مع تزايد هيمنة الغرب على الدول الإسلامية، وغزو العولمة للخصوصيات الثقافية والقيمية لمجتمعاتنا، بدأ اقتحام الغرب لحرمات الأسرة المسلمة، وخرق مقدسات منظومة قيمها التي سنتها الشريعة الإسلامية، حتى صارت الهجمة الغربية على حصن الأسرة المسلمة بمثابة «الجولة الفاصلة» في معركة الهوية، التي يستهدف بها الغرب تفكيك الأسرة المسلمة والقضاء على مقوماتها. وذلك عبر الترويج لشعارات براقة لكنها مفخخة، مثل التساوي المطلق بين المرأة والرجل في جميع الميادين، سواء في الأدوار أو الحقوق أو التشريعات. كما تدعو تلك التيارات الغربية إلى إطلاق الحريات الجنسية من زنا وشذوذ، في مقابل التضييق على الزواج ورفع سنه، حتى بات الزواج تحت سن الـ18 عنفا يجب القضاء عليه.
وأيضا من الأسباب التي ساعدت على تفشي معتقدات هذه التيارات انحسار الفهم الصحيح للإسلام وتراجع قيمه من حياة الشعوب، حيث تغلغلت المرجعيات اللادينية حتى غدت منافسا شرسا للمرجعية الإسلامية. وأضف إلى ذلك الفقه الموروث لم يعد قادرا على إعادة بناء نظام الأسرة، الأمر الذي يستوجب التفكير في طرح بدائل لإصلاح الأسرة، تستمد نصوصها وبنودها من الشريعة الإسلامية؛ لتكون ردا على مواثيق الغزو وأيديولوجياته، التي تحاول اجتياح آخر حصون الإسلام وأمته، حصن الأسرة.
وفي ما يأتي أبرز القيم التي يقوم إصلاح الأسرة في الإسلام:
مبادئ وقيم عامة
إن الشريعة الإسلامية منهج كامل وشامل لجميع مناحي الحياة، ففيها ما ينفع الأفراد والجماعات، ويصلح كل شؤون حياتهم، الخاصة والعامة، بما في ذلك نظام الأسرة الذي يعتبر القلب النابض لغيره من النظم؛ لأن الأسرة نواة المجتمع وبذرته ووحدة تكوينه، بل هي صورة مصغرة عنه. ومن هنا حدد الإسلام المبادئ العامة والقيم الحاكمة والمفاهيم الضابطة لإصلاح نظام الأسرة، فهي تعد قواعد كلية تضبط فروع وجزيئات هذا النظام، ومنها:
1. تغيير ما بالأنفس
تؤكد التعاليم الإسلامية على أهمية تغيير الإنسان لذاته، كشرط أساسي في عملية التغيير المجتمعي، وكمدخل من مداخل استنهاض الأمم. والتغيير الذاتي في هذا الزمن أمر ملح ومطلب ضروري لانتشال الأسرة المسلمة من كبوتها والنهوض بها إلى مكانها الطبيعي في بناء المجتمع وصناعة الإنسان الذي هو محور التغيير؛ لأنه اللبنة الأساسية في البناء الأسري، فلا بد إذن من تزكيته وتربيته وتهيئته. وأيضا نظر الإسلام إلى المسألة الأخلاقية نظرة لها مكانتها؛ فلم يشرع الأحكام المنظمة للأسرة لدافع اقتصادي أو بيولوجي بحت؛ بل قصد الصلاح الباطني للإنسان واستقراره النفسي، ثم قصد جملة المصالح الأخرى بالتبعية مع أن بعضها قد يكون ذا شأن.
لذا وضع إطارا أخلاقيا لحماية النظام الأسري، ولضمان نجاح الحياة الزوجية والتنشئة الأسرية والاجتماعية. فإصلاح الأسرة إذن لن يتم بمعجزة خارقة، بل بسنة جارية، وهي تغيير ما بأنفس مكوناتها، أي من داخل الرجل والمرأة، تغييـر دوافـعهما، وشـخصيتهما، وأفـكارهما، وسـلوكهما، تغييـر يسـبق ويصاحـب أي تغييـر كان، فلا معنى لتغيير السياسـات والهيـاكل التي تخدم الأسرة ما لم يتغيـر الإنسان الـذي سـيقوم بتنفيذهـا، وسـيغدو عندئذ التغيير شـكلا بلا مضمـون، بـل تضييعا للجهـد في دوامـة التجـارب الفاشـلة.
2. تأمين كرامة الإنسان
لقد وضعت الشريعة الإسلامية مبادئ سامیة تصون للإنسان حرمته، وترعي كرامته، وتنزله المنزلة التي أنزله اللَّه إياها، مكرما مكفول الحقوق جميعا. والمتأمل في الأحكام الشرعیة المرتبطة بالنظام الأسري، یجدها تطبيقا لهذه الكرامة الإنسانية التي أرسى القرآن الكريم مبادئها، وفصلت السنة النبوية مظاهرها، حیث جاءت هذه الأحكام لتحفظ هذه الكرامة في مختلف الظروف والأحوال، وتحيطها بسیاج محكم یحمیھا من كافة الآفات والأضرار.
واستنادا إلى ذلك، بين الدين الإسلامي من خلال القيم التي طرحها كيفية تفاعل الزوج والزوجة والأولاد داخل نظام الأسرة، ووضع لهم حقوقا وحدد لهم واجبات، وبين كيفية القيام بهذه الحقوق والواجبات بناء على منظومة الكرامة والعدل والإحسان. وقد فصلت الشريعة في طرحه لمنظومة القيم لتنظيم التفاعل داخل أجزاء نظام الأسرة لتشمل الزواج والطلاق والميراث، وأرسى له قواعد تمكنه من النشوء والنمو والتفاعل مع كل متغيرات البيئة الخارجية، بطريقة تضمن للإنسان كرامته.
3. مبدأ الالتزام
إن منظومة القيم الإسلامية مبنية على مبدأ الالتزام بدافع التعبد، والذي يجسد القوة الخارجية التي تحدد سلوك الإنسان وتضبطه بقوة الشرع، وهي ممثلة في أحكام الشريعة الإسلامية، وهي أيضا البواعث الحافظة لمقاصد الشريعة. إذ التحقيق الفعلي لهذه الأحكام كامن في الالتزام الناشئ عن قناعة وتعبد، فتصبح مسألة حفظ النوع البشري ومسائل متصلة بها كحفظ الأعراض والعفاف والابتعاد عن الشذوذ والتمسك بالفطرة السوية، مسألة ضمير وسلوك ينشأ عليها أفراد المجتمع الإسلامي، مستعلين عن الأنانيات والفرديات والشهوات والملذات القاصمة لأية حياة جماعية محترمة.
ومن هنا لن يتم للأسرة الوفاء بدورها المنوط بها، إلّا إذا التزم أفرادها بالمبادئ العامة والقيم العليا في بناء العلاقات الأسرية، حتى تزيل بعض ما لحقها من انحرافات أملتها المعارف والممارسات التي قـد يتلقاها الفرد تقليدا، أو تُملى عليه، بصورة قد تلبس لباس الشرع. وهذا الأمر لن يتأتى إلا بتعميق حس المسؤولية بقوة الالتزام بشرائع ديننا لا بقوة القانون؛ لأن القانون قد يحمي الظواهر ولكن البواطن منفلتة عن مضامينه. وهذا ما يجعل القانون عاجزا عن إيجاد حل للمشكلات الأسرية. وبالتالي فإصلاح أوضاع الأسرة لن يتحقق بسن القوانين فقط، بل يجب النظر إلى الأسرة بمنظور كلي متكامل، يجمع كل قضاياها في منظور واحد، ويعالجها في إطار يجمع بين تشخيص واقع الأمة وتحليل أسباب تخلفها في جميع الميادين، وبين بناء مشروع إصلاح يضم الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
مداخل الإصلاح الأسري
علما بأن الإصلاح الأسري يحتاج إلى خطة عمل شاملة لإحداث تغيرات جوهرية في بنيتها، ودورها وعلاقاتها والشروط العامة التي تعيش في ظلها، والقوانين التي ترعاها وتوفر لها الدعم والحماية، واعترافا بأن ما هو متوفر من هذه الشروط هو دون المستوى المطلوب والكافي لتحقيق حياة أسرية كريمة، وتمشّيا مع القواعد الكلية الآنفة الذكر، وعملا بمضمون ما جاءت به الشريعة الإسلامية من أحكام تخدم بناء الأسرة، وجب استحضار في أي استراتيجية للنهوض بالأسرة المداخل التالية:
1. الانطلاق من المرجعية الإسلامية
إن المرجعية الإسلامية بنية صلبة روحيا وعلميا وعمليا، مما يجعل البناء الأسري الذي يراعي هذا المعطى قويا ومتينا، حيث تعد هذه المرجعية الثابت الذي تدور عليه كل المتغيرات، فالشريعة الإسلامية مستقرة ومستمرة إلى اليوم الآخر، دون تغيير أو تبديل، ودليل ذلك قول الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 1. ومع كون الشريعة الإسلامية ثابتة لا تبديل لها إلا أنها شريعة مرنة، ومما يدل على ذلك إتيانها في بعض الأبواب بأحكام عامة دون ذكر التفاصيل، وترك الأمر لاجتهاد العلماء بما يحقق المصلحة العامة. والانطلاق من مرجعية الإسلامية لا يعني الانغلاق عليها والعزوف عن المرجعيات الإنسانية، بل يجب الانفتاح على التجارب الإنسانية بمختلف تراكماتها، انطلاقا من ثوابتنا الدينية، وضمن القواعد التي من شأنها أن تساهم في تحقيق النهوض الكامل بمؤسسة الأسرة.
من هنا وجب العمل على تحرير الأمة الإسلامية من “ذهنية التبعية وعقلية التقليد” المتراكمة فينا منذ قرون، والتي تبحث عن الحل الشافي لهزيمتنا في المواثيق والمعاهدات الدولية، التي جعلت الحداثة هي الوصفة السحرية لكل أدواءنا. والمقصود بالحداثة هنا ترك الدين أولا بوصفه نظاما قديما، بمعنى أن نسحب من قاموس حياتنا شرع الله وسنة نبيه. فإطلالة عابرة على كتابات الحداثيين كفيلة بأن ترسم لنا نظرة متكاملة عن طبيعة اعتقاداتهم، فهي ليست سوى دعوات للانفلات والتسيب والإتيان على المنظومة الأخلاقية من أساسها، لكن وحتى لا نقع في السلبية فهناك إمكانية انتفاع المجتمعات الإسلامية من مزايا “الحداثة التنظيمية والتدبيرية”، فالإنصاف يستدعي منا الإقرار بمزايا الحداثة، والواجب يلزمنا بالوقوف مع نقائصها، والمسؤولية تحتم علينا مواجهة نتائجها بفكر يملك إجابات حقيقية على التحديات التي تعيشها الأسر.
2. اعتماد المقاربة الشمولية والتشاركية
إن السعي للنهوض بمؤسسة الأسرة ينبغي ألا ينفك عن إصلاح الأعطاب التي تهدد أمنها وذلك على عدة مستويات، السياسي منها والاقتصادي والاجتماعي وغيرها. لذا أصبح من الضروري الشروع في عملية إصلاح جاد وحقيقي بحيث يشمل هذه الجوانب برمتها. فالإصلاح السياسي يتطلب إرساء نظام ديمقراطي يعتمد الشورى الحقيقية، ويربط المسؤولية بالمحاسبة ويحارب الفساد في كل صوره، والإصلاح الاقتصادي يقتضي وضع سياسات للتنمية بمعناها الشامل ويكون هدفها الأساسي القضاء على الفقر وضمان العدالة الاجتماعية. والإصلاح الاجتماعي يستلزم توفير الخدمات المعاشية والتعليمية الصحية والإدارية والتكافلية لكل الأسر.
وهذا الإصلاح الشامل رهين بالمقاربة التشاركية التي هي أحد أهم ركائز نجاح أو فشل أي فعل يتوخى التغيير سواء تعلق الأمر بتغيير المفاهيم أو بتغيير الأوضاع، لذا وجب الحرص على تدخل كل الفاعلين على اختلاف توجهاتهم في عملية إصلاح الأسرة. فالمقاربة التشاركية ورهانها الأساسي هو تجاوز الطرق التقليدية في التسيير، واستقطاب القدرات المحلية في التدبير، وضمان حرية التعبير في اتخاذ القرار، والإدماج والتنسيق بين جميع المتدخلين، وفي غياب هذه الشروط فلا مجال للحديث عن إصلاح حقيقي.
3. تفعيل آلية الاجتهاد الجماعي
في الفقه الإسلامي أحكام بنيت على أساس المصلحة أو العرف، فهذه الأحكام قد تتغير بتغير المصلحة التي شرع الحكم لتحقيقها أو تغير العرف الذي بنيت عليه، وهناك أحكام يتأثر محلها بالظروف الزمانية والمكانية، فتتغير تلك الأحكام لتغير تلك الظروف، ويكون دور المجتهد في هـذا النوع من الأحكـام هـو البحث عن أسس تلك الأحكـام لمعرفـة ما إذا كان أساسا متغيرا أو ثابتا، فإن كان ثابتا فلا مجال لتغيره، وإن كان متغيرا ففيه مجال للاجتهاد والنظر في صلاحيته للتغيير.
ومن هنا تنبثق الحاجة إلى ضرورة ممارسة الاجتهاد المقاصدي باستحضار الثوابت التي لا تتغير، وبمراعاة الضوابط من قبيل حاكمية النصوص، وفقه الواقع المعاش، واعتبار مآلات الأفعال. وكذلك ضرورة مراعاة فقه الأولويات والموازنات، وبيان أهميته في حل التعارض بين القطعيات والظنيات، والتدقيق بترتيب الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والتفريق بين المقاصد والوسائل بنظرة شمولية كلية، توفر إجابات واضحة عن أبرز تحديات الأسرة.
وخلاصة القول، إن تحديات الأسرة اليوم لا يمكن مجابهتها إن لم ننطلق من أصول شريعتنا السمحاء في طرح مشروع تغييري يضمنه الحل الإسلامي الذي يحمل تصورنا لكل نواحي التغيير الذي نريده. ونهيئ هذا التغيير على جميع المستويات، على مستوى سياسات وبرامج شاملة، تتوجه إلى قضايا الأسرةِ كمنظومة اجتماعية متكاملة ولا تجزئ الحلول. ونرى أيضا أن قضايا الرجل والمرأة والشباب والطفل هي في حقيقتها قضية واحدة، تتطلب تمكين جميع أفراد الأسرة من أدوارهم. وهذا ما أكده الامام عبد السلام ياسين رحمه الله في قوله “إيقاظ الآباء والأمهات إلى مسؤوليتهم الجسيمة مرتبطة بمسؤوليتهم التربوية، وتهذيب الناس وترفيع وعيهم إلى مصلحتهم ومصلحة ذريتهم التي هي مصلحة الأمة، واجب تربوي تعليمي يبسط أمام دولة القرآن والعدل والإحسان مجالا فسيحا لبذل الجهود التربوية مقرونة بجهود الإنصاف والعدل في المعايش من توفير سكن ومدارس ومشاف ومشاغل، توفير شروط الرخاء وظروفه. كان الله في عوننا إنه هو العلي القدير.” 2