الإمام عبد السلام ياسين.. صوت الحكمة في زمن التشتت

Cover Image for الإمام عبد السلام ياسين.. صوت الحكمة في زمن التشتت
نشر بتاريخ

في ذكرى الوفاء، الذكرى 12 لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، لا يسع المرء إلا أن يتذكر القيم العظيمة التي غرسها فينا وفي المجتمع وما قدمه من رؤى تربوية وفكرية وإصلاحية وأثرها الكبير في مسار الأمة.

لقد كان الإمام مرشدًا ومعلمًا لنا في طريق التربية الروحية، حيث علمنا أن الإحسان هو غاية الإسلام العظمى، وأن الصلة بالله سبحانه وتعالى هي أساس التزكية والخلاص الفردي. وضع بين أيدينا منهجًا عمليًا واضحًا للسير إلى الله، مبنيًا على تزكية النفس، والعمل الدؤوب لتحقيق معاني الإيمان والإحسان في الحياة اليومية، حيث يقول رحم الله: “وفي كل ذلك نجدد التوبة، ونصحح النيات، ونذكر الله كيلا ينسينا أنفسنا. فإننا إن نسيناها ولم نتعهدها بالتزكية، وننورها بالعبادات، ونروضها بالعمل الصالح، هلكنا أفرادا وتنظيما وأمة. ورجعنا إلى حالة الغثائية ومرض الوهن” 1.

مؤكّدًا أن الصحبة والجماعة هما سبيل تحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة، حيث يقول رحمه الله: “الصحبة تربي الفرد من أنانيته وتفتح له قابليات الاندماج في الجماعة… لهذا جعلنا الخصلة الأولى ذات طرفين لنلح على معنى وجوب أن تفضي الصحبة والتربية إلى بناء الجماعة. المؤمن الفردي قد يكون له ذكر وصدق وبذل وما إلى ذلك من الخصال التسع، لكن جهاده لا يعدو الجهاد الباطني في حلقة مصغرة من المريدين أو بين جدران الخلوة في أعلى الجبل، وذلك جهاد مع أوهام النفس وأحلامها. لكنه ليس الجهاد الأكبر الذي رجع إليه رسول الله لما عاد من إحدى غزواته، الجهاد الأكبر: جهاد النفس وسط الجماعة ومعها لهدف بنائها والصبر معها والتواصي والرحمة” 2.

أما على المستوى الجماعي، فقد علمنا الإمام أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ إلا ببناء الإنسان، فالتغيير المطلوب لأمتنا يبدأ من القلوب، ليصل إلى إصلاح المؤسسات والمجتمعات. في كتابه المنهاج النبوي، بيّن أن التربية والتعليم هما عماد النهضة، وأن الأمة لن تنهض إلا إذا اجتمعت على مشروع جامع يستلهم قيم الإسلام ويواجه تحديات العصر. يقول رحمه الله تعالى: “هذا التغيير الجذريُّ في تصور الإنسان لنفسه، وللعالمين الدنيويِّ والأخروي، وللمسؤولية بين يدي الله بعد الموت، هو رسالة القرآن الخالدة إلينا. ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه، فإن ضيعوا هذه الغاية فكل تغيير دونها لا حساب به، ولا وزن له في حياة البشرية. ليست القومة الإسلامية ثورة قطرية إقليمية تنتهي مهمتُها عند تغيير بُنى المجتمع، وتنشيط اقتصاده، وتطوير وسائله، بل هي رسالة القرآن إلى الإنسان أن يغير موقفه، وينتبه لمصيره، ويُقْبِل على نفسه يُغَيِّرُ ما بها لتُقْبِلَ على ربها.

وكل تغيير في السياسة والاقتصاد فإنما هو تبَعٌ لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان، ونفسيته، وعقيدته، وأخلاقه، وإرادته، وحركته كلها على الأرض، لتكون حركةً لها غاية، ومعنى، وارتباط بمصيره بعد الموت، وبمصير أمته في التاريخ” 3.

بهذا المعنى، يؤكد الإمام أن أي مشروع إصلاحي لا يمكن أن ينجح إلا إذا ركز على القلوب أولاً، لأن القلوب هي الأساس الذي يبنى عليه السلوك الفردي والجماعي.

ومن أبرز مآثر الإمام رحمه الله أنه أولى اهتمامًا خاصًا بالشباب، حيث اعتبرهم عماد الأمة وأملها في النهوض والتجديد. كان يؤكد في كتبه وخطبه أن الشباب هم طاقة التغيير الإيجابي، وينبغي أن تُستثمر هذه الطاقة في التربية، والتأهيل، وتحمل المسؤولية. رأى الإمام أن الشباب يحتاجون إلى مشروع متكامل يحيي قلوبهم بالإيمان، ويُنمّي عقولهم بالعلم، ويُوجه طاقتهم نحو العمل النافع، ليكونوا قادة المستقبل، فهم الجيل الذي يَحمل الأمانة ويُكمل المسيرة.

حيث يقول رحمه الله: “إننا بحاجة لبناء أمة، والشباب يُكوّنون في مجتمعاتنا المفتونة جيشا من العاطلين الذين أسيء تعليمهم وتربيتهم. فإذا حصلوا بين أيدينا قبل قيام الدولة وبعده يجب أن نعِدّهم إعدادا جادا ليكونوا جند التحرير والبناء” (المنهاج النبوي).

“مسؤوليتنا أن يصبح الشباب دواء لمشكلة الشباب. أن ينقدهم الإسلام فينقدوا الأمة.. أن ينصفهم الإسلام فينتصفوا من عدو الأمة. أن يجندهم الإسلام فيجاهدوا في سبيل الله.” (المنهاج النبوي).

بهذا يدعو الإمام إلى استثمار طاقات الشباب عبر تربية شاملة تجمع بين الإيمان العميق، والمعرفة النافعة، والعمل الموجه نحو الإصلاح.

أفضاله على الأمة لا تحصى، فقد كان صوته صوت الحكمة في زمن التشتت، ودعوته دعوة للوحدة في زمن الانقسام. لم يكن مجرد فقيه أو مربٍّ، بل كان مجددًا بحقّ، اجتمع على منهجه العلماء والمفكرون الذين أشادوا بحكمته وبعد نظره.

قال عنه الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله: “كان عبد السلام ياسين من الرجال الذين عاشوا حياتهم لدينهم ودعوتهم، وأثروا بفكرهم وكتاباتهم أجيالاً كاملة”.

وقال الدكتور محمد صالح أكنجي (أحد كبار علماء تركيا): “الشيخ الجليل العظيم عبد السلام ياسين قرأت شيئا قليلا ووجدت في كتبه كثيرا من صفات العباقرة المجددين الذين يريدون إصلاح الأمة… وأنا أراه من كبار مجددي هذا العصر الذين يحاولون الإصلاح والتغيير والتجديد”.

وقال الدكتور أحمد الريسوني (من علماء المغرب): “الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله قائد ومرشد ومؤسس، يكفينا أن نقول إنه عالم والعلماء ورثة الأنبياء، فالرجل كان قدوة في زهده وصموده وشجاعته وتجرده إلى الله. هذه المعاني كان الرجل فيها قدوة وعبرة في حياته وسيبقى فيها قدوة من خلال مدرسة العدل والإحسان التي أرساها ووضعها، وهذا يذكرنا بقوله تعالى: مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم“.

الأستاذ أبو جرة سلطاني (رئيس حركة مجتمع السلم بالجزائر): “عندما تقرأ سيرته تنطبع في ذهنك صورة الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) في أبعادها السبعة التي تحدثت عنها كتب التاريخ: زهده في الدنيا، حبه للحق، حرصه على إمضاء العدل، تواضعه للناس، صفاء ذهنه، شفافية روحه، حبه للفقراء والمساكين”.

أما الشيخ عبد الله بن بيه، فقد قال: “عبد السلام ياسين نموذج من العلماء الذين لا يكتفون بالتنظير، بل يعيشون دعوتهم ويطبقون رؤاهم، وكان له إسهام كبير في نشر الوعي بضرورة التغيير المتكامل.”

الدكتور عبد الصمد بلكبير (مفكر مغربي): “سي عبد السلام ظاهرة بكل ما تعنيه من دلالات، فالزمان لا يجود بمثله في كل الأوقات، فهو رحمه الله حالة استثنائية… تمكن من أن يقوم بدور ريادي في تاريخ المغرب المعاصر ومستقبلا في التاريخ العربي والإسلامي والإنساني”.

الدكتور عزام التميمي (رئيس مجلس إدارة قناة الحوار): “حظيتُ بصحبة محدودة مع الشيخ، وجلست مع الشيخ كتلميذ، وأسرني الشيخ بتواضعه وبلطفه وبسيرته… كان بودي لو كان عندنا في فلسطين أمثال الشيخ عبد السلام ياسين”.

الدكتور رضوان بنشقرون (عالم مغربي): “مهما قيل عن الأستاذ عبد السلام ياسين فإننا لن نوفيه حقه، ورغم أني لست تابعا ولا مريدا له، فإني تأثرت بكتبه وبكلامه، فهو شيخ وحده، ونادر عصره”.

كما أثنى عليه الدكتور محمد عمارة رحمه الله بقوله: “عبد السلام ياسين كان مدرسة فكرية وتربوية متكاملة، وترك إرثًا فكريًا وروحيًا سيظل مرجعًا للأجيال القادمة.”

وفيه قال الأستاذ الهادي بريك (قيادي بحركة النهضة التونسية): “الرجل قمة إسلامية شامخة دون ريب: قمة في العلم، وقمة في الفقه، وقمة في المقاومة، وقمة في الحركة والنشاط، وقمة في التسيير الإداري والتنظيمي والحزبي، وقمة في الكلمة العربية المتينة الصحيحة غير المدحوضة”.

وهذا غيض من فيض..

لقد وضع الإمام مشروعًا جامعًا للنهوض بالأمة، حيث بيّن أن الخلاص الجماعي يبدأ ببناء جماعة منظمة، تنبض بالإيمان وتعمل للإصلاح. كان يؤكد دائمًا أن العمل التربوي يجب أن يتكامل مع العمل السياسي والاجتماعي لتحقيق التوازن المطلوب للأمة.

رحم الله الإمام عبد السلام ياسين، فقد كان ناصحًا أمينًا، وداعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجددًا أضاء طريقًا للأمة نحو العودة إلى الله ونحو تحقيق العدل والكرامة.


[1] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص: 388.
[2] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ص: 47.
[3] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة ص: 88.