الأسرة مشتل صناعة الأجيال

Cover Image for الأسرة مشتل صناعة الأجيال
نشر بتاريخ

 مقدمة

الأسرة هي الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات، فهي المشتل لصناعة الرجال والنساء الذين بهم تستمر المجتمعات وتتقوى الأمم، وكلما كان الأساس متينا قويا متلاحما بين مكوناته كلما كانت الأمة قوية، لذلك فإن من أهم علامات الخراب والاضمحلال فساد الأسرة، التي هي مصدر توريث القيم، وبناء العقول والأجسام، لذلك فتوجيه الضربات للبناء الأسري هو قضاء على مستقبل أي أمة وحكم عليها بالزوال والفناء.

فما هي الأدوار التي تضطلع بها الأسرة؟ وما خطورة التفريط في متين بنائها؟ ولماذا يعتبر الزواج الأساس الحقيقي لقيامها؟

أولا- الأسرة المسلمة: أدوارها وضمانات قيامها

1- دور الأسرة في بناء المجتمع

الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أساسها أم صالحة وأب صالح، مهمة الأسرة صناعة الأجيال التي تضمن مستقبل أي مجتمع، والمستقبل الجيد أساسه رجال ونساء قادرون على العطاء الجيد في كل مناحي الحياة، لهم إرادات قوية وهمم عالية، وقيم راسخة متجذرة، تجعل من العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع علاقات راقية، تسود فيها قيم الإخاء، والمحبة، والتواصل، والتعاون، والتضامن، والإيثار، والأمانة والإتقان. هؤلاء الرجال والنساء كانوا أطفالا فتربوا في أسر قوية مترابطة متلاحمة، تعرف مقصدها وتعي دورها، يقوم أفرادها بدورهم الاجتماعي المنوط بهم بعلم ومعرفة وإحسان، فدور الأسرة البناء من أساس وعلى أساس وهو “عملية شاقة، عملية ميدانية، عملية متابعة الماء من نبعه لكيلا يتكدر، عملية تركيب العناصر لكيلا تختلط خلطا عشوائيا، عملية تعهد النفوس والجسوم” 1، المجتمع القوي المتماسك أساسه أسر بنيت على أساس من المودة والرحمة ومراقبة الله عز وجل، فكانت النتيجة تقدم ورقي ومحبة وعلم وقوة بين الأمم؛ لأن الموارد البشرية الكُفْأة ونزاهة الرجال والنساء وانتشار القيم الرفيعة داخل أي مجتمع هي عوامل حاسمة في تنميته ورقيه.

2- ضمانات قيام أسرة صالحة

– الزواج: الميثاق الغليظ

بين الزوج والزوجة ميثاق غليظ بشهادة رب العالمين، ميثاق له نعت خاص: “غليظ”، وهذا يبعث على هيبته وثقله، ويعني من جملة ما يعنيه، أن يتعامل الأزواج مع زوجاتهم بما فرض في شرع الله، من صون لحقوقهن، في كل حال، في الرخاء والشدة، وهذا لا يكون إلا إذا تحقق في الزوج شرط الاستطاعة في النفقة، فنجاح الزواج يقترن بقدرة الزوج على النفقة، وباختياره الزوجة المؤمنة الشريفة العفيفة التي تحفظه في حضوره وغيبته، وتقدّر قيمة هذا الميثاق الغليظ، الذي شرف الله به الأسرة المسلمة وجعله أساس ولادتها.

فالزواج ميثاق يجمع بين زوجين، اختارا شرع الله، لإقامة أسرة مقصدها رضا الله عز وجل، واتباع سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفرّا من حبائل شيطان يزين الرذيلة ويرغب في الفاحشة، فلا أسرة ستبنى حقيقة على أساس هش، هو نزوة عابرة نتج عنها ولد لا ذنب له، فكان الرباط بعده لا قبل، جبرا لخطيئةٍ، فتكون الانطلاقة خاطئة والعواقب غير محمودة، لذلك فإن “الزواج الإسلامي نقيض للعلاقات السـائبة غير المسؤولة ولا المقيـدة بضابط شرعي أو خُلُقي. زواج الناس -حيثُ بقي شيء يُسمَّى زواجا- يَأتَدِم بالمشاعر والعواطف، ويتصوَّنُ بالوفاء والعفة، ويتخوف من الوباء والخبائث، وكل أولئك مروآت لا يزيدها الإسلام إلا تكريما. لكن زواج المؤمنات والمؤمنين يُسبِغ عليه جلال الميثاق الغليظ قدسية، وتجلله الأمانة الإلهية، وتعظم من شأن تبعاته الكلمة. إن حفظت المرأة وقام الرجل بأعباء الميثاق الغليظ اكتست كل أعمالهما، وما يتبادلان من معروف، وما يتباذلان من عطاء، صبغة العبادة والتقرب إلى الله عز وجل” 2.

الزواج إذن هو الطريق الوحيد لتكوين الأسرة التي هى نواة المجتمع، وأساس بنائه، ولا يقوم مجتمع إنساني كريم، إلا إذا قامت قبله الأسرة التي يتفيأ فيها الأبناء ظلال الأمومة والأبوة، وتنغرس فيهم المشاعر الطيبة والعواطف الخيرة والقيم النبيلة.

– المودة والرحمة بين الزوجين

لقد أعطى الإسلام للأسرة مفهوما متفردا، بحيث يعتمد عل المودة والرحمة بين الزوجين في تأسيس الأسرة، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 3، “فبالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة. وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع. الاستقرار أصْلُه ومثواه الزوج المؤمنة الصالحة الناظرة إلى مثال الكمال في خطاب الله عز وجل لنساء نبيه: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ 45، فاستقرار الأسرة رهين بقيام المرأة بدورها الأساسي في الرعاية؛ وهو الحفاظ على الفطرة، وهذا يعني أن تكون هذه الزوجة ملمة بأصول الرعاية، متشبعة بخصال الإيمان، من صدق وعفة وحياء وأمانة، فالأمانة مهمة معنوية للمرأة، جعلت مهمة الأم خاصة مهمة مقدسة، فالأم المؤمنة الحافظة مسؤولة عن أمانة حفظ فطرة الولد وحفظ عقله وحفظ سلامة جسمه، قال عز وجل: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ 6، والزوج يسهم في استقرار الأسرة المبنية على المودة والرحمة من خلال القيام بوظيفته المنوطة به في الأسرة، وهي القوامة، قوامة رعاية واحتضان وضمان للأمن والأمان مع الإنفاق.

مودة ورحمة هي أساس بناء العلاقات الإنسانية الراقية داخل الأسرة المسلمة، التي شعارها إحسان في التعامل، وتغافل عن الزلات، وتعاون في الملمات، واجتهاد جماعي في بلوغ القصد، الذي هو القيام بمهمة بناء الأسرة، التي منها يتخرج الشباب والرجال والنساء الصالحون النافعون للأمة، المتربون على خصال المودة والرحمة التي منها تتسرب خصال الإيمان، وتتقوى الإرادات، وتتغذى القلوب والعقول.

ثانيا- أخطار التفريط في دور الأسرة

1- انهيار المجتمع واضمحلال موارده البشرية الصالحة للبناء

إن أخطر ما يهدد حاضر ومستقبل أي أمة هو تفكك الأسرة وفسادها، فكيف نبني مجتمعا لا تخرِّج أسره المتفككة إلا غثاء من الأطفال الذين يعانون من ارتباك واختلال على مستويات متعددة: نفسية وجسمية وعقلية وروحية، لا تفيد الأعداد مهما كثرت إن كانت تعكس اضطرابا واختلالا، إنه الغثاء الذي حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال: “يوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال: لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ” 7، عدد خواء لا يعتد بعقل وإيمان أفراده، مثل غثاء السيل، لذلك “فمُنية كل شيطان من شياطين الإنس والجن أن تنكسر الأسرة، ويضيع الأولاد ويتمزقوا. الآن يحصل هذا الضياع وهذا التمزق من جهتين: من جهة تفكك الأسرة الآخذ في التفشي، ومن جهة هيمان هذه الأعداد الغثائية من الأطفال والشباب بلا مرب ولا مراقب” 8، فلا يكسب رهان المستقبل من المجتمعات من خرّجت أسره أفرادا غير قادرين على تحمل المسؤولية، لا يمتلكون مهارات ولا معارف ولا علوما، ولا مؤهلات عملية، تجعلهم قادرين على الإسهام في إدارة مشاريع المجتمع المتنوعة، وقيادة مؤسساته، بل هم أحوج ما يكون إلى من يقودهم، النتيجة حتما اضمحلال وخراب، ثم فناء معنوي، وبعدها قد يكون ماديا أيضا، فالتفكك غالبا ما ينعكس سلبا على نفسيات الأولاد، فينتج الخلل الذي يجعل المجتمع يتخبط في مشاكل الفساد وتفشي المخدرات وانتشار حالات الاغتصاب للأعراض والممتلكات، فينعدم الأمن والأمان، وتتقطع الأواصر، وتتعطل المصالح، وتنتشر الجريمة بكل أنواعها، وهكذا يصبح التفكك الأسري سببا في تحطيم البناء التنظيمي للمجتمع، بحيث تنفك عرى المجتمع وأواصره، فيضعف تأثير القيم والمعايير المجتمعية على أفراد المجتمع، فيحصل التناقض والتضارب في تحقيق الأهداف التي يصبو المجتمع إليها، فيسرع المجتمع غير المنسجم نحو نهايته.

2- سهولة التأثر بالتيارات المغرضة التي تأتي من الخارج

إن الأطفال الذين ينشأون في أسر مفككة، والذين يكَوِّنون المجتمعات التي لم تؤسس أسرها على الأسس السابقة، ابتداء من الزواج الشرعي المبني على المودة والرحمة والذي يتعاون فيه الزوجان على وظيفة التربية والرعاية المنوطة بهما، هم أطفال يعانون من مشاكل نفسية، ويسهل تأثرهم بالدعوات الإعلامية والدولية وغيرها التي تقلل من قيمة مؤسسة الزواج، وتعمل على محو أثرها والاستعاضة عنها بعلاقات “رضائية”، غايتها تحقيق المتعة الجنسية، وإن نتج عن ذلك أطفال فهناك دور مخصصة لإيوائهم.

إن الإحساس بالحرمان من دفء الأسرة يجعل الفرد دائما إما يحن إلى الأسرة ويشعر بالحرمان والنقص لأنه لم يترب في كنفها، وإما يحمل الحقد على المجتمع كله، لأنه حرمه حقة في الأمومة والأبوة، لذلك فإن “لفيفا من اللقطاء لا يسمى أمة، إذ لا جامع بين مخلوقات فيه منفصمة الروابط. لهذا استحق اللعنة وحرمت عليه الجنة من استهان بحُرمة النسب، فطعن بذلك في ولاء القرابة، وتلصص على بر القرابة، وزوَّرَ صلات الأرحام. وكلها روابط مقدسة، الحفاظ عليها، والعفة، وحفظ الفروج، والتحصن من فاحشة الزنى، واجب مقدس في مقدمة واجبات الحافظية” 9. فالدعوات الغربية المغرضة، والإعلام الفاسد المارج العابث بالعقول والفطر السليمة، أول ما يستهدفان الفئة الهشة التي تعاني من مشاكل عدة: على مستوى الإيمان والمعرفة والاحتضان والرعاية، فهؤلاء لم يربوا في أسر تحصِّنهم من التيارات الهدامة وتزرع في نفوسهم الإيمان واليقين، وتزودهم بما يحتاجه مسيرهم في الحياة من خبرات ومهارات وتجارب، بل رضعوا من الحياة مرارة التمزق والتفكك الأسري حتى أصبحوا صيدا سهلا للمفسدين.

خلاصة

الأسرة المسلمة المبنية على أسس سليمة هي نعمة، لأنها حقا مشتل لصناعة الأجيال، ومحضن الرعاية والاهتمام، ومصنع لتخريج الرجال والنساء الذين يملكون إرادات للتغيير والبناء، وهي مصدر أمن وأمان وحب وحماية ومودة ورعاية، وهي المتكفلة بحفظ الفطر عبر الأجيال، وتحصين الأبناء من التيارات الهدامة. وأساس بناء هذه الأسرة هو الزواج، الذي يعد صمام الأمان من زيغ الشيطان، وسبب حفظ العرض وتكثير النسل، وهو اتباع لسنة خير خلق الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني” 10. وهو حياد عن طريق الهوى والشيطان، وعبادة تحقق مقصد الاستخلاف في الأرض وتعميرها بالصالحات.


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات،ج2، ص204.
[2] عبد السلام ياسين. تنوير المؤمنات، ج2، ص140.
[3] سورة الروم، الآية 21.
[4] سورة الأحزاب، الآيتان 32-33.
[5] عبد السلام ياسين. العدل: الإسلاميون والحكم، ص292.
[6] سورة النساء، الآية 34.
[7] أخرجه الإمام أحمد وأبي داود.
[8] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص275.
[9] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، ص83.
[10] البخاري، صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 5063.