مسؤوليات الأم
في الحديث النبوي الشريف الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالامام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهومسؤول عن رعيته”.
هذا الحديث العظيم يلفت انتباهنا إلى المسؤولية ومعانيها المختلفة، فهي تتجاوز معنى حمل الأعباء وإنجاز المهمات والبحث عن راحة الضمير وتجنب لوم الناس إلى الوقوف بين يدي الله عز وجل غدا يوم القيامة ليسأل الإمام والرجل والمرأة والأب والابن فيثابون إن أحسنوا ويعاقبون إن أساؤوا.
وفقا لهذا الحديث تحدد مجال مسؤولية المرأة وهو بيت زوجها، والمهمة هي تربية أبنائها وحفظ غيبه والحفاظ على الأمانة الموكول إليها رعايتها، لكن وفقا للآية الكريمة التالية تتبين أيضا مسؤوليتها خارج البيت، قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم [سورة التوبة، الآية 72]، فمهمة تربية الأجيال داخل البيت ترسيخ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالبيت هو البرج الاستراتيجي، هو المكان المخصص للتربية والتخطيط للمستقبل، فكل جهد تقوم به الأم أو نشاط تزاوله بمعية أبنائها يصب في هدفها الاستراتيجي: إنشاء جيل يطرح الأنانية الفردية ويبحث عن الخلاص الفردي دنيويا ودينيا، إلى جيل يربط مصيره بمصير أمته، فنهوضه رهن بنهوضها وسقوطها رهن بسقوطه، هما مصيران متصلان لا يفترقان إلا إذا حصل خلل في التربية أو زيغ عن سكة الهدي النبوي.
من داخل بيتها، من داخل برجها تعد الخطة الدفاعية لمواجهة الغزو الذي يغزوها في عقر دارها، غزو الفضائيات الهدامة والاستعمال السيئ للأنترنيت، وثقل العادات التي تجر للخلف وتريدها ألا تخرج وأبناءها عن نمط مرسوم منذ أمد بعيد، يريد أن يجعل منها مجرد حلقة في سلسلة ممتدة في الماضي البعيد.
من داخل بيتها، يجب أن تسهر على وضع الخطط التربوية الكفيلة بجعل أبنائها صالحين يدللون بصلاحهم على حسن أدائها لمسؤوليتها وبرهان صدق على أنها فعلا أم كفؤ.
أما ما كلفها به الله عز وجل من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو متمم للمهمة الأولى، لأن الأبناء – رعيتها المسؤولة عنهم داخل البيت – لا يمكنها احتجازهم داخله، بل لا بد من الخروج إلى الشارع والمدرسة والمجتمع، فما السبيل للمتابعة ومواصلة أداء المهام المنوطة بها؟
لن يتأتى ذلك إلا بوصل هموم ولدها بهموم أبناء الأمة وبنات الأمة، فتواصل التخطيط ورسم الخطط الدفاعية على نطاق أوسع وأشمل حتى يؤتي جهدها هذا أكله بإذن ربه.
الولد الصالح
بعد عمر مديد وطول كبد في هذه الحياة لابد من لقاء الله عز وجل، فينقطع حبل الإنسان بالحياة الدنيا، وبانتهائه ينتهي عمل الإنسان وينقطع إلا من ثلاث، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم نافع أو ولد صالح يدعو له”.
فالولد الصالح من عمل الإنسان، إن كان صالحا فالفضل يعود بعد الله عز وجل إلى الأبوين وما بذلاه من جهد في التربية والتوجيه والقيام بالمسؤولية كاملة، وإن كان فاسدا فيمكن إرجاع فساده إلى تفريط الأبوين وعجزهما عن تسليحه بما يمكن أن يمكنه من مواجهة عاديات المجتمع وهجماته، فلا هو نفع نفسه ولا هو نفع أمته ولا نفع أبويه بالدعاء لهما بعد انقطاع عملهما في الحياة الدنيا، الولد الصالح إذن رابط يصل إلى الآخرة وشجرة مغروسة في المجتمع تؤتي أكلها في الدنيا والآخرة.
وحتى يكون الغراس صالحا والأكل صالحا، نعود لنؤكد على دور الأبوين وخاصة الأم لأنها الأكثر صحبة لأبنائها والأكثر قربا منهم، فلولا صلاحها وقيامها بواجب التربية لما صلحت الأسرة ولما صلح المجتمع، فالأم إذن مدار قوة الأسرة والمجتمع، ووعيها بدورها ومسؤوليتها من شأنه أن ييسر أمورا كثيرة كانت سببا في خراب الأسر وتشرد الأبناء وتسكعهم على هامش المجتمع واستقرارهم في دائرة المنبوذين.
قدسية مكانة الأم
ما يرفع المرأة إلى القداسة إلا أمومتها، وفي هذا السياق يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “ما من أمومة تستحق اسمها وتنال من الله نوالها إن كان العمل فاسدا، إن أنجبت غثاء كغثاء السيل، وإن أساءت تنشئة نسلها وأهملته وأسلمته إلى غيرها من وسط منحل وإعلام مفسد وشارع سائب ورفقة مضلة” [1].
هذه هي الأم التي تستحق اسمها، لأن الأم القوية عماد الأسرة القوية والأسرة القوية عماد الأمة القوية، فليست مهمتها تفريخ أعداد بشرية مهملة لا وزن لها، كثرة غثائية تزيد المجتمع هما فوق همومه المتراكمة عبر سنين العض والجبر.
أم رفع الله عز وجل من شأنها حين خصها بمزيد عناية وذكر بعد أن تحدث عن الوالدين، قال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير [سورة الأحقاف، الآية 14]، ما اعظم الأم تحمل وتضع وترضع وتسهر وتربي وتكون وتصلح، أم واعية بدورها فتقوم به على أكمل وجه لتجنب ذريتها الآلام وحتى تكون أمومتها كاملة سوية غير معوقة.
تلك هي الأم التي جعل الله الجنة تحت أقدامها وأوصانا الحبيب المصطفى بحسن صحبتها وملازمتها، ففي الحديث عن معاوية بن جاهمة أن أباه جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال له: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها، فإن الجنة تحت رجلها”، وفي الباب روايات متعددة مثل: “الجنة تحت أقدام الأمهات”.
لاشك أن هذه المكانة العظيمة تستحقها الأم التي قامت بدورها على أكمل وجه؛ صانت الذرية وجنبتها الوقوع في حمأة الرذيلة بدوام المتابعة والمصاحبة حتى يبلغ أشده ورشده ويصير قادرا على القيام بالأدوار المنوطة به ويكمل المهمة أو تكملها على هدى من الله.
وفقنا الله لحسن تربية أبنائنا وجعلهم قرة أعين لنا ولأمتهم، وعصمهم الله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، بفضله ومنه، ونسأله عز وجل أن يتولاهم بعنايته ورعايته، إنه نعم المولى ونعم النصير وهو خير حفظا.
[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج: 2، ص: 219.