كثير من الناس يؤمنون إيماناً عقلياً (نظرياً) أنه لا تتحرك ذرة في هذا الوجود إلا بمشيئة الله وتقديره، وأنه: مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ[التغابن: 11] ولحكمة يعلمها وعاقبة خير. لكن هذا الإيمان العقلي قد يصدمه ما يراه الإنسان من حروب وفيضانات وزلازل وأمراض ومجاعات وانتصار الظالمين والمفسدين… فيتّهم الغافلُ أو المستعجلُ حكمةَ الله بالخروج عن مقتضى العدل، وبالإخلال بمقتضى النظام. وقد يرافق هذه التهمة شعور بالظلم أو الإهانة… وقد يصل الأمر إلى الاعتراض على قضاء الله وقدره، وإلى طرح أسئلة مُشكِّكة في العدالة والحكمة الإلهيتين.
ومن أسباب هذا الاعتراض:
محاولة تفسير فعل الله وقدره من خلال ما يعرفه الإنسان من طبيعته البشرية
فالغالب على طبيعة الإنسان ألَّا يعطي متاع الدنيا وجاهها وملذات النفس إلا لمن يحبّ، وألا يعاقب بالأذى والمصائب والحرمان إلا من يكره. وهذا المنطق هو الذي جعل صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف يقول لصاحبه مفتخرا وَلَىِٕن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّی لَأَجِدَنَّ خَیۡرا مِّنۡهَا مُنقَلَبا)[الكهف: 36] والمنقلب هو المكان الذي ينقلب إليه والمرجع والعاقبة، أي أن منقلبه وحاله إِنْ رجع إلى ربه سيكون أفضل مما هو عليه في الدنيا، وذلك لظنه أنّ الله ما أعطاه ذلك الخير الذي (حَرَمَ) منه، في زعمه، الكثيرين إلا لكرامته على الله ومكانته عنده، ولذكائه وحسن تدبيره… ولاستحقاقه لذلك الخير.
وفي مقابل منطق هذا المختال الفخور المبتلى بالخير، هناك مُنكسِر النفس، المبتلى بضيق الدنيا ومصائبها، الذي يقول بكل اعتقاده: رَبِّي أَهَانَنِ[الفجر: 16]، لأنه يفسر قلة حظه من الدنيا بهوانه على الله، ويفسّر المصائب بسوء حظّه، أو بعشوائية الأقدار، أو بما يسمع من الناس حين يقولون: (ما عاقبه الله ذلك العقاب إلا لجرم اقترفه).
وهذا التفسير السطحي يعود في جوهره إلى سببين. الأول هو أن الناس لا يرون إلا المظهر الخارجي للأحداث ونتائجها الآنية، والثاني هو أن الناس يجهلون عواقب الأمور ومآلاتها.
الوقوف عند ظواهر الأحداث
مما يجعل أغلب الناس يعترضون على بعض الأحداث، كمآسي الحروب والزلازل والفيضانات وحوادث السير… والعاهات، أنهم لا يرون إلا ظواهرها، كما لم ير موسى في رحلته التعليمية مع الخضر عليهما السلام إلا خَرْق السفينة، وما استنتجه بمنطقه من تبعات ذلك الفعل، كغرقِ أهل السفينة، وإزهاق أرواحهم.
وحقائق الأحداث، خصوصاً المرتبطة بالموت، لا يطَّلِع عليها الأحياء. والذين يموتون في الحوادث المؤلمة كالحروب والزلازل والفيضانات… لا يعودون إلى الدنيا ليرْوُوا لنا ما رأوا من بواطن الأحداث. ولكن القرآن الكريم ذكر لنا، للاعتبار، قصةً ظاهرها جريمة في غاية البشاعة، لكن حقيقتَها خاتمةُ سعادة أبدية لصاحبها. فالرجل الذي ذُكِر في قوله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ[يس: 20]، نصح قومه فقتلوه شرّ قِتْلة. قيل رجموه بالحجارة، وقيل وثبوا عليه، فوطئوه بأقدامهم حتى مات. بل حتى خرج قُصْبه من دُبُره.
لكن هذا الرجل (الضحية) الذي رأى ما لم يره الآخرون كان له رأي مخالف للحدث فـ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ[يس: 26-27]، وتمنى على الله أن يُعلِم قومه ما عاين من كرامة الله، رغم ما فعلوه به. وما قيل عن هذا الرجل يمكن أن يقال عن كل الشهداء، فقد أخبر رسول الله ﷺ أن الشهيد ما يجد (من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) 1، وأنه يتمنى أن يرجع، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة، ففي حديث صحيح: “ما مِن أحَدٍ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا… غَيْرُ الشَّهِيدِ، فإنَّه يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِما يَرَى مِنَ الكَرامَةِ” 2.
الجهل بحقيقة الأمور وعواقبها
إن الله جعل الدنيا دار امتحان: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك:2]. إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الكهف: 7]. وأنزل لنا القرآن فيه آيات بينات وأخر متشابهات 3، وجعل من صميم هذا الامتحان التباس بعض الحق ببعض الباطل، فجعل أشياء وأحداثا ظاهرها شرٌّ وعاقبتها خير، وأحداث ظاهرها خيرٌ وعاقبتها شرّ. فقال: وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ َّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ [البقرة: 216]. كما قال: فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19].
فالله تقدست حكمته طوى عن خلقه علم حقائق كثير من الأمور وعواقبها امتحاناً لهم. فحين يقرأ الإنسان هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ويستحضر شهرا من الحديث في عرض رسول الله ﷺ، وما وقع في ذلك الشهر، سيعذر موسى ﷺ وهو من أولي العزم على عدم استطاعته الصبر مع الخضر ﷺ لأنه يصعُب تصور الخير في كثير من الشرور. فالسبب في انفعال موسى ﷺ هو أنه كان لا يرى إلا ظاهر الأحداث، أما سكينة الخضر عليه السلام فلأنه كان يعلم حقائق الأمور وعواقبها.
الحكم على الأحداث دون استحضار جزاء الآخرة
إن عدم استحضار الآخرة وجزائها يجعل الغافلَ ينظر إلى المصائب على أنها مجرد عقاب في حين أنه: (ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ) 4. وفي القرآن: لَا یُصِیبُهُمۡ ظَمَأ وَلَا نَصَب وَلَا مَخۡمَصَة فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَطَـُٔونَ مَوۡطِئا یَغِیظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا یَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّ نَّیۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَل صَـٰلِحٌۚ[التوبة: 120].
هذا من حيث (مبدأ التعويض) عن المصائب، أما من حيث مقارنة أضرار المصائب بحسن جزائها فلا مجال للمقارنة. فـ(لَوْ كَانَتِ الدنيا تَعْدِلُ عندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، ما سَقَى كافرًا مِنْها شَرْبَةَ ماءٍ) 5. وفي الحديث: (يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ. ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ) 6.
ما الحل عند نزول الأقدار والمصائب؟
استحضاراً لحقيقة عجز الإنسان عن إدراك حِكم الله في أقداره، ولحقيقة قصور فهمه وتحليله عن ربط الأحداث بعواقبها، يبقى الحل الوحيد أمامه عند نزول الأقدار والمصائب هو: بعد التسليم والرضى، بل بعد الشكر إن استطاع، أن (يَكِل أمر ما أُبْهِمَ على فكره المنطقي إلى ما تجلى لقلبه من حقيقة أن الله أعلم وأحكم) 7. وأن يوقن أن الله تعالى (طوى عن العبد علم حقائق الأمور وعواقبها، وحجب عنه ذلك، فأبقى معه الإيمان بأنه أرحم به من أمه، فلا ينبغي ان يسيء الأدب، فيكره بنفسه ويحب بنفسه). 8
[2] صحيح مسلم.
[3] إشارة إلى الآية : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌۖ) [آل عمران : 7].
[4] رواه البخاري في صحيحه.
[5] رواه الترمذي وصححه.
[6] رواه مسلم في صحيحه.
[7] ياسين، عبد السلام: محنة العقل المسلم، ص 43.
[8] الشعراني: لطائف المنن، ص493.