بدون عدل، والعدل هو الخلاص الجماعي، أو الشأن العام بتعبير العصر، لأن الظلم خراب الأمم، وأن الله لينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
مشروع يضع في الحسبان أن “الاضطهاد في الرزق وفي المقومات الأرضية مقترنا بالاضطهاد في العقيدة والشرع” [10]، وأن رأس مال الإنسان في سلم الأولويات هو عقيدته، هو دينه؛ فحفظ الدين هو البرهان العملي القاطع على صدق الإيمان ثم صدق الاقتحام ثم صدق المحبة، يقول الله تعالى: لَن تَنَالُواْ اُلْبِرَّ حَتَّيٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شيء فَإِنَّ اَللَّهَ بِهِۦ عَلِيم [11]. ومحاب الإنسان: ماله ونفسه وولده.
مشروع يقوم على الرفق، لأن العنف ليس منهجا نبويا، بل إن “إثارة القوة الغضبية للأمة على الظلم والظالمين (تقترن) بالتحكم في تلك القوة وتهذيبها وتربيتها حتى تكون غضبا لله عز وجل صالحة للبناء لا للهدم الفوضوي” [12].
مشروع يعبئ الجميع ليشارك في بناء التركة الخربة على كافة الواجهات، وأهم ضمانات النجاح الشفافية للحالة المادية والسلوكية لأصحاب المشروع في وجه الشعب، وما يتبع ذلك من نزاهة وعدل في توزيع الثروات وخيرات البلاد، ولعل أعظم عدل يجب أن يعلمه الجميع اليوم هو العدل في “قسمة التضحيات إلى جانب العدل في قسمة الأرزاق” [13].
[1] ابن منظور، لسان العرب، م س، باب اللام، فصل العين، مادة عدل، ج: 11، ص: 430.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب حق الضيف، رقم: 6134، واللفظ له. ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا، رقم: 1159.
[3] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم يرَ عليه قضاء إذا كان أوفق له ص: 473، رقم الحديث: 1968.
[4] ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، ص: 77.
[5] إدريس مقبول، سؤال المعنى في فكر عبد السلام ياسين، ص: 135.
[6] سورة البلد، الآيات: 11_16.
[7] محمد منار، الأحزاب المغربية ومسألة المشروع المجتمعي، (مقال الكتروني)،1 أبريل، 2003. https://www.aljamaa.net/ar/666
[8] محمد منار، الأحزاب المغربية ومسألة المشروع المجتمعي، (مقال الكتروني)،1 أبريل، 2003.
[9] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، الطبعة الأولى: 1989م، ص: 40.
[10] ياسين عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم، ص: 393.
[11] سورة آل عمران، الآية: 92.
[12] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 40.
[13] المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، ص: 239.