لقد أخذتني فترة حيرة في اختيار عنوان المقال، و دار بخلدي الكثير: إحصاء بوصمة الإقصاء -الإقصاء في الإحصاء- ماذا بعد إحصاء الإقصاء؟- أي إحصاء مع الإقصاء؟…. و غيرها كثير، فآثرت أن أترك في العنوان نقط الحذف ليملأها القارئ الكريم بما يوافق قلبه وعقله.
الأمر الثاني الذي أخذ مني مأخذا هو تزاحم المقاربات في بسط الموضوع؛ أأقاربه من الجانب الحقوقي وكيف يحق لأفراد أو مؤسسات إصدار أوامر لا قانونية ولا مكتوبة وكيف تستسيغ مؤسسات وأفراد الانصياع لهذه لأوامر لا قانونية ولا مكتوبة؟ أم أرمقه من الجانب الاقتصادي وماذا ستحدث دريهمات التعويض في حوالة أو منحة أثقلتها الزيادات والغلاء؟ أم أتناوله من الزاوية السوسيولوجية والآثار الاجتماعية على سلوك الذي مورس عليه الإقصاء والذي أحيلت عليه مهمة تدريب النشء على الإشراك والمشاركة والقبول بالغير…. وسلوكيات مُمارس الإقصاء الذي احتكر لنفسه بناء مجتمع متشبع بقيمه الإسلامية والوطنية ومنفتح على الغير)؟ أم أباشر بمقاربة سيكولوجية تعرّي الدركات النفسية المرضية عند أصحاب الإقصاء وما قد تتطور إليه لتصير إلغاء وإرهابا، وتتفحص نفسية من مورس عليه الإقصاء لتبحث ركام الإحباط واللامبالاة وفقدان الثقة في النفس والغير؟ أم أخاطبه من ناحية السياسية المحلية وبركات الدستور الممنوح واختصاصات الحكومة الصورية؟ أم أتأمله من ناحية السياسية العالمية فأربطه بما حصل ويحصل خاصة في مصر وفلسطين وغزّة بالذات؟
تناسلت عليّ المقاربات وتزاحمت فما كان مني إلا أن تركت أمرها للقارئ الكريم مرة أخرى شأنها شأن العنوان كلٌّ حسب أولوياته وتخصصه؛ وآثارت أن أساعده بأن أسرد له أحداث وفصول إقصائي حتى تكون له قاعدة معلومات ينطلق منها في تحليلاته ويضعها في اعتبار استنتاجاته.
دخلت الموقع الالكتروني للمندوبية السامية للتخطيط، أدخلت رقم بطاقتي الوطنية، فنوّه انتباهي إلى أنني لست ضمن لائحة المختارين. أغلقت الموقع وأنا أردد: “خيرا إن شاء الله؛ ربما سجلت متأخرا؛ وربما أن المنتقين يتوفرون على شروط أفضل مني”. وفي اليوم الموالي التقيت زملائي في المهنة؛ فُتح الموضوع فأخبرتهم بالأمر؛ علّق أحدهم: أنت دفعت الطلب قبلي؛ وتعجب الثاني: أنت شجعتني على المشاركة بل أنت من طبع لنا مطبوع الالتزام؛ وختم الأخير -وهو نقابي يساري- بعد أن سألني عن مدى توفر الشروط: إن في الأمر ســـرّا. فهمت قصده؛ وتقاسمنا الشكّ نفسه وانتقلنا إلى موضوع آخر.
في اليوم الثاني من بداية التكوين -السبت 16 غشت 2014- رنّ هاتفي على الساعة العاشرة صباحا لأتلقى مكالمة من أحد الزملاء يخبرني أن نقصا كبيرا في المكونين قد حصل قبل أن يسلم هاتفه للمسؤول عن التكوين يطلب مني التوجه فورا إلى المندوبية قصد الحصول على ورقة إذن للالتحاق في ذلك اليوم بمركز التكوين؛ استحييت من المتصلين أن أرد طلبهما أو أن أصد إلحاحهما. توجهت إلى المندوبية وسلمت للمسؤول مطبوع التسجيل؛ أخذه مني ببشاشة وجه وطلاقة يد وسألني عن مقرّ سكناي رغبة منه أن يرسلني إلى أقرب مركز للتكوين. اصطحبني إلى مكتبه وطلب مني سرد رقم بطاقتي الوطنية فما إن ظهرت له نتائج البحث حتى تغيرت ملامح وجه الرجل؛ ملامح اختلط فيها التعجب والاستغراب وشيء من الخوف. أغلق الصفحة ومال على درج مكتبه أخرج منه ملفّا قرأه منحنيا بسرعة البرق فازداد الارتباك، فتح صفحة أخرى على جهازه تتضمن أسماء لم أتبينها، أغلق الجهاز وخرجنا من المكتب وخاطبني بلغة تتوسل إلى إخفاء الارتباك: سأتصل بالمكون وسأرد عليك. دخل مكاتب شتى وتجاهل وجودي، ولم يتح لعينيه فرصة الالتقاء مع عينيّ فقد أدخل قفص الحرج، قصدته حتى لا أبقي للشك مجالا: لم ترد علي؟ فأجابني بعبارة متقطعة لا تلوي على شيء سيتصل بك المكون. انصرفت رغبة ألاّ أزيد هذا الموظف حرجا أكثر مما غاص فيه واتقاء لأن أسمع الاسطوانة المشروخة: هذه أوامر وتعليمات عليا…
هي كلمات أخيرة صغتها على شكل أسئلة لأترك المجال للقارئ الكريم لاختيار العنوان المناسب والمقاربة الملائمة والبحث عن جواب مقنع عنها: ما جدوى إحصاء وما فائدة نتائجه العلمية في ظل إشراف قوم يمارسون الإقصاء ولا يكادون يملكون من المروءة شيئا؟ كيف يمكن لحويصلة هؤلاء أن تتسع لنتائج إحصاء ستكون بلا شكّ ثقيلة، وهي لم تتحمّل قبول مخالف في الرأي لا يملك إلاّ إرادته ووطنيته وأمانته؟ إذا كان شعار الإحصاء هو “قيمة بلادنا سكانها” فعن أي سكان يتكلمون وأي قيمة يقصدون؟