الإفتاء في فقه الإمام الشاطبي.. الأحوال والأقسام والأحكام (3)

Cover Image for الإفتاء في فقه الإمام الشاطبي.. الأحوال والأقسام والأحكام (3)
نشر بتاريخ

ثالثا: الإمام الشاطبي وموقفه من الفقه الواقعي والافتراضي (التقديري)

ناقش الإمام الشاطبي مسائل المفتي والمستفتي، أحوالا وأقساما وأحكاما، في الجزء الرابع من سفره الفريد الموسوم ب (الموافقات) وفصل فيه تفصيلا مدهشا ودقيقا، ربما لم يسبق إليه مطلقا، في النظر الثاني من كتاب لواحق الاجتهاد، الذي قسمه إلى نظرين اثنين (قسمين) وجاء تحت عنوان: في أحكام السؤال والجواب، وقد أورد في ست مسائل وفصلين على التفصيل التالي:

المسألة الأولى: في بيان الأحوال التي يلزم فيها العالم (المجتهد) أن يجيب المتعلم

تحدث في هذه المسألة عن السؤال، وبين أن السؤال يقع إما من العالم (المجتهد) أو يقع من غير العالم (المقلد).

وقسم أحوال وقوعه إلى أربعة أقسام:

الأول: سؤال العالم (المجتهد) عالما آخر

أجازه من ستة وجوه على سبيل الحصر، كونها وجوه خارجة عن التقليد، وذلك أن الإمام الشاطبي يرى عدم جواز سؤال المجتهد مجتهدا أخر في رتبته في حكم النوازل والحوادث مما يتوجب عليه الرجوع فيها إلى اجتهاد نفسه.

يقول الإمام الشاطبي في (الموافقات) الصفحة 230 (ج 4) وما بعدها:

إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم. وأعني بالعالم المجتهد، وغير العالم المقلد. وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسؤول عالما أو غير عالم).

فهذه أربعة أقسام:

الأول: سؤال العالم: وقد أجازه فقال

وذلك في المشروع يقع على وجوه، كتحقيق ما حصل، أو رفع إشكال عنّ له، وتذكر ما خشي عليه النسيان، أو تنبيه المسؤول على خطأ يورده مورد الاستفادة، أو نيابة منه عن الحاضرين من المتعلمين، أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم).

الثاني: سؤال متعلم لمتعلم مثله

وهذا أجازه، وعدد الإمام الشاطبي وجوهه فقال:

سؤال المتعلم لمثله. وذلك أيضا يكون على وجوه: كمذاكرته له بما سمع، أو طلبه منه ما لم يسمع مما سمعه المسؤول، أو تمرنه معه في المسائل قبل لقاء العالم،)أو ىالتهدي بعقله إلى فهم ما ألقاه العالم).

الثالث: سؤال العالم للمتعلم

وقد أجازه الإمام وفصل أحواله فقال:

وهو على وجوه كذلك، كتنبيه على موضع إشكال يطلب رفعه، أو اختبار عقله أين بلغ؟ والاستعانة بفهمه إن كان لفهمه فضل، أو تنبيهه على ما علم ليستدل به على ما لم يعلم).

الرابع: سؤال المقلد للعالم

وأجازه الإمام إن كان بغرض طلب علم ما يجهل مما لا يدخل في الاجتهاد فقال:

وهو الأصل الأول، سؤال المتعلم للعالم. وهو يرجع إلى طلب علم ما لم يعلم).

وقبل أن يفصل الإمام في القسم الرابع، بين جواز الجواب عن الأقسام الثلاثة الأولى، دون جعله لازما شرعا، وذلك شريطة أن لا يكون الجواز بوجود مانع شرعي يقلب الجواز إلى حرمة، أو أن يكون المانع العجز عن الجواب، يقول:

فأما الأول والثاني والثالث فالجواب عنه مستحق إن علم، ما لم يمنع من ذلك عارض معتبر شرعا، وإلا فالاعتراف بالعجز).

ثم فصل الإمام في القسم الرابع فقال:

وأما الرابع فليس جواب بمستحق بإطلاق، بل فيه تفصيل:)فيلزم الجواب إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا عليه في نازلة واقعة أوفي أمر فيه نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم، لا مطلقا، ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب.)وألا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف، وهو مما يبني عليه عمل شرعي، وأشباه ذلك.)وقد لا يلزم الجواب في مواضع، كما إذا لم يتعين عليه. أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع.)وقد لا يجوز، كما إذا لم يحتمل عقله الجواب.)أو كان فيه تعمق.)

أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط وفيه نوع اعتراض ولا بد من ذكر جمل يتبين بها هذا المعنى بحول الله في أثناء المسائل الآتية).

ويفهم من كلام الإمام، أن المجتهد عندما يسأل، يكون موقفه من الجواب على مراتب ثلاثة:

المرتبة الأولى: وجوب الجواب

وفصل هذه المرتبة إلى حالات:

الأول: إذا قدر على الاجتهاد.

الثاني: إذا تعين عليه الجواب ولم يكن في البلدة مجتهد غيره، وذلك سيرا على قول من قال بجواز رد المفتي الفتوى وعدم الجواب إن وجد من هو كفؤا له شرعا.

الثالث: إذا كانت المسألة منصوص عليها حتى وإن لم تقع للسائل.

الرابع: إذا كان السائل يستوعب جواب المجتهد.

الخامس: أن لا يكون في الجواب تكلف وتعمق بالنسبة للسائل.

السادس: أن يبنى على الجواب عمل تكليفي.

السابع: ما دار حول الأصول الست سابقة الذكر.

المرتبة الثانية: عدم وجوب الجواب

ذلك في الحالات التالية:

الأولى: في حال لم يتعين عليه الفتوى ووجد مجتهد غيره.

الثانية: إذا اجتهد وبذل وسعه ولم يصل رأي في المسألة.

المرتبة الثالثة: عدم جواز الجواب

وذلك في حالات ثلاثة:

الأولى: عدم احتمال عقل السائل لجواب المجتهد واستيعاب رأيه.

الثانية: أن يترتب على الجواب تعمق وتكلف للسائل، لا يقدر عليه.

الثالثة: إذا كان سؤال السائل مجرد أغاليط وتلاعب بالألفاظ لمجرد الجدل أو تعجيز المجتهد.

المسألة الثانية: مقدار ما يجوز من السؤال والجواب عنه

بعد أن ناقش الإمام الشاطبي في المسألة الأولى السؤال بصورة عامة، ففي المسألة الثانية ناقش مقدار ما يجوز من السؤال والجواب عنه.

وقد استهل المسألة الثانية بقوله: الإكثار من الأسئلة مذموم).

ثم ذهب يستدل ويبرهن فقال:

“والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح.

ومن ذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم (المائدة 101 الآية).

وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قرأ: ولله على الناس حج البيت (آل عمران 97) الآية. فقال رجل: يا رسول الله أكل عام؟ فاعرض، ثم قال: يا رسول الله أكل عام؟ ثلاثا، وفي كل ذلك يعرض. وقال في الرابعة: “والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم. فذروني ما تركتكم”. (مسلم)

وفي مثل هذا نزلت: لا تسألوا عن أشياء (المائدة 101) الآية.

وكره عليه الصلاة والسلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وكان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم، وقال: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تتعدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها”. (النووي في الأربعين عن الدارقطني).

وقال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، ما سألوه إلا عن ثلاث عشر مسألة حتى قبض (صلى الله عليه وسلم)كلهن في القرآن: ويسألونك عن المحيض (البقرة 222) ويسألونك عن اليتامى (البقرة 220) يسألونك عن الشهر الحرام (البقرة 217) ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

يعني أن هذا كان الغالب عليهم.

وفي الحديث: “إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه فحرم عليه من أجل مسألته” وقال: “ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالكم واختلافهم عن أنبيائهم”” (مسلم).

وقال يوما وهو يعرف في وجهه الغضب، فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما، ثم قال: “من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم عنه ما دمت في مقامي هذا” قال: فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك، وأكثر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: “سلوني” فقام عبد الله ابن حذافة السهمي فقال: من أبي؟ فقال: “أبوك حذافة” فلما أكثر أن يقول”سلوني” برك عمر ابن الخطاب على ركبتيه فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا قال: فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال عمر ذلك وقال: “والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر” (الشيخان).

وظاهر هذا المساق يقتضي انه إنما قال: “سلوني” في معرض الغضب، تنكيلا بهم في السؤال حتى روى عاقبة ذلك ولأجل ذلك ورد في الآية قوله: إن تبد لكم تسؤكم (المائدة 101).

ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: “لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون”.

وقال الربيع ابن خيثم: يا عبد الله ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (صاد 86).

وعن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن.

وفي الحديث أنه علية الصلاة والسلام: “نهى عن الأغلوطات” (أحمد وأبو داوود ). فسره الأوزاعي فقال يعني صعاب المسائل.

وذكرت المسائل عند معاوية فقال أما تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن عضل المسائل وعن عبدة ابن أبي لبابة قال: وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني يتكاثروني بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم.

وورد في الحديث: “إياكم وكثرة السؤال” وسئل مالك عن حديث: “نهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال” (الشيخان) قال: أما كثرة السؤال فلا أدري أهوما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسائل وعابها. وقال الله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم (المائدة 101). فلا أدري أهو هذا أم السؤال في الاستعطاء؟

وعن عمر ابن الخطاب أنه قال على المنبر:

أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن فإن الله بين ما هو كائن. وقال ابن وهب: قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل: يا عبد الله ما علمته فقل له ودل عليه وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء.

وقال الأوزاعي: إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط.

وعن الحسن قال: عن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل يعنتون بها عبد الله. وقال الشعبي: والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري، قلت: من هم يا أبا عمر؟ قال :الأرأيتيون وقال ما كلمة أبغض إلي من “أرأيت”.

وقال أيضا لداود: ألا أحفظ عني ثلاثا:

إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت ،فإن الله قال في كتابه: أرأيت من اتخذ إلهه هواه (الفرقان: 43) حتى فرغ من الآية…

والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء، فربما حرّمت حلالا أو حللت حراما…

والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك.

وقال يحي بن أيوب: بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون إذا أراد الله أن لا يعلم عبده أشغله بالأغاليط.

والآثار كثيرة”.

ثم يخلص الإمام بعد سوق الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، إلى أن كثرة السؤال وتتبع الأجوبة بأسئلة أخرى نظرية عقلية جدلية تستند إلى المنطق المذموم غير محمود، يقول في ذلك:

“والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم. وقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه.

وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم.

ألا ترى ما في الصحيح عن أنس قال: نهينا أن نسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع.

ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل فجلس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها، ثم أخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه جبريل وقال: “أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا” (مسلم).

وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا وكان أصحابه يهابون ذلك.

قال أسد بن الفرات ـ وقد قام على مالك ـ وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلوني اسأله عن المسالة، فإذا أجاب يقولون قل له فان كان كذا، فأقول له، فضاق علي يوما فقال لي: هذه سليسلة بنت سليسلة إن أردت هذا فعليك بالعراق.

وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي.

وقد جاء عن عائشة إن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، فقالت لها: أحورية أنت؟ إنكارا عليها السؤال عن مثل هذا.

وقضى النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنيني بغرة فقال الذي قضى عليه: كيف اغرم مالا شرب ولا أكل، ولا شهق ولا استهل، ومثل ذلك بطل؟فقال عليه الصلاة والسلام: “إنما هذا من إخوان الكهان” (مسلم).

وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم فقال: هي السنة يا ابن أخي. وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة”.

ثم يفصل الإمام بين المسألتين الثانية والثالثة بفصل، يعالج فيه المواضع التي يكره فيها السؤال ويذم، وهي عشرة مواضع.