إن صيام رمضان لهذه السنة (1441ه) له ميزة خاصة، إذ لم يسبق للأسر أن قضت الشهر الفضيل لابثة في مساكنها، حيث فُرِض عليها الحجر الصحي جراء انتشار فيروس كورونا المستجد. ففي رمضان المعتاد تبسط الأيادي بالإنفاق والتوسعة على الأسرة وإكرام الضيف، ويكثر التزاور بين ذوي الرحم والقرابات والصديق، وتغص المساجد وجنباتها بالمصلين وبخاصة في صلاة التراويح، ويعكف الناس على تلاوة القرآن الكريم ويختمونه مرات.
إن بيوتنا أيام رمضان ولياليه ينبغي تحويلها إلى مجالس للقرآن الكريم تلاوة وتعليما وحفظا وعرضا:
1-التلاوة الفردية والجماعية للقرآن الكريم، بحيث يجتمع أفراد الأسرة في مجلس واحد، يقرأ الواحد منهم والآخرون يستمعون، ثم يقرأ الثاني وهكذا حتى يكملوا وردهم، ولهم قراءته جماعة كما جرى العمل عندنا بالمغرب في المساجد منذ عهد الدولة الموحدية، حيث ألزم يوسف بن عبد المومن بن علي الكومي الحُفّاظ عند المساء وعند الفراغ من صلاة الصبح بقراءة الحزب، واستمر ذلك إلى عهد أبي الحسن المريني حيث رتب عشرة أشخاص أي جعل لهم راتبا على تلك القراءة الجماعية، وهكذا جرى العمل بالحزب الراتب في المغرب إلى يومنا هذا. قال صاحب “العمل الفاسي” سيدي عبد الرحمن الفاسي:
والذكر مع قراءة الأحزاب
جماعة شاع مدى الأحقاب
2-تعلم التجويد وتعليمه، وهي فرصة مواتية يعلِّم فيها الأب أو الأم أعضاء أسرتهما تجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، إذ لا معنى لتلاوة عارية عن الأداء الحسن. وتُوّجَّهُ العناية أساسا للقواعد التي يكثر دورانها في اللفظ القرآني، كأحكام النون الساكنة والتنوين، والتفخيم والترقيق، والمد والقصر والهمز، والإمالة وبين اللفظين، والوقف والابتداء… ويمكنهم الاستعانة بمعلّم التجويد أو معلّمة الأداء عبر وسائل التواصل، وبخاصة في هذا الظرف الاستثنائي.
3-الحفظ والتعهد والعرض: تخصص الأسرة وقتا في يومها أو ليلتها لحفظ ما تيسر من آي الذكر الحكيم، وتتعهد ذلك بالمراجعة والتكرار كي لا يتفلت من الصدور، إذ القرآن “أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا” كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستظهر بعضهم على بعض، ويصحح بعضهم لبعض التلاوة والمحفوظ. فكثير من النساء أخذن القراءة والقرآن على أزواجهن أو العكس، وأخذ عدد من الناس القراءة على أمهاتهم وآبائهم داخل بيوتهم مع أسرهم. روي عن أم الدرداء الصغرى زوجة أبي الدرداء أنها أخذت القراءة عن زوجها، وأخذ القراءة عنها عطية بن قيس ويونس بن هبيرة وإبراهيم بن أبي عبلة الذي قرأ القرآن عليها سبع مرات. وهذه ميمونة بنت أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني المقرئ روت القراءة عن أبيها، وروى القراءة عنها أحمد ابنها وثابت. وأخذت سلمى بنت الحافظ ابن الجزري القراءات العشر عن والدها، وكانت من الماهرات المتقنات. وعائشة كنبور بنت المقرئ الحسن كنبور قرأت القراءات على والدها بقبيلة الجاية إحدى قبائل تاونات، وقرأ عليها القراءات ولدها المقرئ أبو عبد الله محمد بن العربي اللجائي.
4-الاجتماع على مدارسة آي كلام رب العالمين: وللأسرة تخصيص وقت آخر لقراءة تفسير ميسر يقرب اللفظ القرآني إلى الأذهان، ويساعد على الفهم والتدبر. ثم يتدارسون ذلك فيما بينهم، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُوَنَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهُمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائكَةُ، وَذَكَرَهمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ”. و“التَّدَارُسُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تصحيحا لألفاظه أو كشفا لمعانيه”، وبيوت الله هي المساجد، ويلحق بها المدارس والرُّبُط والبيوت، وبخاصة في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية، فمن أقام الصلاة في بيته وذكر الله فيه وتلا كتاب ربّه عز وجل جُعِل بيته من بيوت الله.