يقول الحبيب المصصطفى صلوات ربي وسلامه عليه في الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شافعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان صاحبهما، اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة”.
فمن هو يا ترى صاحب القرآن؟
نقول صاحب يصاحب مصاحبة، فالمصاحبة أي الملازمة والمعاشرة والموافقة والمبادلة بين الطرفين المتقابلين، والمصاحبة تحتاج إلى مدة من الزمن للتعارف، وشدة الملازمة للعناية والاهتمام بشأن الصاحب والاقتراب منه، وتتبع أمره فنقول صار صاحبا له.
كي يكون المسلم مصاحبا للقرآن عليه أن ينشئ علاقات ووسائل للتعامل معه: قراءة، واستماعا وإنصاتا، وتلاوة، ومدارسة، ثم تدبرا وتفكرا.
· قراءة: يقول عليه الصلاة والسلام “من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف” رواه الترمذي.
· استماعا وإنصاتا: يقول الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف، 204).
· تلاوة ومدارسة: يقول عليه الصلاة والسلام: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده” صحيح مسلم.
· تدبرا وتفكرا: يقول عز من قائل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (سورة ص، الآية 29).
إذا الصحبة درجة عالية من العلاقة؛ فيها القرب الشديد والمعرفة التامة، فهي ليست مجرد قراءة فحسب، بل هي تدبر وفهم وتقليب لأسراره وغوص في عجائبه ومعرفة خفاياه وحكمه وبديع ما أودع الله سبحانه وتعالى فيه.
إن صحبة القرآن تعني باختصار شديد العيش الصادق مع القرآن، أن يكون لك معه جلسات وخلوات، وقيام به وتهجد، وقراءة له في النهار وتحريك للقلب به. عندما يكون القرآن جليسك إذا خلوت، ودواءك إذا مرضت، يكون له مكان لإنعاش فكرك وإمتاع لروحك وزوال لهمك وحزنك وقناعة تامة وتصديق بأمر الله. في هذه الحالة فقط يمكنك أن تقول أنك بلغت درجة المصاحبة مع القرآن.
لماذا نصاحب القرآن؟
المطلوب منا مصاحبة كتاب الله، نصاحبه لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، نصاحبه محبة، نصاحبه احتراما بحسن تلاوته، نصاحبه تأملا، نصاحبه لأن به يسترشد الحائر، وفيه يبحث السائل، ومنه ينهل الطالب، وبه يغنم وينجو من صاحب وأخذ الكتاب بقوة، نصاحبه لأنه سيشفع لنا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا.
كم عرض علينا المولى عز وجل فيه من مشاهد؛ خاصة منها مشاهد القيامة في جزء الملك والنبأ.. هذا ليس عبثا فكل هذا سيقع، نجد فيه قصصا لمن سبقنا من الأقوام، وقصصا للأنبياءعليهم السلام، نجد فيه كذلك وصفا دقيقا للجنة للترغيب فيها، ولجهنم لتجنبها…
فالمطلوب منا أن نقبل على كتاب الله كما نصحنا بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم، وألا يكون همنا هو آخر السورة أو آخر الجزء أوالختم، فلنتدبر ولنتفكر ولنستشعر ما نقرأ. هذا القرآن سيكون أنيسا لنا في وحشتنا، يدافع عنا، يشفع لنا يوم الوقوف بين يدي الله سبحانه.
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولنا في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة؛ كيف يكون أحدنا مصاحبا للقرآن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، يقوم به بين يدي ربه في جوف الليل تاليا متدبرا، يقرأ السور الطوال، يقف مع الآية يرددها حتى يصبح، يتعوذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة، لأن ذلك أبلغ في التدبر وأحضر للقلب، كما كان يحب أن يسمعه من غيره كما فعل مع ابن مسعود رضي الله عنه وغيره. هكذا هي صحبة القرآن؛ تنويع واستمتاع، سماع، وتدبر، وقيام به، وعيش معه.
تقول الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: كان خلقه القرآن، تبين أنه عليه الصلاة والسلام نال بالوصف الإلهي العظمة والرفعة، لأنه يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، وكانت تعاليم القرآن وآدابه وأوامره ونواهيه تتجلى فيه عليه السلام.
من وصايا الصالحين:
كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله شديد العناية بالقرآن الكريم؛ يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار يستمع وينصت إليه بخشوع وتدبر. كان قرآنيا في دعوته وأخلاقه وفكره وتربيته… بل جعل القرآن محور تفكيره وتنظيره. كان رحمه الله دائم الوصية بالعناية بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وحفظا وتخلقا.
دعوة لمصاحبة كتاب الله:
لعقد العزم على مصاحبة القرآن الكريم خصوصا ونحن نعيش أوائل شهر أحب الشهور وأفضلها؛ شهر له مميزات خاصة، إنه رمضان شهر القرآن، وبما أننا ننشد الإحسان؛ فلنحسن صحبتنا للقرآن في الدنيا ليحسن صحبتنا في الآخرة، لأنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، صحبة تنفعنا يوم نلقى الله، صحبة تأخذ بأيدينا نحو النجاة، صحبة توصلنا إلى أعالي الجنان، صحبة نرى بها وجه الرحيم الرحمن. صحبة تنفعنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، صحبة يوم يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، ذلك لأنك صحبت القرآن.
فاللهم اجعلنا من أصحاب القرآن، واجعله ربيع قلوبنا ونور أبصارنا. آمين والحمد لله رب العالمين.