الإمام أحمد بن حنبل: همة وقوة الفتى مع المحبرة إلى المقبرة

Cover Image for الإمام أحمد بن حنبل: همة وقوة الفتى مع المحبرة إلى المقبرة
نشر بتاريخ

أسهب العلماء في تعداد معاني وخصال الفتوة بما يشمل القوة والشجاعة وعلو الهمة والخدمة والبذل، وبكونها منزلة عظيمة لدى أرباب السلوك إلى الله تعالى وجامعة لمكارم الأخلاق وغيرها من الصفات، لكن العالم الرباني الزاهد بشر الحافي لخصها مجتمعة في رجل من معاصريه كان وحده أمة في زمانه بقوله “كان أحمد بن حنبل فتى لأنه جمع كل هذه الخصال”.

 شهادة من أحد كبار الأولياء الأئمة في حق رجل يكفينا في تعريفه ما قال فيه الإمام الشافعي “أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة”. كما أنه استحق الإمامة في الصبر على المحن والثبات على الحق بقوة أمام جور السلطان وفرض العقائد الفاسدة بسلطة السيف على الأمة.

وأثنى عليه الإمام الشافعي بقوله “خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أروع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل”. شهادة إمام في حق إمام صنعه الله عز وجل على عينه منذ البداية في حضن أم صالحة نذرت ابنها خالصا لطلب العلم وتحصيله بهمة حتى صار أحد أئمة المذاهب الأربعة التي يتبعها أهل السنة والجماعة حتى يومنا هذا.

الأم الصالحة محضن الفتوة الأول

كان وراء الإمام العظيم (164-241 هـ)، أم صالحة صوامة قوامة حافظة للفطرة هي صفية الشيبانية التي تولت تربية وحيدها أحمد يتيما بعد وفاة والده. ونشأ في بغداد دار العلم وحاضرة العالم الإسلامي. وكانت أمه تشرف مباشرة على تربية ولدها ولم تتركه لغيرها من أقاربه وكانت ترسله إلى المعلم في الكتاب.

ويقر الإمام أحمد بن حنبل بفضل أمه ويفتخر بها قائلا: “حفظتني أمي القرآن وأنا ابن عشر سنين، وكانت توقظني قبل صلاة الفجر وتحمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة، وتلبسني ملابسي، ثم تتخمر وتتغطى بحجابها وتذهب معي إلى المسجد لبعد بيتنا عن المسجد ولظلمة الطريق!”.

كان الفتى، من حرصه على أن يكون قريبا من حلقة المحدث ليسمع بوضوح، يريد الخروج قبل الفجر، ولكنها كانت تمنعه من ذلك حتى يؤذن المؤذن كي تأمن عليه وهو صغير في الذهاب بمفرده للتعلم.

ورغم ظروف الفقر والحاجة، لم تقبل السيدة صفية أن يشغل ابنها هم المعاش عن طلب العلم فعملت في الحياكة لتنفق على بيتها. وكان الفتى أحمد يعمل في لقط الحب بالموازاة مع طلب العلم خاصة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه تفوق وتميز عن أقرانه من أبناء الأغنياء الذين كانوا معه آنذاك في حلق العلم. ونشأ على العبادة والتقوى والزهد إذ يقول عنه إبراهيم بن شماس: “كنت أرى أحمد بن حنبل يُحيي الليل وهو غلام”.

ولم تجعل الأم محبتها وخوفها الشديد عائقا أمام مضي ابنها في مسيرته، بل شجعت فتاها الوحيد لينطلق في الأمصار طلبا لعلم الحديث. يقول الإمام أحمد عنها “فلما بلغت السادسة عشرة من عمري، قالت لي أمي: اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد”. وقال: “فأعطتني متاع السفر عشرة أرغفة شعير، ووضعت معها صرة ملح، وقالت: يا بني! إن الله إذا استُودع شيئاً لا يضيعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه”.

همة عالية في طلب العلم: مع المحبرة إلى المقبرة

هكذا أوقدت تلك الأم العظيمة الهمة العالية لدى الفتى أحمد لطلب العلم غير مكتفيا بما أخذه عن شيوخ بغداد. فطاف في الأمصار ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والعراق وفارس وغيرها. ورغم فقره رحمه الله، إلا أنه كان يسافر، إن لم يجد دابة، ماشيا حتى تتشقق قدماه من فرط شغفه بطلب الحديث.

وسمع لأكثر من 120 عالما فما كان في عصره أحد أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لينال مرتبة إمام السنة وفقيه المحدثين، وقيل إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، بما يشمل المكرر من الحديث والآثار، وفتوى التابعين ونحوها.

ولم يتزوج الإمام أحمد إلا بعد سنة الأربعين بسبب اشتغاله بالعلم. ورغم مقامه في العلم لم يجلس ليحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ هذا السن وذلك في المسجد الكبير بمدينة بغداد. ولم تجعله إمامته يتحرج من الجلوس مكان التلميذ والمحبرة في يده يسمع ويكتب فقيل له: “يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين”، فيجيب الإمام بعبارته الشهيرة: “مع المحبرة إلى المقبرة”.

الفتوة قوة في الحق: محنة الإمام “الفتى”

تعد محنة القول بخلق القرآن من أشد وأخطر المحن التي عاشتها الأمة، لأنها كانت تضرب في صلب العقيدة، وأن الدولة الحاكمة بسلطتها وأجهزتها كانت مسخرة للدفاع عن هذا القول بعد أن تمكن بعض المعتزلة من إقناع ثلاثة من الحكام العباسيين هم المأمون والمعتصم والواثق بعقائدهم الفاسدة وسيطروا على دواليب الحكم، بل حتى أجبروا الناس عامتهم وخاصتهم وعلماءهم على هذا الضلال ولو بالقوة.

ولم يصمد في هذه المحنة سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأجاب أغلبهم خوفا أو كرها، ومن صمدوا وهم قلة ولم يجيبوا ماتوا تحت التعذيب، ليبقى الإمام أحمد وحده متحملا عبء الوقوف أمام الظلمة فما كتم علمه وما استعمل التقية كما فعل العديد من العلماء حينها.

وقضى في السجن مقيدا لمدة ثلاثين شهرا توالى فيها رجال الاعتزال ورؤوس الفتنة يناظرونه فما نالوا منه شيئا. ووصلت محنته أشدها بعد المناظرة العلنية أمام المعتصم العباسي حين هزم علماء البدعة علنا محتجا بالآيات والأحاديث وهو يقول: “أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله”. وبعد ثلاثة أيام من المناظرة وفي شهر رمضان والإمام ثابت على موقفه، أمر المعتصم جلاديه بضربه بالسياط حتى أغمي عليه من شدة الضرب دون أن ينال منه ما أراد.

وبعد خروجه من السجن تواصلت فصول المحنة في عهد الواثق الذي كان أشد في حمل العامة على ضلالة خلق القرآن لدرجة فرض تعليمها على الصبيان في الكتاتيب، والامتناع عن افتداء أسرى المسلمين لدى الروم الذين لا يقولون ببدعته، والتفريق بين الرجل وزوجه إن اختلفا فيها. وأمر بنفي الإمام أحمد الذي ظل مختبئا عن الأنظار حتى هلك الواثق وخلفه المتوكل الذي وضع حدا لهذه البدع والضلالات.

ولو لم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضل خلق كثير في مسألة هي من صلب العقيدة حتى يومنا هذا، ولذلك قال المزني رحمه الله: عصم الله الأمة بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. وقال بشر الحافي الذي شهد له بخصال الفتوة جميعها: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء؛ فكان فيهما معتصمًا بالله.

وبالفعل، بعد امتحان الضراء جاء امتحان السراء للإمام الورع الزاهد وهو أصعب وأشد حين أتته الدنيا فأباها، ذلك أن المتوكل قد ألح في الإفاضة عليه بالأموال والعطايا الجزيلة، وحاول استمالته ليتولى تعليم وتأديب ولده، وهو يرد ذلك بتعفف وتعلل، نائيا بنفسه عن موائد الملوك ومجالسهم. وعانى الإمام الزاهد بسبب هذا الرفض معاناة شديدة. وكان يقول: “قليل الدنيا يجزي، وكثيرها لا يجزي”، وقال: “أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة”.

كما يتجلى إذن في هذه المحطات من سيرته الحافلة، تجسدت جميع خصال الفتوة في الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بما جعل اسمه مقرونا بالإمامة على كل لسان. إمامة استحقها بخدمته لأمة رسول الله صلى الله عليه سلم، خادما أمينا للحديث النبوي والسنة عموما حتى صار إمامها، وخادما للعقيدة بوقوفه كالجبل الشامخ أمام المعتقدات الفاسدة لينال بحق منزلة “إمامة الأمة” في زمانه لما تجسد فيه قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (السجدة 24).

رحم الله الإمام أحمد  بن حنبل وجازاه عنا خيرا وجميع الأئمة الصالحين المصلحين في كل زمان ومكان، وجعله قدوة كاملة لشباب الأمة في التحلي بخصال الفتوة همة وقدوة وخدمة.