على سبيل البدء
الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله واحد ممن يصعب جدا الحديث عنه أو الكلام على كلامه. لأن الأمر يحتاج إلى تدبر وتصفح وروية وتبصر وقدر من الصحبة والملازمة وامتلاك الآلة المناسبة للنظر… لكن إن كان لنا من مسوغ للحديث عن هذا الرجل الفذ وغيره من رجالات الأمة العظام فلأن من القضايا الملحة في مضمار التجديد والبناء إزالة الاحتلال الثقافي الذي يمجد مفكري الثقافة الممسوخة وقادتها وفلاسفتها.
وإن كان لنا من مبرر أيضا فلكي نستحضر ذكرى علمائنا ومصلحينا وأئمتنا، والذكرى تنفع المومنين. يقول الإمام رحمه الله: من حق رجالنا تحت راية دولة القرآن أن يحتلوا الصدارة إلى جانب الصحابة والتابعين في ميادين الإعلام، وضرب الأمثال، والتذكير بالأبطال. تحت راية القرآن يجب أن نزيل الاحتلال الثقافي الذي يملأ أفقنا بتمجيد مفكري الجاهلية وقادتها، ونعيد ذكرى علمائنا ومصلحينا وأئمتنا. فهم الامتداد الحي لصاحب الرسالة ومَعِينِ الكمالِ محمد صلى الله عليه وسلم) 1 .
1- رجال في مفاصل التاريخ
عندما نقرأ التاريخ، ونستعرض مسيرة الأمة نجد أن هناك شخصيات محورية قامت بوظائف كبيرة في تلك المسيرة، سواء أكانت هذه الوظيفة تأسيسية أم تطويرية أم اكتشافية أو تجديدية… وكما يتحدثون عن أحداث فارقة في التاريخ، يتحدثون عن شخصيات مفصلية أيضا في هذا التاريخ. في سياق ذلك، نقف في ذكرى رحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله مع رجل مفصلي في لحظة مفصلية في التاريخ الحديث والمستقبلي للأمة. لكن قبل ذلك دعونا نقف قليلا مع بعض الرجال المفاصل في لحظات مفصلية من تاريخ الإسلام والمسلمين. رجال عظام من جنس اللحظة التي عاشوها.
1-1: الإمام علي كرم الله وجه ولحظة الانكسار التاريخي الأول
في لحظة الانكسار التاريخي الأول التي ميزها انتقال الحكم من الخلافة الراشدة الأولى على منهاج النبوة، إلى مُلك عضوض مع بني أمية، كانت الأمة في حاجة ماسة لمن يوجه، في حاجة إلى رمز يملك الحق، ويضرب المثال الحي في الثبات عليه، في حاجة لمن يتلطف بأمر المسلمين في ظل مطارق القدر، وأن يكون من معدن نفيس جدا. فكان الإمام علي كرم الله وجهه هذا المعدن النفيس، والرجل المفصلي في لحظة مفصلية كبيرة من تاريخ الأمة الإسلامية. جاءت المصائب والويلات في تلك اللحظة الفارقة في التاريخ الإسلامي كالشرر التي لا تبقي ولا تذر. وكان قلب الإمام علي يبكي على تلك المآسي التي لا مخرج منها… جاءت الدواهي فتصرَّف فيها تَصَرُّفَ الإمام المسـؤول عن كل المسلمين ولو حاربوه) 2 . حتى طُعن رضي الله عنه شهيدا فطُوي سِجل الخلافة الراشدة الأولى، التي كان اختفاؤها قدرا مقدورا. ولكن الله عز وجل بحكمته البالغة اختار الإمام عليا كرم الله وجهه لتلك اللحظة المفصلية، ليكون ذلك الجسر الذي يعْبُر عليه القدر الإلهي.
1-2: الإمام حسن البنا رحمه الله في قلب صدمة الاستعمار
رجل مفصلي آخر في تاريخ الأمة الحديث هو الإمام المجدد حسن البنا رحمه الله، (1906م-1949)، الذي ولد في قلب كوارث الاستعمار، وبين أنقاض آخر معاقل الأمة، شوكة الدولة العثمانية. كتب عنه محمد الغزالي رحمه الله قائلا: لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرةً عاتيَةً انْحسرتْ في سفحها أمواجُ المادية الطاغية (…). لقد عاش على هذه الأرض أربعين عاما… لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، في عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار) 3 .
وكتب عنه مفتي القدس محمد أمين الحسيني رحمه الله: بينما كان الملاحدة ودعاة الإباحية ومروجو الفكرة الشعوبية (القومية العلمانية) يهاجمون الإسلام، وينشرون سمومهم وضلالاتهم في مختلف الأوساط في الأقطار المصرية والعربية، وبِخاصة بين طلبة الجامعات والمعاهد العليا، برز المرحوم (إن شاء الله) الشيخ حسن البنا في وسط الشعب المصري المؤمن كما تبرز الشمس من بين السحب الداكنة، داعيا أمته وبلاده والمسلمين جميعا إلى العمل بالقرآن الكريم، وتطبيق أحكامه السامية، وآدابه الرفيعة، والاستمساك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأن) 4 .
2- الإمام في مفصل تاريخي بين يدي الخلافة الثانية
1-2: الإمام الشخصية الفارقة
الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله رجل كغيره من البشر، لكنه لم يقف في التاريخ مع “المارين بين الكلمات العابرة” بتعبير الشاعر محمود درويش، لم يكن لقبُه نكرة ضمن ملايين ملايين الألقاب التي طوتها صفحات التاريخ الإسلامي والإنساني، بل حجز له القدر الإلهي في لحظة مفصلية من التاريخ منزلة مائزة، يشهد له بها كل من تحدث أو كتب عنه. يشهد أنه ملك الموهبة والإرادة والتصميم والهمة العالية الفاعلة والنصيحة وقول الحق والشهادة بالقسط والجهاد والتجديد والصلاح والتربية والحجة والحكمة والإمامة والفقه والفكر والتأسيس والبناء والجمع والموقف والسمت والنظافة، والربانية والريادة في التاريخ المغربي والعربي والإسلامي والإنساني…
كتب عنه الدكتور عبد الصمد بلكبير المفكر والأكاديمي المغربي المعروف: السي عبد السلام ظاهرة بكل ما تعنيه من دلالات، فالزمان لا يجود بمثله في كل الأوقات، فهو رحمه الله حالة استثنائية… تمكن من أن يقوم بدور ريادي في تاريخ المغرب المعاصر ومستقبلا في التاريخ العربي والإسلامي والإنساني) 5 . وعموما يبقى الإمام عبد السلام ياسين غُرَّةً في جبين التاريخ، وشامة في مستوى اللحظة التاريخية التي تمر منها الأمة العربية الإسلامية، رحمه الله رحمة واسعة.
2-2: الإمام والتاريخ والمنهاج
ماذا قام به الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله؟ وما حقيقة دوره المفصلي في التاريخ الحديث والمستقبلي؟ إنه إذا تميز الإمام المجدد عبد السلام ياسين بأمر فلن يكون إلا عرضه المنهاج النبوي حالا ومقالا وعيانا، هذه الخاصية الفريدة في تاريخ المسلمين لها شأنها العظيم الذي بدأت تجنى بعض ثماره، إذ الأمر يتعلق باكتشاف أسرار النبوة في التربية والبناء وصناعة الرجال وإحياء الجماعة، معنى ومبنى، وبعث الأمة وخدمة الإنسانية) 6 .
إنه مشروع منهاج نبوي تجديدي كبير مُكتشف في إرث الإمام، هو من جنس اللحظة التاريخية للأمة، فهي اليوم في مفترق الطرق. واستحضارا لمدى تاريخها الطويل، وما وصل إليه من انحدار، ندرك أننا في لحظة مفصلية من التاريخ الحديث، لحظة بدأت فيها أركان الجبرية والديكتاتورية تهتز، وبدأ فيها ربيع الشعوب العربية يزهر، وبدأت الأمة أفرادا وجماعات تعود إلى الجادة، إلى الطريق النبوي؛ تمهيدا لأفق أعز وأخصب وأكرم وأرفع… أفقِ الخلافة على منهاج النبوة التي وُعدت بها الأمة في حديث البشارة الصحيح:
“تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت” 7 .
وصُعودا بالأمة إلى هذه الذروة في أعلى درجات الكمال الإنساني في أفق الخلافة على منهاج النبوة، تأتي قيمة السؤال المنهاجي للإمام المجدد: قل لي كيف أسير، عمليا وعينيا ويوميا، على المنهاج النبوي؟) 8 نحو هذا الأفق الرحب. ومقاربة لهذا السؤال المحوري تجاوز مشروع المنهاج التجديدي المكتشف في إرث الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله دواعي الرثاء والتشكي والبكاء من البلوى ليخطط للبناء ووسائله وغاياته، وانكب على تحقيق هذا التخطيط في تنظيم الدعوة ونشرها.
وفيما يأتي بعض اللمحات في ماهية المنهاج النبوي تلك المِرْقَاة المُثلى نحو ذلك الأفق السني اليانع الرائع، مُستمدة من إرث الإمام العلمي الغزير:
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله مقترح واضح للعمل مضبوط الخطة، واضح المعالم، يخاطب شعور الأمة ويوقظ وعيها. مقترحاً عماده: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم) 9 .
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام رحمه الله هو عرض لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، لا نجتهد إلا في عرضه وفق دواعي الوضوح ومخاطبة الناس على قدر عقولهم… رويدك أخي فإننا لن نأتيك من عندنا بشيء ما خلا المنظار الذي به تعود إلى قرآن ربك) 10 .
– مشروع المنهاج المكتشف في إرث الإمام رحمه الله هو أداة للفكر والمعرفة لتجاوز عوائق سوء الفهم وسوء تطبيق الرسالة المنزلة… (وهو) وسيلة لبعث وعي إسلامي ينفتح على ميادين العمل لتغيير ما بنا) 11 ؛ إذ لا معنى لعمل بنائي تجديدي إن لم يكن التغيير هدفه وغايته.
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام رحمه الله هو علم سابق عن العمل، وأي عمل أو بناء لم يؤسس على تصميم نسقي ناضج سابق نظريا، فإنما يكون تجريبية تحمل معها عناصر ضياعها، أو التقاطية بدون هوية، أو استسلامية بين يدي تيار الواقع الجارف…
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام رحمه الله هو منهاج أمل وبشرى، وأذان بالخلاص للمسلم الجغرافي ولكافة أهل الأرض. منهاج رفق ورحمة يزف للإنسان الشقي بسلوكه نسمة الحياة وروح السلام) 12 .
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام مؤسس على العمق الروحي تمسكا بحبل الله عز وجل دون سواه. يقول الإمام رحمه الله: لا تحسب أن المنهاج النبوي الذي تحدثت لك عنه كل هذه الصفحات الطوال يكون منهاجا نبويا إن هو لم يجمعك على الله تعالى، ولم يستحثك للإقبال عليه عز وجل، ولم يوقظ همتك إليه) 13 . لذا لا نفتأ نذكر بأن سلوك العبد إلى اللّه عز وجل، وما يطلبه السلوك الإيماني الإحساني من تربية، من ذكر، من ترقيق القلب بالمداومة على الذكر، هو معنى المنهاج واتجاهه وغايته) 14 .
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام رحمه الله عرض لـمشروع مجتمعي متكامل من خلال عرض مشاريع مناسبة منتظمة وفق نسقية تصورية وحركية كبيرة مستجيبة لحاجات الزمان والمكان… في إطار حركة مشروع كبير وضخم تُحدد من خلاله المواقع والمواقف والوسائل والبرامج) 15 .
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام علم شامل متكامل، منفتح على كل المطالب: يطلب المنهاج العلم لينحُوَ به المنحى العلمي الإجرائي، ويطلب الإنسان ليوضح له الطريق ويحفزه للعمل، ويطلب العمل ليبرمجه ويمرحله، ويطلب الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم وفي الأمة ليخطط مرامي العمل ومفاصله، ويطلب الأهداف الدنيوية والغاية الأخروية ليضعها على خط واحد لا تتناقض ولا تتنافر، ويطلب المجموع لينسق الجهود ويوجهها) 16 .
– مشروع المنهاج النبوي المكتشف في إرث الإمام دعوة إلى العمل الإسلامي، فهو صدى لدعوة الأنبياء والمرسلين عليهم أفضل الصلوات وأزكى السلام أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره 17 وأن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه 18 .. هو دعوة للقيام لله عز وجل في سبيله والمستضعفين.
على سبيل الختم
ختاما أرجو عزيزي القارئ، أن أكون قد أعطيت نقطة ضوء عن شخصية الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله ومشروعه في ذكرى رحيله الأولى بما يجلي بعضا من قدره، وبما يفتح جسرا للتواصل معه عبر إرثه العلمي التربوي الدعوي العملي التجديدي الغزير. ويبقى المؤتمر الدولي حول جانب من هذا المشروع الكبير، بالعاصمة التركية إسطنبول (2012)، نافذة جادة للانفتاح على المنهاج النبوي للإمام المجدد ومدارسته والأخذ منه. فضلا عن أن الرجل لم يترك كتبا فحسب بل ترك رجالا وعلماء ومدرسة تؤسس للسير الحثيث نحو العمران الأخوي الإنساني، ذلك الأفق الرحب الذي يطلبه المنهاج النبوي في حديث البشارة.
[2] (م.س)، ص. 61.\
[3] كتاب “الشهيد حسن البنا” كلمات تأبينية، ص. 60.\
[4] (م.س)، ص. 19.\
[5] شهادة تأبينية في حق الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله.\
[6] مقال: “الإمام المجدد عبد السلام ياسين من نصيحة “الإسلام أو الطوفان” إلى وصية العهد والخلافة”، مبارك الموساوي، www.yassine.net\
[7] رواه الإمام أحمد رحمه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.\
[8] مقدمات في المنهاج، عبد السلام ياسين، الطبعة الأولى، 1989 ص. 36.\
[9] مقدمات في المنهاج، (م.س)، ص. 39.\
[10] الإسلام غدا، عبد السلام ياسين، 1973، ص 16-17.\
[11] نفس المصدر والصفحة.\
[12] (م.س)، 17.\
[13] المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، عبد السلام ياسين، الطبعة الثالثة، 1994، ص. 409.\
[14] مقدمات في المنهاج، (م.س)، ص. 52.\
[15] مقال: (المنهاج النبوي ونظرية الثابت والمتغير)، مبارك الموساوي، www.yassine.net\
[16] مقدمات في المنهاج، (م. س)، ص. 41.\
[17] الأعراف، الآية 85.\
[18] الشورى، الآية 13.\