أولى الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في مشروعه التجديدي اهتماما كبيرا لبناء الأسرة المسلمة؛ لأن في إتقان بنائها استقرار للمجتمع. وقد ركز رحمه الله على ثلاث منطلقات كبرى يتوقف عليها البناء الأسري؛ يتمثل المنطلق الأول في ربط الأسرة بالغاية التي خلق من أجلها الإنسان وهي عبادة الله تعالى، والثاني يتجلى في ربط وظيفة الأسرة بالمقاصد الاستخلافية التي انتدب الله الإنسان لتحقيقها، والثالث يبرز في ربط نظام الأسرة بالمسؤولية التي أوكلها الله للإنسان ليتحملها في الأرض وهي أمانة الإعمار. ومن هذه المنطلقات حدد الإمام رحمه الله صوى الأسرة المؤمنة، وبين الأسس التي يجب أن تقوم عليها، حتى تكون منطلقا للتغيير المنشود.
الأسرة المتماسكة لبنة أساس في المجتمع
يقول الإمام المجدد رحمه الله: “الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح” [1]. ولتحقق هذا الصلاح في الأسرة، سنّ الله دورا للوالدين جعله في قمة المشروع الإلهي الذي انتدب له الإنسان، بحيث أوكل إليهما مهمة تربيـة الأولاد والعمـل علـى تنشـئتهم التنشـئة الصالحـة، عن طريق إعدادهم إعداداً متكاملاً لجميع جوانب شخصيتهم، في جميع مراحل نموها. وهذا يتطلب منهما السعي لتحقيق الصلاح في نفسيهما؛ من خلال الالتزام بأحكام الإسلام في تعاملهما مع نفسيهما ومع غيرهما، وأي قصور في استيعاب الدين أو فهم خاطئ لنصوص الشريعة، وعدم تطبيق حدود الله في كل شؤون الحياة وخاصة في العلاقات الأسرية من شأنه أن ينعكس سلبا على تماسك الأسرة.
فالأسرة هي الضامن الطبيعي لاستمرار النوع البشري، وحفظه بعد خلقه، فهي مبعث لصناعة جيل قوي الذي هو عدة المستقبل وركيزة البناء ودرع الأوطان. وهذا لن يتحقق إلا إذا اكتمل في الوالدين الوعي بهذه المهمة، وتكاملا في أداء وظيفتيهما التربوية. وهذا ما أشار إليه الإمام المجدد رحمه الله في قوله: “إذا لم تُرضع الأم طفلها الإيمان مع الألبان، ولم يَقُدْ الأب خطى أبنائه الأولى إلى المسجد، ولم تُلَقِّن الأسرة كلمة التوحيد للصبي أوّلَ ما يلْهَجُ بالنطق، ولم يُرَدِّدْ معه الأخ والعم والخال آيات الله في غضاضة العمر، ولم تتعهده بالوصية الإيمانية القَرابة والجوار، فقد فاته إبَّان الحرث” [2]. ولضمان تماسك الأسرة وضع الإسلام رسما واضحا لمعالم الأبوة والأمومة، وحدد أسس صناعة الولد الصالح.
الأمومة الصالحة
انتدب الله المرأة لمهمة الحافظية لضمان استمرار الجنس البشري، وهذا ما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “… وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ” [3]. ومن أجل تحقيق هذا المبتغى، أوكل الله إليها مهمة النهوض بالمرحلة الأهم والأخطر من حياة الإنسان، مرحلة وضع اللبنات للشخصية الإنسانية والتي تعتبر من أدق الوظائف في الحياة. ففي السنوات الأولى من عمر الإنسان تتشكل ملامح شخصيته، وتنغرس بذور صفاتها الأساسية. وفي تلك السنوات لا أحد أقرب إلى الطفل وأشد التصاقاً به من الأم، فمن الطبيعي أن ينشدّ إليها. وهذا التعلق هو الذي يجعل بيد الأم أدوات صناعة شخصية الولد. ولقد أشار الإمام إلى أثر الأم العظيم في صلاح الذرية، يقول رحمه الله: “تصاحب الأم نمو المولود، وتراقب حركاته وهو يحبو، وجسمه ينمو، وعقله يتكون، ولسانه ينطلق. لقنيه لا إله إلا الله لتكون أول ما يلفظ به عسى بركتها تجري عليه مدى عمره..” [4].
الأبوة الصالحة
يكتسب حضور الأب في أسرته معناه الحقيقي حين يتجسّد بأبعاده المختلفة، فلا يقتصر على الدعم المادي فقط، بل هناك أبعاد أخرى لا تقل أهمية وشأناً. فالأب مطالب بحضوره المعنويّ الغنيّ بالحبّ، المليء بالقوّة، الحضور الذي يبعث في أفراد أُسرته الثقة ويشيع بينهم الشعور بالأمن والاطمئنان. فالأب “مسؤول عن رعيته يربيها، ويطعمها، ويكسوها، ويحميها، ويقيها نارا وقودها الناس والحجارة بتوجيهها إلى الإيمان” [5]، وما يصلح لهم أمور دنياهم وآخرتهم، حفظا للأمانة التي وكله الله بها. وهذا ما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاه: أَحَفِظَ ذلك أم ضَيَّعَ؟ حتى يُسألَ الرجلُ على أهل بيته” [6].
الولد الصالح
التكثير من النسل مطلوب شرعا، شرط أن يكون العمل الإنجابي صالحا وتكون الكثرة مما يبهج رسولنا في معرض مكاثرة الأمم. لهذا وجب على الوالدين أن يفقها حقيقة الإنجاب وأن يستوعبا المغزى منه، ومن ثم الحرص على تكثير نوعيٍّ قويٍّ، لا غثائيٍّ كغثاء السيل. ولتحقيق هذه الكثرة النوعية، على الوالدين أن يدركا عمق مهمتهما في صناعة الولد الصالح من خلال تربية الأبناء على أبعاد الهوية الإسلامية ومرتكزاتها الأساسية. فيربى الولد منذ نشأته على مفاهيم الدين الإسلامي وأسسه حتى يرتبط به عقيدة وعبادة، ويتصل به منهاجاً ونظاما. لذلك كانت مسؤولية الوالدين في رعاية الفطرة أول المسؤوليات وأهمها، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة، فقال: “كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء” [7].
وهذه الرعاية تتم عبر حفظ الفطرة بغرس الولاء لله ولرسوله في نفوس الأطفال، وكلما كان بكورا، كان أكثر تمكنا من نفوسهم، وكلما كانت أساليبه أشد وقعا. وقد يصيب هذه الفطرة نَكْبَةٌ ورَقدة، فيجب على الوالدين أن يعملا على إحيائها ببث كلمة الحق في الطفل في الوقت المناسب، بالطريقة المناسبة. كما وجب عليهما حوط عملية إحياء الفطرة عبر الاهتمام والعناية بالمحيط التربوي للطفل. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “إذا لم تُرضع الأم طفلها الإيمان مع الألبان، ولم يَقُدْ الأب خطى أبنائه الأولى إلى المسجد، ولم تُلَقِّن الأسرة كلمة التوحيد للصبي أوّلَ ما يلْهَجُ بالنطق، ولم يُرَدِّدْ معه الأخ والعم والخال آيات الله في غضاضة العمر، ولم تتعهده بالوصية الإيمانية القَرابة والجوار، فقد فاته إبَّان الحرث” [8].
الأسرة المتماسكة هي الأس ومنها البناء
للأسرة أهمية كبرى في بناء المجتمع باعتبارها لبنة أساسية من لبنات العمران، لذا أصبح من الضروري النهوض بوظائفها لتدل على معنى البناء، فضلا عن ضرورة توفر الأهلية والكفاءة اللازمتين لهذا البناء. وهذا مما أكد عليه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله حين قال: “أقوى ما تستقوي به الأمة متانة بناء الأسرة. والمتانة أمومة مَصُونةٌ مستقرة في بيتٍ مدرسةٍ. أهم ما نُعِد لهم من قُوَّة أمومة مبرورةٌ بَرّةٌ مربية، تصنع مستقبل العزة للأمة” [9]. فالأسرة المتماسكة تساهم في بناء مجتمع العمران من حيث تبني الإنسان الداخل تحت حضن رعايتها، فتمده بالقيم التي استمدتها من الشريعة. ولتحقيق هذه الغاية، لابد أن تراعى في بناء الأسرة خصائص العمران الأخوي.
الرابطة القلبية الإيمانية
إن تقوية الجانب الإيماني له دور فعال في تخطي الكثير من العقبات التي تعترض الإنسان في حياته، وفي علاج الإشكالات التي تواجهه ومنها الخلافات الأسرية، فالدين يمكن الإنسان من تحديد مسارات حياته، ومن ضبط أخلاقه وسلوكه. ومن أبرز الحقائق التي تؤكد أهميته: حقيقة معرفة المؤمن مقامه وحدوده، فتجده يخضع لسلطان الله ويمتثل لأمره، ويوجه خُلُقَه وسلوكَه وفق المنهج الذي رسمه له. وهذا ما يشير إليه قول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “المواطنة القلبية الإيمانية بين المسلمـين هي أم الخصائص في العمران الأخوي. سِمَتُها النفسية السلوكية الإقلاع عن حب الدنيا والتحررُ من العبودية للهوى” [10].
الرابطة الوجدانية العاطفية
الإسلام زرع الحب بين أفراد الأسرة، وأصّله عن طريق أخلاقيات نفيسة تدعى الواجبات والحقوق التي ترسم حدود العلاقات الأسرية وتضع أساسياتِها. ولكي يستمر الحب، خص الإسلام الزوجين بالمودة، والوالدين بالبر، والأولاد بالحنان، والإخوة والأخوات وغيرهم بصلة الرحم. فنجاح العلاقات الأسرية يستوجب اتّحادا وترابطا قلبيا بين أفراد الأسرة، ليشكلوا بذلك كيانا واحدا يستمد طاقته وقوته من المودة التي تحمل في طياتها التقدير والاحترام المتبادل. وهذا ما أكده الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في قوله “التعامل بين الزوج والزوجة إن لم يُثمِر المودة والرحمة، وهما من آيات الله لقوم يتفكرون، فإنما هو ظلمٌ. قِوامة الزوج المؤمن إن لم تثمر المودةَ ولم تثمر الرحمةَ مع الزوجة فإنها تعَسُّف، وطاعة الزوجة المؤمنة للزوج المؤمن إن لم تُثمرِ المودةَ والرحمةَ، فالقوم لا يتفكَّرون، وليست تأتيهم آيات الله تُذكِّرهم بما فرضه الله” [11].
الرابطة السلوكية الأخلاقية
أكد الشرع على ضرورة بناء صلة خلقية بين أفراد الأسرة، وذلك من خلال مخاطبة كل واحد منهم بما يجب عليه، وباحترامهم المبادئ الأخلاقية التي تقوم على التراحم والتعاون والإيثار، ويكفي فيه أن رسول الله ﷺ ربط الخيرية التي هي مبتغى كل مؤمن بالخيرية مع الزوجة، لتتعدى منها إلى غيرها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم خلقا” [12]، وهذا الأمر المذكور، وإن عبر عنه بصيغة المذكر، فهو يشمل كذلك المرأة في خيريتها مع زوجها، وفي حديث آخر تفصيل لهذه الخيرية، “خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالِكَ” [13]، وفي الحديث الشريف تتميز ملامح الحافظية ويظهر لفظها في نطاق الحياة الزوجية؛ استقرار البيت المسلم الذي ينظر فيه الزوج إلى زوجته فتسره، يعني ذلك أن يحبها ويسكن إليها، لا شرطها أن تكون فاتنة الجمال الجسدي فذلك يذبل ويبقى جمال الخلق وجمال الروح.
الرابطة التكافلية الاجتماعية
“التأليف الاجتماعي في العمران الأخوي تأليف عضوي تندمج فيه المصلحة الفردية في الصلاح العام، ويعود فيه الصلاح العام على الفرد بكل ما يصون أخوته من عوادي الزمان. مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفِهم مثلُ الجسد” [14]. ولضمان هذا التكافل أقام الإسلام تضامنا مزدوجا بين الفرد والجماعة، فأوجب على كل منهما التزامات تجاه الآخر، ومازج بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة بحيث يكون تحقيق المصلحة الخاصة مكملا للمصلحة العامة، فالفرد في المجتمع المسلم مسؤول تضامنيا عن حفظ النظام العام، وعن التصرف الذي يمكن أن يسيء إلى المجتمع أو يعطل بعض مصالحه.
وبناء على هذا؛ فأفراد الأسرة مأمورون بإتقان أدائهم الاجتماعي، بأن يكون وجودهم فعالا ومؤثرا في المجتمع الذي يعيشون فيه. وقد صور الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصورة التكافلية في مثال رائع بقوله: “مثل القائم على حدود الله – أي القائم على حفظ النظام العام للمجتمع وأفراده – والواقع فيه كمثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا” [15].
وختاما، يتأسس التغيير على ركائز أساسية متعلقة بمحورية الفرد واستراتيجية المؤسسات ومركزية الأمة، ومن ثم كانت العناية بالأفراد والأسرة مطلبا رئيسا حتى يتم تجديد نسيج الأمة بفضل اتساع دائرة الأفراد المؤهلين القادرين على تحمل تبعات التغيير وعلى تجديد أنفسهم وتغيير ذهنياتهم. لهذا فالتغيير المنشود أساسه بناء أسر مستقرة مطمئنة، وتربية جيل صالح قوي مجاهد ناصر لدين الله في الأرض، قادر على حمل رسالة الإسلام، وهي مساهمة أساسية لإحياء الأمة وانتشالها من قعر الغثائية. وهذا لن يتأتى إلا إذا سعى الوالدان لتحقيق الكمال الوظيفي. ونقصد به مدى تمكن الآباء والأمهات من أداء أدوارهم الأساسية في تربية أولادهم والقيام بها على أكمل وجه، عن طريق إعدادهم إعداداً متكاملاً لجميع جوانب شخصيتهم، في جميع مراحل نموهم، وذلك على ضوء ما أتى به الكتاب والسنة وكل حكمة عقلية.
وهذا ما أكده الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في قوله، “إيقاظ الآباء والأمهات إلى مسؤوليتهم الجسيمة مرتبطة بمسؤوليتهم التربوية، وتهذيب الناس وترفيع وعيهم إلى مصلحتهم ومصلحة ذريتهم التي هي مصلحة الأمة، واجب تربوي تعليمي يبسط أمام دولة القرآن والعدل والإحسان مجالا فسيحا لبذل الجهود التربوية مقرونة بجهود الإنصاف والعدل في المعايش من توفير سكن ومدارس ومشاف ومشاغل، توفير شروط الرخاء وظروفه. كان الله في عوننا إنه هو العلي القدير” [16].
[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص: 203.
[2] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ط 2018/3، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 493.
[3] سنـن أبي داود.
[4] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، م. س. ج 2. 250-251.
[5] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي.. تربية وتنظيما وزحفا، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر – إستانبول، ص 165.
[6] رواه النسائي.
[7] رواه البخاري ومسلم
[8] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، م. س. ص 493.
[9] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، م. س. ج 2 ص 194.
[10] العدل: الإسلاميون والحكم، م. س. ص 197.
[11] عبد السلام ياسين، أحاديث في العدل والإحسان، ط 2021/2، دار إقدام للطباعة والنشر – إستانبول، ص 136.
[12] سنن الترمذي
[13] رواه ابن جرير الطبري.
[14] العدل: الإسلاميون والحكم، م. س. ص 203.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه.
[16] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص: 122.