الإحسان أو شهادة الإمام قراءة في كتاب “الإحسان” (2)

Cover Image for الإحسان أو شهادة الإمام
قراءة في كتاب “الإحسان” (2)
نشر بتاريخ

الفصل السابع: العلم

في عالم اليوم الصاخب الموّار، تنصرف أفهامُ عامّة الناس، عند الحديث عن العلم، إلى اختراعات الأرض والفضاء، وعلوم الآلة والذرة والخلية. هذا الفهم الناقص قد نجد نظيرَه حتى عند بعض الدعاة والمفكرين الإسلاميين، لا يتميّزون عن العامّة إلاّ باعتبارهم علومَ الشريعة، من فقهٍ وحديثٍ وأصولٍ وتفسيرٍ، عِلما هاما من العلوم. وتعود أسباب هاتين النظرتين، اللتين يتهددان سمو نظرتنا إلى الدين)، إلى الفجوة الهائلة التي تفصِل عالَم المسلمين البئيس عن عالَم المتفوقين في الصناعة والتكنولوجيا وعلوم الكواكب 1 .

إن نظرة الإمام المجدد إلى مسألة العلم، وهو أساس القوة وسلاح معركة الوجود، جامِعة بين العلوم التجريبية وبين العلوم الشرعية الفقهية، شاملة مطالب الدنيا والآخرة، لا تقبل التجزيء. يقول رحمه الله: ومن الجهاد أن نوقد في الشباب الإسلامي إرادة التقدم بخطى ثابتة إلى معركة بناء القاعدة العلومية التكنولوجية الكفيلة بإعطائنا القوة المادية التي أمرنا (…) بإعدادها (…) لكن الرحلة الشاقة تكون تدحرجا إلى الهاوية إن لم نستحضر، وإن لم نتمثل في صميم صميمنا كل لحظة، أن هذه العلوم والاختراعات وسائل تملّكت البشرية الهائمة (…) واستعبدتها، فهي تسير بها مكرهة مسلسلة في مسلسل الإنتاج والاستهلاك إلى أسفل دركات الدوابية) 2 .

إن هذه العلوم التجريبية، التي ينهب بعضها البحار، ويدمر الأرض، ويطحن وقت الإنسان وصحته النفسية، تظل بلا غاية ولا معنى، إن غاب عن وعي المسلمين أنها وسائل لإعمار الأرض، وإسعادهم فيها، بما يُقرّبهم إلى خالق الأرض والأكوان ويحببهم إليه سبحانه، بل إنها وسائل لبلوغ الإحسان، وهو الرُّكن الأشرف في الدين 3 .

فعلم الآخرة، علم مصير الإنسان، علم الغاية، هو أساس العلوم ومنطلقها. وآلة تلقيه هو القلب، بعد أن يبرأ من علله، ويصفو من كدوراته، في مصحة التربية والصحبة والذكر 4 . قال الله تعالى في سورة الحج: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها (الحج: 46) 5 ، وفي نفس السورة: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (الحج: 44) 6 . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم) 7

إن الإسلام الفكري طامة كبرى، بل من أسباب ضعف الإيمان. لهذا تحدث الإمام رحمه الله كثيرا، في هذا الفصل، عما سكت عنه طوائف من المفكرين الإسلاميين والعاملين لنهضة الدين، جهلا بالدين، أو محاباة لفكر حرفي سطحي، أو خجلا أمام عقلانية الفكر المادي المزهو بصناعاته وآلاته، وهو العقل القرآني المتفكر في خلق الله، الخاضع لجلال الله، وعن علوم الأولياء، والمعرفة، وعين القلب، والفراسة، والذوق، والرؤيا الصالحة، والإيمان بالغيب… يقول: ديننا ناقص إن تمسكنا بإيمان الأخلاق والعبادة والاستقامة والطاعة والجهاد دون تطلع إحساني. ديننا قضية محرفة معكوسة إن اعتبرنا الدين نظاما للجماعة يصوغها ويقنن لها ويوحدها ويوجه جهدها ونسينا أن لله عز وجل قصدا في تمييز العبيد بعضهم من بعض، فرد عن فرد، في سباق أعلن سبحانه انطلاقه في قوله: “سارعوا” “سابقوا” وخصص جائزته العظمى في قوله “كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به”. ماذا يبقى من القرآن إن ألغينا منه حبّ الله للمحسنين، وحبه للتوابين والمتطهرين، وحبه للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وحبه لقوم أذلة على المومنين أعزة على الكافرين (…)! ماذا بقي من القرآن إن جمّدنا معاني أمراض القلوب وطبها وشفاءها وطمأنينتها وتنوّرها! ماذا يبقى بعد إسقاط التوبة والإنابة والإرادة والصحبة في الله والصدق والمراقبة والمحاسبة والذكر والتفكّر والتقوى والمحبة والتوكل ومخالفة النفس الأمارة والشيطان ومحاربة الهوى!) 8 .

وليس هذا العلم الإحساني، وهذا التطلع إلى ذرى المعرفة، والمحبة، والقرب، بأمرٍ خارج عن علوم الشريعة، إنه عليها ينبني، وفي “سياجها” 9 يُطلبُ؛ يقول الأستاذ عبد السلام ياسين عن أهل الله تعالى: هم كانوا ينطقون بلسان الشرع لأنهم كانوا من علماء الشرع الراسخين، ولأنهم قبل كل شيء يعلمون أن ما بلغوه من مقامات القرب عند الله ما كان ليفتح لهم أبوابُه إلا بالاتباع للسنة المصطفوية) 10 .

وقد أورد الإمام الجليل في هذا الباب أقوالَ كثيرٍ من أعلام الصوفية، أكتفي بأحد أعلامهم هو الإمام القدوة عبد القادر الجيلاني رحمه الله القائل: كل من لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذ شريعته في يده، والكتاب المنزل عليه في اليد الأخرى لا يصل في طريقه إلى الله عز وجل) 11 .

الفصل الثامن: العمل

يعقب هذا الفصل فصلَ العلم لأن العمل يستقيم على العلم ويسترشد به، إذ “العلم إمام العمل” كما جاء في الحديث. ومن سمات الربّانية الجمع بين العلم والعمل 12 .

إن أعمال المؤمنين في الدنيا دار البلاء لها معنى ولها غاية. لها معنى لأن الله تعالى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا (الملك: 2)، ولها غاية هي نيل رضى الخالق الكريم، والفوز بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة. حسنةُ الدنيا في حق جماعة المؤمنين المتعاونين هي التمكين في الأرض، والسيادة، والقيادة، والظهور على الأعداء؛ وحسنة الآخرة في حق الفرد الخلود في النعيم، والنظر إلى وجه الله الكريم. ولكلِّ عبدٍ من العباد مِنَ المولى عز وجل جزاء حسب إيمانه ونيّته وإتقانه 13 . يقول ياسين: إن الله الخالق جلّت عظمته عرض على قلوب العباد وعقولهم، كما عرض على جسومهم، العبودية له جل جلاله. وفرض على القلوب والعقول وجوارح الجسم، لكلّ عبودية خاصة، تتكامل هذه بتلك، ولكل عبودية مراسيمها وشروطها وأركانها) 14 . عرضٌ وفرضٌ. أعمال معروضة على من أراد الولاية والعرفان، وأعمال مفروضة على من رغب في السعادة والجنان.

ثم يعرض الإمام الجليل، اعتمادا على أحاديث نبوية صريحة، أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى متراصّة في صرح السلوك الإحساني وهي: الحب في الله والبغض في الله، ثم الذكر، ثم الصدق، ثم البذل، ثم العلم والعمل، ثم السّمت الحسن، ثم التؤدة والصبر، ثم الجهاد. فنعلم من هذا الترتيب المقصود أن شروط الجهاد لإقامة دولة الإحسان والعدل، وهي أكثر الأعمال ظهورا، وأوسعها شمولا، وأبلغها أثرا في حياة الأمة) 15 ، هي أعمال قلبية تربوية تخص كلَّ فردٍ فرد مثلما تخص الجماعة. فلا جهاد بلا صِدق، وتحابّ، وقلوب منوّرة بذكر الله، ولا دولة بلا بذلٍ، وعِلمٍ، وسمتٍ حسن.

على أن إقامة الدولة الإسلامية المنشودة لا تكون بتطبيق فوري للشريعة ينقل المرء والمجتمع من واقع إلى واقع آخر مناقض تماما، بل لا بد من تدرّج يراعي الغُثائية وعِللَها، ومن حكمة في التعامل مع تقلبات النفوس البشرية والضغوط الخارجية والداخلية، وفقه مجدّد يعتبر العصرَ والمصرَ، نابع من الأصول القرآنية النبوية الراشدية (…) على نمط يستفيد من تجارب الأمم في تنظيم الدولة الحديثة المتعددة الوظائف) 16 . يوضح الأستاذ ياسين: لا يخطر ببالي لحظة أن نتنازل قيد أُنْمُلة (…) عن حق الله وحدوده (…) لكن التطبيق لا بد فيه من التدرّج. وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من التدرج سنّة عملية).

وليس حفظ حدود الله تعالى بالعمل اليسير، ولا هو في مقدور كل من حفظ نصوصا ونافح عن الإسلام. فبعد ذكر الآية الكريمة من سورة التوبة: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله (الآية: 112)، يقول المؤلف: انظر الشروط السابقة المشروطة والمبنيَّ عليها أهلية الحفظ لحدود الله. فتطبيقنا للشريعة وحدودها […] يخضع لوجود، بل إيجاد، “الحافظين لحدود لله”).

وانطلاقا من قول الله عز وجل في سورة التغابن: فاتقوا الله ما استعطتم (الآية: 16)، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: “ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيلَه..” 17 ، يكتب الإمام: أي شبهة أغمض غموضا وأدعى للتؤدة ودرء الحدود من غربة الإسلام في بدايته الثانية، وقلة النصير، وتناكر الناس لا يعرف بعضهم بعضا تلك المعرفة الضرورية لتقييد الشهادات بعدل الشاهد، وتقييد القضاء بدين القاضي وعِلمه بالله وشرعه لا بشهادة “الحقوق” و”القرار الإداري”؟ أي شبهة أنكد من شبهة الظلم الحكمي والظلم الاجتماعي ونتائجهما المَرَضية الموخومة إذا اعتبرنا سُنّة أمير المؤمنين عمر الذي أوقف قطعَ السارق عام الرمادة لشبهة طارئة عابرة، في زمن أوج الخلافة، وهي شبهة قحط وسنة عجْفاء! ما سَنَةٌ طارئة ببلاء محدود في الأرزاق بِجَنْب تراكم القُرون بالبلاء والفُتون!) 18 .

إنه لا بد لبناء دولة الإسلام من جماعة منظمة قوية متغلغلة في المجتمع، جماعة واحدة أو جماعات متعاونة متناصرة متحابة متكتلة لنفس الغاية 19 . وهذا البناء يقوم على ركيزتين: سيادة الدعوة على الدولة، والشورى. يقول الإمام المجدد: الواجب بعدئذ إعادة الأمر الواجب طاعة أهله إلى نصاب الشورى، ونصاب قيادة الدعوة للدولة لا العكس) 20 . ويقول أيضا: إن وضعية الدعوة بالنسبة للدولة في الحكم الإسلامي المستقيم هو وضع السيادة غير منازعة فيها. (…) لكن وضع السيادة لا يعني بوجه أن يشتغل الدعاة مباشرة بدواليب الدولة، فتغلبهم على نفوسهم ووقتهم، فيذوبوا فيها…) 21 . وعن الشورى يقول الكاتب رحمة الله عليه: الشورى تهدف إلى إجماع الرأي كما تهدف المحبّة والأخوة لجمع القلوب (…) نعبث بالدين إن لم يكن البرنامج التربوي الدعوي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي المقترح هادفا إلى سَلْك الشورى في خيط الإيمان والإحسان لتكون واسطة عقد الدولة كما هي الصحبة في الله واسطة عقد السلوك الإحساني. (…) والشورى مُلْزِمة وإلا كانت عبثاً) 22 .

الفصل التاسع: السمت الحسن

في هذا الفصل تحدّث الإمام عن سـمت الباطن وإحسان الدين حتى بلوغ الولاية والترقي في درجاتها 23 . والسمت، حسب الراغب الأصفهاني، هو المذهب الحسن في الدين، وهو “جزءٌ من خمسة وسبعين جزءا من النبوّة”، كما جاء في الحديث.

إن هذا المذهب الحسن هو ما سعى إليه ذوو الهمم العالية من الرجال في كل عصور الإسلام، لأنه لبُّ الدين، وجوهرُ الرسالة المحمدية. والواصلون منهم هم أولياء الله تعالى وهم درجات الله ولي الذين آمنوا (البقرة: 256). ولأن ولاية الله تعالى لخاصة المؤمنين هي اللب والجوهر، أفاض الإمام المجدد في الحديث عن المتصفين بها، فوصف أحوالهم والعقبات التي تقف أمامهم. كما جدد الاستشهاد بنصوص من القرآن الكريم والحديث النبوي تصف أحوال أهل الله تعالى ومعاملاتهم، لإثبات وجود الولاية والأولياء لمن ينفون ذلك ممن ينتسبون إلى ابن تيمية، وهو منهم براء. كما ساق أقوالا لشيخ الإسلام تفند مزاعم المنتسبين إليه زورا.

فأول ما يـُميّز وليَّ الله تعالى، بالنسبة إلى الإمام المجدد، هو أنه لا يتميّز بشيء عن عامة الناس في ظاهره. فقد يكون عالما واعظا، أو نجارا، أو تاجرا، أو عاطلا، أو غير ذلك) 24 وقد يكون محتاجا، وقد يعتريه الضعفُ ويُلِمُّ به المرضُ، إنه بعبارة الإمام السرهندي التي جعلها الأستاذ ياسين عنوانا لإحدى الفقرات، ذو “قُبّة بشرية” حاجبة لما منَّ عليه به اللهُ جل وعلا من مواهب وأسرار. يقول الإمام المجدد رحمه الله: المقصود بقبة البشرية هذه البنية الجسمية، ما تتضمنه من وجوه الساكن الروحي وقواه وميوله الهابطة الضعيفة (…) وقد أخفى المولى الحكيم سبحانه سرَّه في أجساد عباده المصطفين، من نبي وولي، فهم بشر كالبشر فيما تراه العين من غالب أحوالهم، وهم بشر ليسوا كالبشر فيما تكنه القلوب الطاهرة، والبصائر النَّيِّرة، والحظ من الله عز وجل، والقرب منه، ومعرفته، ومشاهدته) 25 . ويضيف: هذه الأشياء [من الضعف البشري] تتعلق بالجانب المادي الجسمي النفسي الفاني. فيبقى المحروم مع هذه القشور البشرية في الولي، ويـُميِّز الموفقُ السعيد الخصالَ الخلقيةَ الدينيةَ القلبيةَ التي بها وحدها يتفاضلُ الناسُ، لا بالطول والعرْض، والصحة وبسطة الجسم، والفصاحة والبيان، والأموال والمكانة والمكان) 26 .

وإنه ليس شرطا في الولاية ظهور الكرامة 27 . إنما الكرامة ظهور الاستقامة التي هي اقتحام صاعد لعقبة صاعدة). يحذر الإمام الجليل: يتصوّر عامة الناس أن الولاية تنحصر في أسرار تنزل ومعارف توهب وكرامات تخرقُ العادةَ. وليست الولاية إلا الاستقامة على الصراط المستقيم صراط الذين)أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

إن العبد السالك إلى ربه الطامح إلى مرتبة الرجال لا يصل إلى السمت الحسن بالتقليد وحرق المراحل، ولا بالقول ورفع الشعارات واللافتات، ولا بالانطواء والانزواء ومصانعة شروط التربية، بل انطلاقا من هذه الشروط، وصبرا عليها مع جماعة الصابرين العاملين لإقامة العدل وبسط الإحسان، مرورا بكافة مراحل البناء العدلي والترقي الإحساني. يقول الأستاذ ياسين: دوام الاستقامة يوجب دوام الكرامة، والروَغان عن الطريق غرامة وندامة. فمن استقام على صحبة الكاملين دامت له كرامة التوفيق. ومن انعزل عن جماعة الصالحين ابتلعته الفتنة المحيطة. ومن زهد في حلق الذكر، وزاغ عن الأوراد،و تهاون في الأوقات، قسا قلبُه، وكسلت جوارحُه،و أظلمت روحانيته. ومن عامل الله عز وجل بإرادة مائلة، وأنانية متطاولة، وجبن في مواطن الثبات، وبخل في حلول الحاجات هوى عن العقبة، وسقط فاندقّت منه الرقبة) 28 .

ودون وصول العبد إلى ربه وتحلّيه بحُسن السمت عقباتٌ كَأْداءٌ تتلخص في عوارض النفس والهوى والشيطان والطبع والعادة والأنانية وبلبلة الشك وبلابل سوء الظن) 29 . ومن العقبات أيضا الأحوال. والحال، ويقابله المقام كما هو معروف، هو اتصاف السالك بخلق إيماني إحساني قد يحول ويتغير ويتراجع عنه صاحبه. فإذا تمكن في تلك الصفة سُمّي تمكُّنه ورسوخُه وكسبُه لها مقاما)؛ ويعني أيضا ظهور حركات في الجسم واضطراب في النفس وكسوف في العقل ورجّة في الكيان كله عند غلبة الوارد). هذه الأحوال إذا غلبت صاحبها بلاء ومحنة) 30 ، والسمت المطلوب هو السمت على منهاج النبوة، سمت الصحابة رضي الله عنهم الذين سلكوا تحت صلصلة السيوف، فبلغوا بذلكم الجهادِ الجامعِ ذُرى الولاية والعرفان دون أن يغلبهم حال أو يشطح لهم مقال) 31 .

الفصل العاشر: التؤدة

التؤدة، بتعريف الإمام، هي التأني والتمهل والرفق). وهي من أعظم الخصال وأسْناها وأشملها، لأنها تجب بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل موقف وسلوك، ولدى الجماعة القائدة المجاهدة في كل مشروع تغييري بانٍ وحركة حضارية ناهضة، وأعلى هذه الحركات والمشاريع وأزكاها وأثقلها في ميزان الحسنات مشروع إحياء الأمة وتشييد عمرانها الأخوي. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “من يُحرَم الرفقَ يحرمُ الخيرَ كلّه”. وقال أيضا: “خيرُ دينِكم أيْسَره”. وفي حديث آخر: “إنّ الدينَ يسرٌ”

فمن التؤدة بين الإنسان وأخيه الإنسان الصبرُ، وهو قُوّة)، وشرطُ الفَلاح والنجاح والنصْر) 32 . قال الله تعالى: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل (الأحقاف: 34). وقال جل وعلا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والله مع الصابرين (البقرة: 249) … ويتجلى الصبر خاصة في الصبر على البلايا والمحن، وتحمل الأذى عند مخالطة الناس، والثبات في مواقف الشدّة والعُسْرة.

ومنها أيضا الحياء، وهو شعبة من شعب الإيمان كما جاء في الحديث. الحياء من الناس خُلُقٌ فاضل جميل، له المكانة الطيِّبة في ضبط أقوال المومن والمحسن، وضبط أفعالهما، وإضفاء السكينة والوقار على شخصيتيهما). والحياء من الله سبحانه وتعالى عُروة مكينة متينة إليها يُشَدُّ خُلقُ المحسنين، لهم من خشية الله عز وجل ورجائه النصيب الأوفر كما للمومنين حق الإيمان) 33 .

والمومن المتئد يحسن الظن بالله، عز وجل وبعباده. ليس المومن من راقب الناسَ، وارتاب في سلوكهم، وكفّر هذا وبدّع ذاك، إنما المومن من سلِم الناسُ من لسانه ويده، وخذلانِه واحتقارِه، فإن ساءتْ ظنونُه فبنفْسه وشيْطانه، إلاّ أن يصدر من الآخر ما يقدح في دينه، ويضعه عن مرتبة أهل الثقة، فالواجب الحزم والحذر 34 .

والمؤمن الرفيق ليس ثرثارا يسرع إلى الكلام، إنه صَمُوت متريِّثٌ طويل الفكرة، مُنصِت لمحدثه. وهو مُعتقِد بالقدر خيره وشره، راضٍ بحكم الله فيه دون أن ينزعج باطنه، لا يجادل في القضاء والقدر فإنه “انحراف”. غير أنه لا يتبلّد إزاء القدر، ولا يستكين، ولا يقعد عن اتخاذ كافة الأسباب، فإنه انحراف عملي خطير) 35 .

إن التؤدة، على المستوى الجماعي، تبرز كأول خصلة ينبغي التحلي بها، لا سيّما في المرحلة الانتقالية التي تلي سقوط حكم الجبر، والمرحلة التالية التي يبدأ فيها بناء دولة الإسلام 36 . ومن أهم ما يتفرع عنها، في حق الجماعة المجاهدة أو الجماعات المتعاونة على جهاد البناء العسير، تُؤَدة الصبر والمصابرة والتأني والترفّق والمداراة والتحمل والتهدئة وكظم الغيظ، والتدرّج في قول الحق وعدم قول الباطل. يقول المؤلف: تحتاج الدعوة إلى “)علوم الخطاب والبلاغ” بقدر ما تحتاج إلى “علوم الصمت” حتى لا تقول إلا الحق ولو سكتت مرحليا عن بعض الباطل (…) تحتاج الدعوة، قبل الدولة القرآنية وفيها، إلى الكلمة الهادية الهادئة بدلا عن التشدّد والتشنّج [و] إلى علماء مُتَمَكِّنين شجعانا مُتَّئِدين متسامحين وَرِعين، لا يقعد بهم الجبنُ أمام الجائرين عن الجهر بالحق إبّان المحنة، ولا تستفزُّهم الرئاسة بعد النصر عن التزام الورع، ولا يتجرّؤون على الفتوى بغير علم.

وإن من التؤدة أن تتجنب الطليعةُ المجاهدة الجدل العقيم، والمراء المشتت للجهد، والتشكيك في نوايا المجتهدين من عصرنا، وأن تمسك عن الوقوع في كافة العلماء والصلحاء ممن سبقونا بإيمان. والتحرز واجب من الفصحاء، والبلغاء، وأصحاب الشهادات والمؤلفات، الذين لا تعكس أقوالهم مكنوناتِ صُدورهم 37 .

ويحذر الأستاذ ياسين من الفهم الخاطئ لخصلة التؤدة بقوله: وليس الرفق هو السكوت عن الماضي جملة. فلا بد من ردِّ المظالم، ولا بد من كنس القمامة، ولا بد من التغيير الجذري) 38 . ويضيف: والحكمة (…) تتمثل في التنسيق بين المضاء بعزيمة في إبطال الباطل وإحقاق الحق وبين الترفق والتسكين والتدريج) 39 .

إن من المعتقدات الخاطئة المضلِّلة التي جرّتْ على الأمة الويلات، أفرادا وجماعات، تلك التي قعدت بأصحابها عن الجهاد الدائب لإحقاق الحق، وإزهاق الباطل، وتغيير واقع المسلمين، بل منعت بعضهم حتى من السعي لمعرفة الله تعالى، وتزكية النفس، والخروج من الحاجة والعوز، بدعوى رضاهم بقضاء الله وقدره. يقول المؤلف: إنما تأخرت الأمة عن مصاف القوة، وتردّت تحت سنابك الأقوياء، لتركها الجهاد، ولفشو العقيدة الناقصة التي تأخذ بعين الاعتبار كون ما قدِّر لم يكن ليتخلف، دون أن تعالج الموقف بدواء: “اعملوا فكل ميسر لما خلق له”. ينبغي لجند الله أن يُنازِعوا القدَر بالقدَر على منهاج النبوة ووفق النموذج الجهادي النبوي الصحابي الراشدي. حتى إذا نزل القدر بما لا يصبر على مثله الضعفاء فينبغي أن تتجلى التربية الإحسانية في الموقف القوي، موقف السكينة والثبات والقبول والرضى بالقضاء) 40 . تعني المنازعة العمل الدائب في الأرض، الجامع كل الوسائل لإعلاء كلمة الله تعالى، مع سكون القلب وطمأنينته تحت قضاء الله وقدره. فالمنازع مأجور معزور)، والخامل القاعد آثم مأزور) 41 .

الفصل الحادي عشر: الاقتصاد

تتكامل خصلتا التؤدة والاقتصاد في وحدة أساسية منسجمة ضابطة لعمل المؤمن والجماعة، مُوجِّهة لسيرهما إلى الله جل وعلا. ولئن كانت التؤدة تعني الترفق والتروي وعدم “حرق المراحل”، فإن الاقتصاد بالمعنى اللغوي يفيد السير في الطريق بمواظبة وبدون انقطاع، ويفيد الصمود إلى الهدف المنشود) 42 ، ويفيد في السلوك، السير الحثيث المتواصل بين طرفي الإفراط في الحماس الكاذب الذي يظهر على المبتدئين في السير ثم يخبو ويضمحل، وبين التراخي المالّ المُمِلّ الآئل إلى التوقف والفشل).

إن السلوك إلى الله تعالى يقتضي جهادا مستمرا للنفس والهوى والشيطان، ومدافعة متئدة مقتصدة للباطل وأهله. ما هو جهاد شهر أو سنة، ولا هو تحرّكات ومعاملات وطاعات في مناسبات وأوقات، أو جولات في ساحة الفكر والندوات والدراسات الإسلامية، فالطريق “خطرة” كما جاء في عنوان إحدى فقرات هذا الفصل المحوري، والفتن تعرض على القلوب كالحصير عَوْداً عَوْداً كما ذكر الحديث، والجهاد الدائب لنزغات النفس والشيطان وابتلاءات الخارج هو الذي يعطي للجهاد معناه وقيمته) 43 .

إنه قد يُفني عبدٌ عُمرَه ولا يضع أبدا قدماً في الطريق، وقد يبدأ طالبٌ السيرَ إلى ربه لكنه يتوقف في مرحلة ما من مراحل العقبة، لا يتجاوزها إلى ما هو أرقى وأزكى وأقرب، وقد ينقطع مريدٌ كليا عن المسير ويتردّى في مهاوي الغفلة بعد أن كان من العُبّاد، وكلٌّ حَجَبتْهُ حواجِبٌ، أو أَردَتْهُ مُرْدِياتٌ، أجملها الإمام عبد السلام ياسين في ما يلي: فأكثر العباد لا يريدون الله، إنما يريدون ما عند الله. (…) حجب القلوبَ ما ران عليها وعلاها من أوساخ الذنوب والمعاصي والنفاق وسوء الظن بالله وبعباده والكسل عن الطاعات. حجبهم قرناء السوء واستخفافهم بالصالحين وحسدُهم وقياسهم للآخرين على أنفسهم من صحبة الأخيار وهي الشرط الأول في السلوك. حجبهم الغفلة والعادة والطبع والهوى والأنانية وتأويل كلمة الحق عن ذكر الله وعبادته على قدم السُّنّة، والذكر هو الشرط الثاني في السلوك. وحجبهم كذبهم وتكذيبهم بالحسنى ونفاقهم عن صدق التوبة، وصدق النيّة، وصدق اليقظة، وصدق الاعتقاد، وصدق الطلب مع الصادقين، والصدق هو الشرط الثالث) 44 .

ثم إن للسلوك آداباً يجب مراعاتها أيَّ مراعاة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”. فالأدب إذن هو الدين كله، يشمل آدابَ القول والفعل والتخلّق والنيّة) التي تصدر عن المريد وجه الله تعالى في علاقته بالمصحوب الذي يدلّه على الله، وعلاقته بالجماعة المرافقة له في الطريق، وعلاقته بالله عز وجلّ في الصلاة والذكر وسائر العبادات) 45 .

هذا، وأورد الإمام ياسين في هذا الفصل توجيهات سلوكية لبعض أئمة الطريق ممن أجمعت الأمة على ولايتهم، وكلُّ إمام أفرد له فِقرة، جواهر لا غنى عنها لكل متشوف للإحسان راغب في الكمال، أنقل عن كل فقرة جوهرة تُكوِّنُ مع مثيلاتها عِقدا غاليا مضيئا في السلوك.

قال الإمام جعفر الصادق: ليس العلم بالتعلم، وإنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تعالى أن يَهديَه) 46 .

وقال حجة الإسلام الغزالي: شرط الشيخ الذي يصلح أن يكون نائبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون عالما (…). وكان قد تابع لشخص بصير تتسلسل متابعته إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. (…) المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل. فإن سبيل الدين غامضٌ، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة) 47 .

وهذا توجيه من الإمام عبد القادر الجيلاني: فعليه بالتمسك بالكتاب والسنة والعمل بهما أمرا ونهيا، وأصلا وفرعا. (…) ثم الصدق، ثم الاجتهاد، حتى يجد الهداية إليه والدليل، وقائدا يقوده، ثم مؤنسا يؤنسه، ومستراحا يستريح إليه في حالة إعيائه ونصبه وظلمته عند ثوران شهواته ولذاته، وهنات نفسه، وهواه المُضلّ، وطبعه المجبول على التثبّط والتوقّف عن السير في الطريق) 48 .

وكتب أحمد الرفاعي: سلكت كلَّ الطرق الموصلة فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الافتقار والذل والانكسار) 49 . ويقول أيضا: عليكم، أي سادة، بذكر الله. فإن الذكر مغناطيس الوصل وحبل القرب) 50 .

وشهد أبو الحسن الشاذلي: لن يصل الوليُّ إلى الله ومعه شهوة من شهواته، أو تدبيرٌ من تدبيراته، أو اختيارٌ من اختياراته) 51 .

أما الإمام السرهندي الذي حرر قواعد السلوك تحريرا مجدِّداً) 52 فقال: الشيخ هو الذي بوسيلته تتزكى النفس الأمارة الخبيثة بالذات، وتطهُرُ، وتتخلّص من “الأمّارية”، وتنقلب مطمئنّة). وقال أيضا: الشيخ الحقيقي للكل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. (…) الولادة الصورية منشأ لحياة أيام معدودة، والولادة المعنوية مُستلزِمةٌ لحياة أبدية) 53 .

الفصل الثاني عشر: الجهاد

ينتهي كتاب الإحسان) بفصل الجهاد، دلالة على أن منزلة الجهاد لا يتبوّؤها المومن قفزا، بل لا بد له من صحبة وجماعة، وذكر، وصدق، وسائر الخصال المبسوطة في صفحات الكتاب، واعتبارا لكون الجهاد في سبيل الله لنشر العدل والإحسان طلبا لوجه المولى الكريم هو غاية التربية بالنسبة للفرد والجماعة.

إن الأستاذ عبد السلام ياسين يُميّز بين جِهاديْن: الجهاد القتالي) والجهاد السياسي التربوي البِنائي). وكلاهما يعتبران مرقاةً إحسانية ومدرسة تربوية). يقول عنهما: الجهاد القتالي، إن تعيّن، لا يقيل من الجهاد السياسي قبله وبعده، ولَرُبّما كان الجهاد السياسي التربوي البنائي أصعب منالا وأشقَّ طريقا وأحوج إلى خصال الصبر الطويل والمرابطة المستمرة والرفق من القتال الذي تُهوِّنُ ريحُ الشهادة وكرامات التأييد الإلاهي فيه صبرَ ساعة وصبرَ الإصابةِ).

على أن هذا العمل الجهادي لا يكون كذلك إلا بشرط خلوص النيّة لله عز وجل، والتبرؤ من الأساليب الجاهلية والنوازع النفسية: ظلم، عنف، انتقام … يقول ياسين: إن إخلاص النيّة لله عز وجل هو الطابع الذي يطبع حركتنا بميسم الجهاد. كل تحرّك لا يحمل هذا الميسم فهو فتنة من الفتنة) 54 .

إن أعلى الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر كما جاء في الحديث. والمومنون المجاهدون في الواقع المفتون في صدام دائم متجدد مع حكام الجبر وسدنة الفتنة، مفروض عليهم ذلك مدفوعون إليه لأنهم أحرار لا يعبدون إلا الله ولا يوالون غيره، وأولئك عبدة الدنيا، سجناء الهوى والنفس الأمارة بالسوء. فهم أمام أسلوبين متكاملين للجهاد في الفتنة: أسلوب الصوفية العارفين، وأسلوب العلماء العاملين. أما الصوفية فشأنهم في التعامل مع الحكام والطغاة الترفق والتوسط لقضاء حوائج المسلمين، وإغاثة الملهوفين ودرء الجور عن المساكين)؛ وأما العلماء فـالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). ولكلٍّ أيضا طريقته في جهاد التربية والتعليم والاختلاط مع الشعب في مجالس الذكر والوعظ) 55 .

إن ميدان الجهاد مدرسة) ومصفاة) 56 لتمييز الصادقين من المجاهدين عن أصحاب الدعوى والبلوى. وإن أهم ما يتمايز به الرجال، من حيث المعدن والفطرة الكرم والعقل والخلق وما يتفرع عنها من محامد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:)“كرمُ المرء دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلُقه” 57 .

الجهاد الأعلى يرتكز على الجهاد التربوي الذي كانت له عند السلف أهل الله تعالى طريقتان: طريقة المجاهدة وطريقة الشكر 58 . الأولى تتسم بإمساك خناق النفس والشدة عليها، والزهد الحسي والمعنوي، والمداومة على العزلة والصمت والجوع والسهر والذكر) 59 . والثانية يترجح [فيها] شرط الصحبة، وتحمل همّةُ الشيخ وإشعاعه الروحي قلوب تلامذته حملاً) 60 . أما عند الإمام المجدد رحمه الله، فالجهاد التربوي يتسم بنهله من المعين النبوي الصافي، فيه ما فيه من كلتا الطريقتين، لكنه يبتعد عن كل ما لم تأت به السنة المطهرة، كالعزلة، والمبالغة في الصمت والسهر والجوع، وترك السياسة والحكم. المطلوب يقول الإمام، تربية جهادية جامعة مانعة) 61 على غرار النموذج الصحابي الخالد.

قال الله سبحانه وتعالى: وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا (الجن: 19). يقول العالم المجاهد: أبرز أوصاف القائم أنه عبد لله. وتلبد الكفار على القائم الكريم صلى الله عليه وسلم ومعارضتهم له ومصابرته على الدعوة حتى النصر برنامج كامل، ونموذج هادٍ تُفصِّلُه سيرتُه الجهادية).

إن المؤمنين المجاهدين في سبيل الله في قومة متواصلة من سماتها الأساسية التؤدة والاقتصاد، ونبذ العنف الثوري والحلول الصراعية). قومة قد لا تُراح رائحتُها إن لم تكن هوية القائمين إحسانية 62 . أي فضلا عن الإيمان سليمة من لوثات علماء القصور، سليمة من البدع والتراكمات الطرقية، سليمة من الفلسفة المادية الإلحادية) 63 . وإن أول أهداف القومة القضاءُ على الظلم الأصغر، الظلم السياسي الاقتصادي الاجتماعي الطبقي، لأنه مطيّة للظلم الكبير وهو الشرك 64 .

إن الجهاد لبناء دولة الإسلام معركة طويلة. ولا مناص ليكون هذا الصرح الرباني الأخوي متينا من بناء أُسِّه المعنوي، أي أن يكون ولاء الأمة لمطلبي العدل والإحسان لا للقومية والسيادة والحسب وبرامج الحكومة الإسلامية الصاعدة الهابطة، وحل العقدة المعقدة) التي دشنها الانقلاب الأموي بتسمية الحكم الجبري الوراثي خلافةً، ومحو الفوارق الطبقية باجتثاث أسباب استمرارها وعَوْدتِها 65 .

ولن تعز الأمة الإسلامية جمعاء، وتتأهل لنشر الرسالة المحمدية المطهّرة، وتقوى على حمل لواء قيادة العالم نحو التحرر من الظلم والعنف والجهل إلا بوحدتها. ألا إن الوحدة لا تقوم بإرادة السلطان، وبالحيلة السياسية، بل بتأليف قلوب المسلمين، وتقوية إيمانهم 66 .

خاتمة

اجتهد الإمامُ المجدّد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب الإحسان) أن يدل على الطريق اللّاحب الموصل إلى الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه، ذلك أن الغاية من خلق البشر إنما هي العبادة: وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون (الذاريات: 56). وقد بيّن الإمام أن عبادة الله سبحانه وتعالى حق العبادة لا تعني أبدا، ولم تعن يوما، هجرَ الدنيا باقتصادها وسياستها والانعزال عن الناس. بل يجب وجوبا توسّط ساحتها شهودا بالقِسط، مثلما توسّطها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لإقامة دولة العدل والعمران الأخوي، فبناء صرح الخلافة الثانية كما بناها المبعوث رحمة للعالمين محمد الله صلى الله عليه وسلم.

وإن كان في تاريخ المسلمين من عرف الله تعالى منفردا، وسلك إليه حتى صار من المحسنين وهو في زاوية من زوايا السادة الصوفية رضي الله عنهم، فلأنه في ذلك العصر كان العدل وكان الدين، وكانت الفضائل وكانت الشمائل، وكانت الدعوة مفتوحة أمامها الأبواب؛ أما في عصرنا حيث الظلم شريعة، والفسق قاعدة، وسفك دماء المسلمين سياسة، والحُكم يتكلم فيه الرُّوَيْبِضَة، والأمة جمعاء تحت وطأة الكفر، وخيراتها نهْبٌ لمستكبري العالم، فالحديث عن المعرفة والإحسان مع الانزواء والدروشة باطل من الباطل، وتزوير وتحوير.

إن القرآن الكريم كتاب جهادٍ قبل كل شيء) 67 ، والمنهاج النبوي في تغيير الإنسان والأمة كُلٌّ متماسكٌ يَشُدُّ بعضُه بعضا، بما هو منهاج مجاهدة ومدافعة، منهاج فرد وجماعة. لذا جاء كتاب الإحسان)، كسائر كتب الإمام، جامعا بين السلوك الفردي والسلوك الجماعي، أي بين التربية والجهاد، والأول أُسٌّ ومنطلقٌ للثاني ومرتبطٌ وموثوقٌ به كذلك.

لقد عرض الإمام شروطَ التربية وهي الصحبة والجماعة والذكر والصدق، وأفاض في الحديث عن شرط الصحبة المحوري مستشهدا بكلام الله تعالى، وبأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وبمآثر الصحابة رضوان الله عليهم، وبآراء علماء الأمة وأئمة السلوك وبشهاداتهم الفعلية. كما تحدث عن خصائص الجهاد وضوابطه ودعائمه لإقامة دولة العدل والإحسان بقطع دابر التحالف الظالم الكُفري بين الترف والاستبداد والكفر) 68 ، وعن الجهاد لتحرير الأمة، فتوحيدها بعد القضاء على عوامل الغثائية المتمثلة في انهيار التربية على الإسلام، وقوة الولاء للقومية، واستفحال الطبقية، وفساد الحكم 69 . وإنه لمعركة طويلة في الأنفس والآفاق تتعاقبُ على خوْضِها أجيالٌ.

إنّ كتاب الإحسان) ليس بحثا في التصوف والسلوك، أو دراسة اجتماعية سياسية نابعة من فضول فكري، يُخاطِبُ فيه المؤلفُ مثقفي زمانه أو خبراءَ الحركة الإسلامية والعاملين للإسلام، بل شهادة نورانية فريدة تخاطب كلَّ فردٍ فردٍ في الحاضر والمستقبل، تبلورت بعد تجربة شخصية) مريرة خاض لـُجـّـتها الإمام عبد السلام ياسين بنفسه ودمه بحثا عن الله تعالى، عن المنهاج النبوي في تغيير الإنسان والمجتمع وبناء أمة الرسالة، المنهاج المحمدي الذي على هديه بلغ الصحبُ الأكارم ما بلغوا من معرفة وكمال. شهادة فِعْلِية صَقَلها اطلاعٌ واسعٌ على تجارب وآراء منْ سَبَقونا بإيمان من علماء الأمة ورجالاتها وأئمتها، وتبحّرٌ في علوم الدين منذ بزوغ فجر الإسلام، والتصاق بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وغوْصٌ في دقائق معانيهما.

هذا، وأود أيها القارئ الكريم أن أختم قراءتي المتواضعة للكتاب بهذه الدرر الثمينة للإمام المجدد رحمه الله. يقول: وفي ختام هذا الكتاب أريد بحول الله أن أُذَكِّر أنّ كلّ تحليل لواقع المسلمين نستعمل فيه الآلات الفكرية المستوردة إنما هو تهييء لعلاج الأمة بالتي كانت هي الداء. وأن كلّ محاولةِ تغييرٍ لما بالأمة من شرّ بما تقترحه العقولُ الفارغة من التفكر في خلق الله ما هي إلا تضييعٌ للأمة. وأن المشاريع السياسية والاجتماعية وغيرهما التي تحلم بها وتنتجها وتفرضها على الأمة أفئدةٌ لا تومنُ بالله ولا باليوم الآخر إنْ هي إلا تَيْهٌ في تيه. (…) البداية الوحيدة الصحيحة: التربية ثم التربية ثم التربية).

ويقول أيضا: طوبى لعبدٍ سار مع الصادقين في ركب الجهاد، وصدّق بكلمات ربه وكتابه، وعبد الله حق عبادته، وذكره كلَّ وقته، وتعرض لنفحاته آناء الليل وأطراف النهار، وبذل في سبيل الله مالَه ونفسَه، وجاد بعطائه حتى عمّ بِرُّه المسلمين والخلائقَ أجمعين، وتعلّم عِلمَ الحق وعمل به وعلّمه، وتشبه باستقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتّخذ رِفْقَه صلى الله عليه وسلم أسلوبا، وصبرَه الكريم الجميل أسوةً، واصطباره على مشقات الطريق مثالا، وجهادَه الشريف وجهادَ أصحابه وخلفائه الراشدين من بعده رائداً. طوبى له ثم طوبى. (…) فيا أيها الحبيب القارئ في كتابي هذا! إنما تُكتبُ في مرتبة أعلى من مراتب الإسلام والإيمان والإحسان على مقدار قطعك لحبال الجاهلية في حق نفسك ورعيّتك وأمتك، ومقدار جهادك لها، ومقدار صدقك مع الله، وحبك لله، وذكرك لله) 70 .

واعلم من هنا أن ألف كتابٍ تحفظُه لا يتقدّم بك شعرة في الطريق إلى الله إن لم تنبثق فيك إرادة ويقظة وهمة وطلب ولم تجدْ من يسدد خطاك من رجال عصرك) 71 .


[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، الدار البيضاء، مطبوعات الأفق، ط1: 1998، 2/94-95.\
[2] ن. م.، 2/94-95-96.\
[3] ن. م.، 2/96.\
[4] ن. م.، 2/42.\
[5] ن. م.، 2/66.\
[6] ن. م.، 2/46.\
[7] ن. م.، 2/44.\
[8] ن. م.، 2/96-97.\
[9] الإشارة هنا إلى عنوان فقرة كاملة وردت في نفس الفصل الذي نتحدث عنه وهي “سياج علم الشريعة”.\
[10] ن. م.، 2/21.\
[11] ن. م.، 2/23.\
[12] ن. م.، 2/177.\
[13] ن. م.، 2/103-104-105.\
[14] ن. م.، 2/113.\
[15] ن. م.، 2/107-108.\
[16] ن. م.، 2/156.\
[17] رواه الترمذي وابن حزم.\
[18] ن. م.، 2/139-140-141.\
[19] ن. م.، 2/165.\
[20] ن. م.، 2/154.\
[21] ن. م.، 2/156.\
[22] ن. م.، 2/ الصفحات من 161 إلى 164.\
[23] ن. م.، 2/278.\
[24] ن. م.، 2/199.\
[25] ن. م.، 2/229.\
[26] ن. م.، 2/233.\
[27] ن. م.، 2/199.\
[28] ن. م.، 2/246-247-248.\
[29] ن. م.، 2/253.\
[30] ن. م.، 2/256.\
[31] ن. م.، 2/265.\
[32] ن. م.، 2/289-290.\
[33] ن. م.، 2/307-308.\
[34] ن. م.، 2/321-322.\
[35] ن. م.، 2/299-300.\
[36] ن. م.، 2/314.\
[37] ن. م.، 2/ انظر الصفحات من 330 إلى 333.\
[38] ن. م.، 2/315.\
[39] ن. م.، 2/369.\
[40] ن. م.، 2/302.\
[41] ن. م.، 2/300.\
[42] ن. م.، 2/373.\
[43] ن. م.، 2/388-389.\
[44] ن. م.، 2/380.\
[45] ن. م.، 2/395-396.\
[46] ن. م.، 2/404.\
[47] ن. م.، 2/411-412.\
[48] ن. م.، 2/415.\
[49] ن. م.، 2/422.\
[50] ن. م.، 2/425.\
[51] ن. م.، 2/435.\
[52] ن. م.، 2/443.\
[53] ن. م.، 2/439-440.\
[54] ن. م.، 2/488-489-.490\
[55] ن. م.، 2/474.\
[56] ن. م.، 2/487.\
[57] ن. م.، 2/494.\
[58] ن. م.، 2/451.\
[59] ن. م.، 2/453.\
[60] ن. م.، 2/461.\
[61] ن. م.، 2/485.\
[62] ن. م.، 2/501.\
[63] ن. م.، 2/483.\
[64] ن. م.، 2/503.\
[65] ن. م.، 2/ من الصفحة 506 إلى الصفحة 509.\
[66] ن. م.، 2/ من الصفحة 512 إلى الصفحة 515.\
[67] ن. م.، 2/496.\
[68] ن. م.، 2/504.\
[69] ن. م.، 2/514.\
[70] ن. م.، 2/ الصفحات من 520 إلى 523.\
[71] ن. م.، 1/165.\