استهلال
وأنت شاب في مقتبل العمر، كلك حماس وقوة، تخوض غمار الحياة مندفعا، راغبا في كل جديد ومنتقدا كل حديث، فورة الشباب فيك تعطيك الرغبة في النقاش والحوار والأخذ والرد في كل المواضيع حتى تقتنع حيث يصعب أن تقتنع. لكن ما إن تضع قدميك في مجلسه حتى تجد نفسك في عالم آخر، يغمرك رحمه الله بنظرات حانية رحيمة تنقلك من عالم المادة إلى عالم الأنس بالله تعالى، فتجلس تلميذا متعلما مكتشفا عوالم أهل الله تعالى. وأنت في مجلسه رحمه الله، تجد نفسك أمام رحمة ربانية تحس معها أنك بين يدي قلب كبير. عنايته رحمه الله بالناشئة والشباب لم تكن تخطئها العين، خطت يمينه رحمه الله كتبا ورسائل وفصولا للشباب والناشئة فضلا عن توجيهاته المسموعة والمرئية في جميع المناسبات.
الأب الحنون
كان رحمه الله مثالا للأب الحنون الرحيم بأبنائه، فما أن يلتحق الوليد، طفلا كان أم شابا، ببحر العدل الإحسان الفياض، إلا ويجد عناية خاصة بتوجيهات من المرشد الحبيب، مجالس خاصة ومناشط ومنتديات لتفريغ طاقة الشباب وعيا منه رحمه الله باحتياجات النشء ومتطلباته خلافا لحاجيات الكبار.
دأب رحمه الله على تنظيم لقاءات مع البراعم واليافعين والشباب طلبة وتلاميذ، سمة تلكم المجالس الوعي العميق بعقلية الشباب وأسئلة المرحلة، لقاءات تعليم وتربية وفكر، بأسلوبه البسيط والعميق ينفذ إلى دواخل القلوب ليرويها إيمانا وحبا في الله، وعيا منه بحساسية المرحلة يحث رحمه الله على العناية التامة بالناشئة في جميع المجالات لا بد للأطفال واليافعين والشباب من رفقة خارج البيت. في المدرسة وحولها تتألف الصداقات، ونديّ الشيطان والمخدرات متربص في الأرجاء. لا تنكص المؤمنة وتنطبع بطابع الحماة والجدة الحاضنة: أين كنت، ولم خرجْت؟ مراقبة لا بد منها، لكن ما فائدة الردع والزجر إن كان عقل الفتاة ولب الشاب خِلْواً من فِكرة، يتيما من صحبة صالحة؟ زوِّديها وزوديه بفكرة، بمهمة إيجابية يغزو بها الساحة. اجعليها واجعليه طليعة بين الأقران. ذلك، وإلا فالتيار جارف) 1 .
حنانه رضي الله عنه وعنايته بأبنائه الشباب كان من باب تحصينهم ضد مهالك الحياة وهمومها، وإيقاظ قلوبهم إلى مصيرهم الفردي ومصير أمتهم، باستفزاز عقولهم وقلوبهم بالأسئلة الحقيقية المصيرية حول الهدف من الوجود، يقول رحمه الله كيف أكتمِل راشدا في ظروف سفيهة؟ كيف تنكتم صرخات اليأس في طوِيّات صدري المنضمِّ على كمد العزائم المثبّطة، والهمم المفصومة العقد؟ كيف أخرق سحائب الهموم المدلهمة، هموم المعاش والبؤس أنا الفقير، وهموم الضياع والخواء الروحي والحيرة أنا المحظوظ، لكي يرتاح قلبي إلى ومضة من نور الإيمان بالله وباليوم الآخر حتّى تتم ليّ وفيّ يقظة القلب إلى أسرار الكون، ويقظة الروح إلى جلال الخالق سبحانه، وإلى سبحات كلمة الحق تجيبني عن أسئلة وجودي: من أنا؟ وما أنا؟ وإلى أين؟) 2 .
جيل القرآن
لم يكن يرضى رحمه الله لأبنائه غير مقامات الإحسان ومعالي الأمور، كان يرى أن بناء أمة قوية قادرة على حمل رسالة الإسلام إلى العالمين لا يكون إلا بتنشئة جيل دستوره ومرجعه ومبتدأ تعليمه ومنتهاه القرآن. القرآن الذي حفظه رضي الله عنه في سن مبكرة، كان له النور والدليل إلى المولى عز وجل، ويكون كذلك لجند الله للفوز في الدنيا والآخرة، يقول في أهمية القرآن للنشء ثم يكون القرآن محور العملية التربوية ومورد العلم وجامع العلوم. لاسيما في السنوات التسع الأولى حين يتكون النسيجُ الأساسي للشخصية. هل يستوي في فرص علوق الإيمان بالقلب مَن غذينه بالأغاني رضيعا ومن ألقمنهُ مع ثدي اللبن ثدي التغني بالقرآن؟ قلت: فُرص العلوق. وإلا فالهداية الإلهية والرحمة تصيب من شاء الله كما يشاء الله.) 3 . لم ينعقد مجلس من مجالسه إلا وللقرآن فيه حظ وافر، تحفيزا على حفظه واستنهاضا لهمم الشباب للتشمير عن ساعد الجد طلبا لما ناله الرجال من حفظ القرآن وترتيله وتدبره، كان يطلب إلى أبنائه أن يكونوا مدارس قرآنية متنقلة عبر الأجيال، وأن يكون القرآن محور المجالس ولقاءات التربية داخل الجماعة.
من حكمته رحمه الله أنه يحبب إلى أبنائه الشباب القرآن بشتى الوسائل، فيطير بهم في قصص قرآني يستخلص منه العبر والدروس وكذا التوجيهات التربوية، كما يحث على جعل القرآن منطلق تعلم اللغة العربية والحساب… القرآن يتعلم الأطفال القراءة والكتابة. ومنه يتضلعون من اللغة، نحوِها وصرفِها وبلاغتها. كان التلقين التقليدي على الألواح بركةً. لاشك. ومن قرأوا في الألواح وحفظوا يتميزون، لا يزالون، بالتمكن في اللغة العربية، لا كما يجرح اللغةَ ويخدِش وجهَها دكاترة ودكتورات ما فتحوا المصحف يوما) 4 .
فتية الإحسان
رجل يطلب المعالي في الأمور كلها لم يكن ليترك مجالا إلا ويحفز فيه أبناءه من الشباب لطلب العلا، لم يكن ليطلب لهم إلا مقامات الصالحين وخصال الأنبياء في شبابهم. أراد لنا رحمه الله التأسي بمعاني الفتوة المذكورة في كتاب الله في مواضع ثلاث:
في العبادة: تأسيا بالفتية الذين آووا إلى الكهف حفاظا على دينهم، يقول تعالى في سورة الكهف (آية 13) إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، كما يضرب لنا رحمه الله الأمثال من سير كبار الصحابة في شبابهم، كيف كانوا مقبلين مسارعين إلى الطاعات والعبادات تقربا إلى المولى عز وجل، وكيف بذلوا أرواحهم في سبيل الحفاظ على دينهم الحنيف.
في الخدمة: اقتداء بفتى الخضر عليه السلام، المرافق الخادم المطيع للصالحين من علماء الأمة حيث قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَبًا (الكهف 62)، لا تزال كلماته حاضرة فينا حين خبرنا أن الباب الذي لا زحمة حوله ولا ضجيج هو باب الخدمة، وأن خادم القوم سيدهم…
في الجهاد: مثل نبي الله إبراهيم، الفتى الذي حطم أصنام قومه داحضا إياهم بالحجة العملية ألا حول ولا قوة لتلك الأصنام التي يعبدونها من دون الله، قال الله تعالى في القرآن الكريم: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (الأنبياء 60). ندبنا طيب الله ثراه إلى تحطيم كل الأصنام من عبادة النفس والهوى ومن كل معبود سوى الله، كما حثنا دائما على الجهاد بكل معانيه ومختلف مجالاته.
تربية وخدمة وجهاد، هكذا أراد رحمه الله أن تكون تربية قادة المستقبل وحملة المشعل.
وعيه العميق رحمه الله بأهمية الشباب في حمل أعباء الدعوة جعله يولى بالغ العناية بتنشئة الشباب وحسن احتضانهم، فكان ما أراد أن نشأ بفضل الله وتوفيقه جيل من الشباب المؤمن المجاهد يحمل دعوة العدل والإحسان إلى الإنسانية تربية وفكرا وسلوكا. رحم الله الإمام ما علم وربى واحتضن، وجعل أجر كل من جد واجتهد وجاهد من هؤلاء الشباب في ميزان حسناته إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.