كيف انتقل فهم الإسلام وتطبيقه والتخلق به عند الفرد وعند الجماعة من الاجتهاد والتجديد والإبداع، كما كان في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ومع المجددين الذين يبعثهم الله على رأس كل قرن، كيف انتقل إلى التقليد والجمود؟
كانت التربية والتعليم والتدريب وتدبير شؤون تدين المسلم وأعماله ومعاملاته، وكذا تدبير شؤون الدولة والجماعة، تنطلق من المبادئ وتنضبط بالحدود، لكنها كانت تجدد في الأساليب والوسائل والكيفيات، وتجتهد لتتكيف مع الظروف الزمانية والمكانية والبشرية حتى تتمكن من تحقيق الأهداف والغايات والمقاصد العدلية والإحسانية للدين.
لذلك تأسست المذاهب، يعني الاجتهادات والتجديدات والتكييفات حسب ظروف زمان ومكان النوازل وأصحابها، التي تخدم الغايات دون خرق الحدود والمبادئ.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الصحابة الكرام القرآن ويربيهم على أخلاقه ويبين لهم حدوده، وهو الشِّرعة، أي المبادئ والحدود والأهداف والغايات والمقاصد. وكان يعلمهم كذلك المنهاج، أي السنة، يعني طريقة وكيفية الانطلاق من المبادئ واحترام الحدود والسير نحو تحقيق الأهداف والغايات والمقاصد..
يعلمهم ويربيهم ويدربهم على كيفية ذلك وطريقته تدرجا من الإسلام إلى الإيمان ثم الإحسان.
ويعلمهم ويربيهم ويدربهم على كيفية ذلك في بناء الجماعة وتنظيم وظيفة الدعوة وتدبيرها.
ويعلمهم ويربيهم ويدربهم على كيفية ذلك في بناء الدولة وسياسة شؤونها في خدمة الأمة والدفاع عنها.
وهذا الثلاثي المنظوم بترتيبه المهم هو كذلك من المنهاج ومن السنة النبوية.
أولا: التربية ..
نعم أولًا الإسلام، وأولًا الصلاة ثم الأركان الأخرى.
ثم الإيمان، الذي يجدده الذكر ويقويه وكذلك النفْل.
ثم الإحسان، الذي يُتم التربية ويُتقن العمل ويُحسّن الخلق.
وبعد التربية والإسلام والصلاة والذكر، تأتي الشورى؛ وهي أهم كيفية في بناء الجماعة والدولة.
لما صمم الحكم الفردي على العض على الأمة، بعد الخلافة الراشدة، أول ما بدأ بكسره هي الشورى والجماعة حتى يُفرق ليسود.
تكسرت إذن الجماعة الأولى إلى فرق وطوائف، رؤساؤها يربون أتباعهم على التقليد.
واجتهد علماء الأمة المجددون على جمعها فيما سموه بـ”السنة والجماعة”، وفي تأسيس المذاهب الجامعة، واجتهد الملوك الصالحون في جمع الأمة بالعدل، وجاهد القائمون من آل البيت ضد المُلك المفرِّق وحاولوا الجمع.
كانت هذه المحاولات للترميم والتجديد، مما يصيب البناء من كسر وتخريب، تصطدم بالمُلك الذي كان يحارب أولئك المصلحين المجددين ويحاصرهم أو يحتوي بعضهم ويدجنهم.
لكن عندما تفشى الجهل بسبب الفرقة والتعصب للفرق والطوائف وبسبب التقليد، اختار العلماء سد باب الاجتهاد.
في عهدنا هذا، عهد الفتنة، وصل الفهم إلى دركه والفرقة إلى تمامها في كل شيء، واختلطت في الفهم المبادئ والحدود والأهداف والغايات والمقاصد بالكيفيات والأساليب، وتخلفنا عن السنة والمنهاج النبوي، الذي يجمع ويرتب وينظم ويوجه ويحفز.
ينطلق من المبادئ ويقف عند الحدود ويجدد في الأساليب والوسائل ليخدم الأهداف والغايات والمقاصد للفرد والجماعة.
عندما افتُقد المنهاج والسنة افتُقد التجديد وهيمن التقليد.