حلت علينا الذكرى 1445 لمعجزة الإسراء والمعراج، فقد وقعت سنة الحادية عشر من البعثة، قبل الهجرة بسنتين، وهي معجزة خرقت نواميس الزمان والمكان، وربطت الأرض بالسماء، وجعلت العقل البشري الذي يستند إلى المنطق يعجز عن نفي وإنكار دلائلها. وهي معجزة ذكرت في القرآن الحكيم ورويت تفاصيلها على لسان من لا ينطق عن الهوى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حيثيات حادثة الإسراء
تروي كتب السيرة والتاريخ أن الرسول صل الله عليه وسلم عندما بعث إلى قومه قريش عانى وأصحابه الذين آمنوا به وبرسالته التوحيدية من التعذيب والتنكيل والقتل أيضا، واشتد التعذيب والجحود إلى درجة محاصرته وأهله بني هاشم ومقاطعتهم اجتماعيا واقتصاديا، بل وطردهم إلى شعب مكة لأزيد من ثلاثة أعوام؛ من السنة 6هـ إلى 9هـ.
وازداد الابتلاء على قلب أطهر خلق الله عندما فقد سند طفولته وشبابه بموت عمه أبي طالب، والذي التحقت به سريعا زوجه خديجة رضي الله عنها بعد خروج المسلمين من شعب أبي طالب بأشهر، وهي أول من أسلم وآوى وأنفق في الدعوة إلى الله، وكانت بلسم فؤاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رغم ما كان يعانيه من قومه.
تعذيب وحصار وفقد، ابتلاءات متتالية نزلت على روح المصطفى، ولشدة وقعها على قلبه عرف ذاك العام بعام الحزن، فاضطر الرسول للبحث عن مناصر لدعوته خارج مكة، فتوجه إلى الطائف في قصة مشهورة ختمت برحمة جلية فاضت من قلب كريم على لسان ذاكر، في قالب دعاء يحمل بين طياته كل آهات الألم والحزن والرحمة، دعاء أصبح بعده مناجاة كل عبد مضطر ضعيف؛ يفر من قوته إلى حول وقوة العزيز الجبار، دعاء شكى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عجزه إلى مولاه رافعا أكفه قائلا:
“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك” (1).
خرج عليه الصلاة والسلام على وقع حجارة صبيان الطائف التي أدمت قدماه وجسده الشريف مناجيا ربه في حادثة تروي لنا تفاصيلها سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَا رَسولَ اللهِ، هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا” (2).
معجزة الأرض والسماء
بعد عسر وشدة وحزن، أكرم الله نبيه بمعجزة هي من أعظم المعجزات، جمعت بين الأرض من خلال رحلة الإسراء، والسماء في رحلة المعراج، وفي زمن واحد وهو الليل، والتي ذكرها عز وجل في منزل كتابه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء، 1). ويفسر الإمام الشعراوي أن الحق عز وجل نسب المعجزة إلى نفسه؛ حيث ربطت المعجزة بكلمة “سبحان الذي”؛ ومعناه أن الفعل مرتبط بقوة الفاعل وقدرته، وبما أن الفاعل هنا هو الخالق فكل الأحداث التي وقعت في هذه المعجزة تناسب قدرة الخالق وليس قدرة المخلوق وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدرة الخالق لا تخضع لقانون الزمان والمكان لأنه لا ينطبق عليه قوانين البشر (3).
ويعرف الإسراء في اللغة: أنه من مصدر أسرى ويقصد به السير ليلا. أما اصطلاحا فهو انتقال النَّبيّ محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وحدثت المعجزة في 27 من شهر رجب حسب جمع من العلماء، وهو أيضا اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 17 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية.
أما المعراج فهو من اسم عراج، جمع مَعَارِجُ ومَعارِيج، والمقصود المِصْعَدُ والسُّلَّمُ. أما اصطلاحا فهو ليلة صعود الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السَّماء، وذلك في ليلة السَّابع والعشرين من رجب.
وقد اعتاد العرب على أن المسير من المكة إلى المسجد الأقصى والغدوة تكون في شهرين، فكيف يصدقون رجلا يسير إلى البيت المقدس ليلا ويعود إلى فراشه في نفس الليلة؟ إنها حادثة لا يصدقها العقل المادي وإنما القلب المتعلق بالإيمان في كل تجلياته، وهو ما مثله سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
إن الإسراء والمعراج هجرة ثالثة، فارق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم جسما وروحا هذا العالم، ليتلقى من ربه عز وجل في الأفُق الأعلى، وليرى من آياته الكبرى. وعاد العبد المصطفى يحدث أصحابه وقومه بمعراجه ومسراه الشريفين. فكانت خطوة أخرى في طريق الانفصال عن المألوف والعادي والأرضي. ازداد الانفصال بين أمثال أبي بكر ممن اطمأنوا وصدقوا وبين كفرة قريش الذين استهزؤوا وكذبوا (4).
وفي معجزة المعراج تكرم الله سبحانه وتعالى وتفضل على أمة سيدنا محمد دون الأمم السابقة، ففرض عليهم الصلاة لتكون لقلوبهم معراجا من فتن الحياة ومتطلباتها إلى طلب القرب من رب السموات والأرض، فقد فرض الله تعالى في هذه الليلة على الأمة المحمدية خمسين صلاة ثم خفف عنها العدد ولم ينقص من الأجر، فجعلها خمس صلوات بأجر خمسين.
حِكم الإسراء والمعراج
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لكل مسلم يؤمن بالله وبرسوله، فأفعاله وأقواله سنة أمرنا باتباعها والاقتداء به قولا وفعلا؛ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (سورة الأحزاب، الآية 21)، وما معجزة الإسراء والمعراج إلا رسالة ربانية لنبيه وأمته إلى يوم القيامة، فعلى كل مسلم أن يدرك عبر وحكم هذه المعجزة العظيمة، وقد أفاض العلماء على مر الزمان في استخلاص الدروس والحكم، منها:
1) اليقين: المعجزة استجابة فورية للدعاء الذي ناجى به رسول الرحمة ربه في الطائف، يقين تام بأن الكريم إذا أعطى أدهش.
2) الابتلاء: سنة الله في خلقه ولو كان خاتم الأنبياء.
3) الإيمان: عبودية قلبية تترجمها الحواس والأفعال.
4) الصدق: برهان المومنين عند الابتلاءات والمحن. بعدما جاء كفار قريش أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلهم ينالون منه شكا أو ريبا من خلال المعجزة المباركة قال: “لئن كان قال فقد صدق، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة”. ولذلك سمي أبو بكر “بالصديق” رضي الله عنه.
5) المسجد الأقصى وما حوله أرض مباركة مقدسة.
6) الصلاة الصلاة.. معراج العبد إلى السماء.
7) الدعاء عبادة في السراء والضراء.
إن معجزة الإسراء والمعراج رسالة جلية تبين أن الإيمان مقره قلب سليم مصدق، وهي معجزة تتجدد معانيها في الأمة المحمدية إلى يوم الدين.
(1) رواه الطبراني في “الدعاء” (ص315)، وابن عساكر (49/152)، ورواه الخطيب البغدادي في “الجامع لأخلاق الراوي” (2/275) وغيرهم..
(2) رواه مسلم في صحيحه، 1795.
(3) عن معجزات الإسراء والمعراج، الشيخ محمد متولي الشعراوي، مع الإعلامي أحمد فراج عام 1971م. https://www.youtube.com/watch?v=nUBI3kHMDbk
(4) عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص: 73.