مقدمة
الحديث في شهر رمضان سواء في الخطب المنبرية أو المواعظ المسجدية أو في غيرها من المنابر غالبا ما يتوجه إلى الأفراد ويدور حولهم، فيكون مثلا عن التوبة والتقوى والصيام والقرآن والإحسان والغزوات وغير ذلك من المواضيع التي تهمّ الفرد من جهة تزكية النفس وتربيتها، وأيضا من جهة بعض أحكام الفقه في الصيام، ويتم الاستشهاد بالآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. وبأن صلاح الفرد هو المدخل إلى صلاح المجتمع. هذا كلام صحيح ومفيد ومهم، ولكنه يبقى ناقصا من دون الحديث عن المحضن الرئيسي لهذا الإنسان الذي هو الأسرة.
هذه الأسرة التي تعيش اليوم تحديات جسام على كل المستويات، وتوجه إليها معاول الهدم من كل الجهات، هي التي تستحق الحديث حول العمل على إحياء دورها في صناعة الإنسان، وهذا ما لا يتم إلا بتماسكها واستقرارها. شهر رمضان المبارك فرصة لتوطيد هذا التماسك الأسري واستقراره.
رمضان فرصة للتّحول
حقّا إن شهر رمضان المبارك هو نعمة من أعظم النِّعم الإلهية على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو فرصة للتّحول من حالة كان الإنسان يعيش فيها التسيّب والغفلة والفتنة والعبث إلى حالة ترضي الله تعالى، إلى حالة من الطاعة والانجماع على الله عز وجل، إلى حالة من اليقظة والذكر والإيمان. ليس هذا فقط بل هذا التحول كما يطال الفرد يطال الأسرة كذلك وهي الأهم، فتتحول من حالة الفوضى وعدم الاستقرار إلى حالة تعيش فيها الاستقرار والجوّ الإيماني والتماسك العائلي.
قلت التحول على مستوى الأسرة أهمّ في هذا الشهر المبارك لأن الأسرة هي البيئة المهيّأة والمحضن المساعد على تحول ذلك الفرد وسطها. فإذا تدبرنا القرآن الكريم سنجد أن ارتباط الفرد بأسرته هو ارتباط وثيق ليس في المأكل والمشرب والملبس فقط، بل هو ارتباط أيضا في التربية والتعليم والإيمان. يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21]. ويقول سبحانه وتعالى كذلك: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم: 40]. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل، لتقرَّ بهم عينه”، ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، إلى آخر الآية.
الصيام الجماعي
فكيف ينبغي أن تحيي الأسرةُ في شهر رمضان وسط أفرادها معاني الصيام والإيمان والقرآن والدعاء. فيكون الحديث عن التوبة الجماعية، وعن التقوى الجماعية، وعن الصيام الجماعي، وعن القراءة الجماعية للقرآن، وعن المشاركة الجماعية في أعمال البر والإحسان والخير. فيكون شهر رمضان كما يجمع المسلمين في المسجد الذي تكتظ بهم جنباته، يجمع كذلك أفراد الأسرة في البيت الواحد على هذه المعاني الروحية والربانية والإيمانية، ويساهم بذلك في صناعة الأسرة الإيمانية النموذجية.
إذا تأملنا بداية الآيات الواردة حول الصيام والسياق الذي فُرض فيه، في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، سنجد أن خطاب الله عز وجل ونداءه بـــ “أيها الذين آمنوا”، يشتملان للقيام بهذه الفريضة على أصحّ وأحسن وجه على شرطين أساسين هما:
أولا: الإيمان بالله تعالى وبكل ما يجعل الإنسان مؤمنا يستحق الدخول تحت هذا النداء. ومن ذلك الإيمان بفريضة الصيام بأنها عبادة يتقرب بها الصّائم إلى ربه عز وجل.
ثانيا: الكينونة مع المؤمنين والاندماج وسط جماعتهم حتى يشمله النداء، ولا يكون منعزلا بإيمانه مفارقا لأمته. وهذه الكينونة مع المؤمنين تكون على مستوى الأمة التي يجمعها شهر رمضان في كل العالم، وتكون على مستوى الحي الذي يجمعه المسجد في كل بلد، وتكون على مستوى الأسرة التي تجمعها المائدة في كل بيت.
البرنامج الرمضاني
لا شك أن صناعة رمضان لهذه الأسرة الإيمانية التي يحدث فيها التّحول نحو الأفضل لا يتم بشكل عفوي واعتباطي، بل الأمر يحتاج إلى برنامج رمضاني أسري، كما يُوزّع البرنامج الرمضاني الخاص بالفرد يوزع أيضا الخاص بالأسرة، وكما يُعرض الأول في الدروس الرمضانية يُعرض الثاني كذلك. ومن خصائص هذا البرنامج الرمضاني الأسري أن يُحوّل أعمالنا الفردية في الأسرة إلى أعمال جماعية يشارك فيها الجميع، الرجال والنساء، الصغار والكبار.
ولذلك إذا تأملنا ثانية الآيات الواردة حول الصيام في القرآن الكريم وتدبرناها جيدا، في سورة البقرة من الآية (183) إلى الآية (186)، نستنتج المعالم الكبرى لهذا البرنامج الرمضاني سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي. برنامج من ثلاثة معالم بثلاثة مقاصد. وهي على الشكل الآتي:
أولا: الصيام: من خلال إتقانه وإحسانه، المقصد منه تحقيق مقام التقوى. يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
ثانيا: الصيام مع القرآن والذكر، من خلال الجمع بينهم كما جمع الله تعالى بينهم، المقصد من ذلك الجمعِ تحقيق مقام الشكر. يقول الله عز وجل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
ثالثا: الصيام مع القرآن والذكر والدعاء، من خلال الاستجابة الكاملة لنداء الله تعالى، المقصد منها تحقيق مقام الهداية والرشاد. يقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
وبشيء من التفصيل لهذه المعالم، أنه عندما يستيقظ الأب والأم للسّحور، لا ينبغي أن يُحرم الأطفال لصغرهم عن المشاركة فيه، لأن فيه بركة وفيه أيضا تدريب لهم وتعليم وتحفيز وتشجيع على الصيام الجزئي أو الكامل. وعندما يقرأ الأب أو الأم القرآن أن يتم إشراك الأطفال حتى يحبوا القرآن الكريم، فيأخذ كل واحد منهما مصحفا بينما الأطفال جالسون في حجرهما يتابعون أو يستمعون أو يقرؤون، وعند كل ختمة قرآنية يؤمّنون كما كان يفعل سيدنا عمر رضي الله عنه مع أهل بيته.
وعندما يذهب الوالدان إلى صلاة التراويح يستصحبان معهما أطفالهما إلى المسجد حتى تتعلق قلوبهم ببيت الله تعالى. وعندما يجتمعون على مائدة الإفطار، الأب يردد الدعاء بينما الأم والأطفال يؤمنون. أو يتناوبون عن هذا الدعاء في كل مرة. وعندما يريدون أن يقوموا بعمل خيري بصدقة أو إكرام كذلك يشرك الوالدان الجميع بالطرق التي يرونها مناسبة. وهكذا في الأعمال الأخرى من ذكر وقيام وصلة رحم.
خاتمة
بهذه الاعمال الصالحة في شهر رمضان سوف تستقر الأسرة وتتماسك وتترقى حتى تصبح نموذجا في المجتمع، وعندما تتعدد أمثال هذه الأسر النموذجية يصبح المجتمع صالحا لأن لبنته الأولى التي هي الأسرة صالحة. والأسرة الصالحة أب صالح وأم صالحة وأبناء صالحون. يقول الله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90].
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].