الإصلاح بين الزوجين أو الوساطة الأسرية

Cover Image for الإصلاح بين الزوجين أو الوساطة الأسرية
نشر بتاريخ

المقدمة

الأسرة مشروع مجتمعي إنساني، لا ينحصر في تحقيق زواج وإنجاب، كما لا يرتكز على مصالح فردية بمعزل عن الأطراف المكملة لهذه النواة، هي مشروع ذو بعدين، بعد تربوي اجتماعي وبعد تنموي حضاري، لإعداد جيل قيادي منتج، يعي مهامه وأدواره، وينخرط في المشروع بفاعلية. والطلاق هزة قوية تزلزل هذا البناء الصغير في حجمه الكبير في أبعاده وتأثيراته، سيهتز لها المجتمع كله مجبرا، إن هو لم يتخذ التدابير اللازمة مسبقا، ولم يحاول الترميم قبل السقوط نظرا لما تعيشه الأسرة من معاناة تهدد استقرار أفرادها النفسي والاجتماعي.

تفككت الأسر في غياب وسائل بديلة لحل النزاعات الزوجية، كما ضعفت ثقافة إصلاح ذات البين بضوابطها، وتراجع التضامن المجتمعي والتكافل الاجتماعي، وضاع ضابط من أقوى ضوابط التماسك الأسري ألا وهو الصلح والوساطة بين الأطراف كما أمر الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا 1. فمشاركة العيش والمعاشرة، وأمام ضواغط الحياة، لا بد أن تنتج خلافات، وأمام العجز عن حسن تدبيرها من طرف الزوجين أوالصمت عنها، ذاك الصمت القاتل ببطء لروابط هذه النواة، يتحول الخلاف إلى شقاق مع مرور الزمن ثم… إلى طلاق موثق أو طلاق معنوي، وكلاهما يخلف آثارا نفسية، خاصة على الأبناء، وبالتالي المعاناة تنتج عنها معاناة أكبر، لهذا يتزعزع عرش الرحمن، ولهذا يسمع الله قول التي تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها ويستجيب لشكواها من فوق سبع سموات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينصت لها جسدا وقلبا وروحا.

فهل حظيت أسرنا بهذه الدرجة من الاهتمام الجماعي؟ وهل تزعزعت قلوبنا لتزعزع صرح الأسر كما تزعزع عرش الرحمن؟ هل لقيت شكاوى الأزواج آذانا صاغية بأمانة كما أصغى حبيب الخلق؟ وهل كانت الجهود المبذولة من المتدخلين للصلح تراعي المقاصد الشرعية والنفسية للأفراد؟ أم أنها اجتهادات من باب الواجب لم ترق إلى المستوى العدلي الإحساني؟

إن أي عملية إصلاحية حقيقية، لإنقاذ الأسر من التفكك، لابد أن تستند إلى مقاربة سوسيولوجية وسوسيوثقافية إلى جانب المقاربة الدينية، فدمج العوامل الاجتماعية والثقافية والسلوكية في منهجية الإصلاح من شأنه أن يساعد بشكل كبير في تشخيص الكثير من الاختلالات، هذه الأزمة لا يمكن تجاوزها إلا عبر الانفتاح على الآليات التي تتيحها الأدوار الاجتماعية كبدائل في إطار ممأسس أو حر حفظا للأمن النفسي والاجتماعي للأفراد والمجتمع ككل.

سيرورة الإصلاح بين الزوجين

عرف التراث الحضاري الإنساني للمجتمع، المتمثل في الأعراف الشعبية ودور الشيوخ ورجال الدين وأعيان القبيلة أو الجماعة التي ينتمي إليها الأطراف المتنازعة؛ دورا مهما في الإصلاح ولمّ الشمل واسترداد الحقوق، هذه الفئات من المجتمع كانت تقوم بدور الوسيط المصلح، تحل النزاعات والصراعات وتوفق بين الأطراف في المواقف والمصالح بشكل ودي ومرضي واختياري لحل متفاوض بشأنه، كمؤسسات أو تنظيمات اجتماعية، تلعب أدوارا اجتماعية، تحكمها علاقات اجتماعية، وتشتغل على المشاكل الاجتماعية…
والملاحظ أن عملية الصلح أو الإصلاح أصبحت تعرف نوعا من العجز في إعادة الروابط الأسرية على أساس توافقي تراعى فيه مصلحة الطرفين المتنازعين، فالمتدخلون يتعاملون غالبا مع الطرفين المتنازعين على أساس غير متكافئ، ولتحقيق هذا التكافؤ أوصى المشرع بأن شرط نجاح التدخل “الرغبة الصادقة للحكمين في الإصلاح، ومن الأفضل أن يكونا من أهلهما معا كما قال القرطبي، تحقيقا للعدل والحياد في الحكم، وإن تعذر يختار كل منهما من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه، والإصلاح يكون بالجمع أو التفريق” كما قال أبو شقة رحمه الله، إصلاح أو تفريق إن استدعى الحال، حفاظا على عدم كسر النفوس وإلحاق الضرر بها، ولكي لا نخسر طاقات وكفاءات وأفرادا صالحين لهذه الأمة.

هذا الدور العظيم الشريف في الإصلاح يتطلب إحاطة شاملة بحيثيات الأفراد الاجتماعية والنفسية والثقافية، والإنصات التام، تفاديا لكارثة الطلاق، إذ الطلاق كشف حساب، الطلاق كارثة، الطلاق أبغض الحلال إلى الله كما جاء في الحديث، إن لَم يستَبِدّ العقل والموازين الدينية الخلقية عند الاختيار، فإن العقل يستغاث به عند الأزمة لينقذ الموقف، بهذا أمر الله عز وجل حين كلفنا بالنظر والمساعدة قبل الزواج في قوله: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ، وبهذا كلفنا وأمرنا عند ظهور أمارات الخراب في قوله عز من قائل: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً. حَكَم من أهله وحكَم من أهلها، عاقلان رائدهما الحكمة لا العاطفة” 2.

الهدف من الإصلاح

أن تعرف الأسر استقرارا نفسيا واجتماعيا، وأن يعي الأفراد عظم المسؤولية ويتجندوا لها، وأن يعمل المتدخلون باختلافهم على تماسك هذه الوحدة، ولنقلص من عدد الأطفال ضحايا الطلاق؛ فقد أبرز العديد من الباحثين في مجال علم النفس أن الإنسان ينمو جسديا ونفسيا بشكل أفضل ومتوازن فقط عند تلقيه رعاية يملأها الحب والأمان، وبالتالي لا يمكن إشباع هذه الحاجيات إلا داخل وسط يسوده الاستقرار، فالحرمان بسبب الخلافات المستمرة، وانشغال الآباء بمشاكلهم الشخصية، من شأنه أن ينعكس على تماسك الأسرة ووحدتها، سواء فيما يخص علاقة الأزواج مع بعضهم البعض أو فيما يخص علاقة الآباء بالأبناء. دون أن ننسى الواجب المجتمعي في تعزيز العلاقة الزوجية وتقويتها قبل الاضطرار إلى ترميمها، إن كان إبليس وجنوده يتظافرون الجهود لكسر اللبنة الأساس للأمة، فكيف لا تتظافر جهود المؤمنين لتمتين البناء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دون كسر طرف لحساب الآخر أو إلزام بغير رضى، جمع صلى الله عليه وسلم ووفّق وسوّى برفق ورحمة ولين ورضى واختيار، والتأييد من الله لمن أراد الإصلاح قبل الصلح.


[1] سورة النساء، آية 35.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 149.