أكدت الحلقة الأولى من هذه السلسلة أن الله تعالى جعل حقيقة المنهاج فطرة مغروزة في الإنسان، وشرعه طريقا للعبادة والطاعة وطلب الإحسان، ومحجا لتحقيق أمانة الاستخلاف والعمران. ولكي ينجح هذا الإنسان في امتحان الابتلاء، ويبقى على الطريق المستقيم والسبيل القويم أرسل الله له بين فترة وأخرى أنبياء ورسلا بشرعة ومنهاج واحد في أصوله وكلياته ومقاصده وخصاله، متنوع ومتعدد في فروعه ومطالبه وشعبه ووسائله حسب اختلاف الزمان والمكان والأحوال، حتى ختم الله تعالى الشرعة والمنهاج ببعثة النبي المكرم محمد صلى الله عليه وسلم ليكون لبنة التمام والكمال في البناء الإلهي، وسمة الختم والجمال في العمران المنهاجي، وليكون النموذج الأكمل والشهادة التاريخية لكيفية بناء أمة الشرعة والمنهاج.
2- أمة الشرعة والمنهاج
قال الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].
المنهاج القرآني النبوي ثاوي في ثنايا القرآن العظيم – المحفوظ بحفظ الله منذ عهد التنزيل – مكنون في سوره وآياته، وأوامره ونواهيه، وأحكامه وتشريعاته، ومواعظه وأمثاله، وقصصه وأخباره، ووعده ووعيده، وبشارته ونذارته، ومفاهيمه ومضامينه، ومسائله وقضاياه… فهو كتاب كريم ذو عطاء دائم متجدد تنكشف مكنوناته عبر الزمن للمطهرين صحبة وذكرا، الراسخين علما وإيمانا، المجاهدين استمدادا واستنطاقا، قال الله عز وجل: إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ (77) فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ (78) لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (80) [الواقعة].
“فالقرآن الكريم كتاب مكنون، وهو يتكشف عبر العصور عن مكنوناته؛ ليستوعب مشكلات وقضايا العصور -كلها- وبحسب سقوفها المعرفية وعلى اختلاف أنساقها الثقافية والحضارية، فهو مصدق ومهيمن ومستوعب ومتجاوز، وفي استيعابه يستطيع أن يستوعب الكون وحركته، والعالم وأزماته وإشكالاته؛ وليقوم القرآن بذلك لابد لتاليه من التطهر والتدبر” 1، ليتمكن من اكتشاف المنهاجية القرآنية الكلية الكامنة فيه، والتي قد تحجبها الغفلة، أو الأنانية، أو التقليد، أو كثلة كثيفة من الشروح والآراء والاجتهادات المظروفة بزمانها، والمستجيبة لمقتضيات واقعها.
هذا المنهاج القرآني الجامع بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وحاله وهديه تصديقا لقوله تعالى: وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ (النحل: 44). وجسده سلوكا إيمانيا معاشا، وعملا بنائيا ميدانيا، ومسيرة جهادية متنوعة، وبلاغا رساليا مبينا.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ البعثة إلى انتقاله للرفيق الأعلى يؤسس للمنهاج النبوي، ويبين معالمه، ويوضح أصوله ومقاصده علما وعملا، فقها وحالا، فردا وجماعة، دعوة ودولة… ويربي الصحابة رضي الله عنهم عليه صحبة وجماعة، ذكرا وعبادة، صدقا وتصديقا، بذلا وعطاء، علما وتعليما، سمتا حسنا ونموذجا جذابا، تؤدة وصبرا، اقتصادا وعدلا، جهادا واقتحاما.
هكذا بنيت خير أمة أخرجت للناس على أكمل شرعة وأتم منهاج. قال الله عز وجل: ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ (المائدة: 4). الدين الإسلامي الذي اختاره الله تعالى ورضي به لهذه الأمة إلى يوم القيامة اكتملت شرعته وحيا وإنزالا، وتم منهاجه تلقيا وتنزيلا.
وبهذا شكلت السنة والسيرة النبوية المطهرة النموذج والقدوة للفرد والأمة في تحويل النظرية إلى ممارسة، والمبادئ إلى برامج، والقيم إلى منهاج، والمثال إلى واقع… وأضحت الناظم المنهجي والمعيار العملي لتنزيل مقاصد القرآن وأحكامه وأخلاقه وهداياته في النفوس والمجتمعات والأنظمة، والإطار المرجعي للنظر الاجتهادي، والسلوك الجهادي، والبلاغ الدعوي، والسير الإحساني، والبناء العمراني في الواقع الإنساني المعاصر مع مراعاة متغيراته وتحولاته، مقتضياته وإمكاناته، أحواله وعوائده، دون تقليد جامد، أو استنساخ ساذج، أو محاكاة شكلية، أو عجز “عن امتلاك القدرة على وضع الحاضر، بظروفه، ومشكلاته، واستطاعاته، في موقعه المناسب، من مسيرة السيرة، ليشكل لها المنهج النبوي، عطاء وسدادا للمسيرة، في كل الحالات والظروف التي تمر بها… إن مشاريع النهوض المأمولة، إذا لم تحسن الإفادة من المنهج النبوي، في التغيير والبناء الحضاري، وتصبح قادرة على وضع الحاضر في موقعه المناسب، من مسيرة المنهج النبوي، سوف تفتقد بصيرتها، وتفتقد مرجعيتها، وتفتقد مركز الرؤية، الذي يمكنها من حسن التعامل مع أنموذجها في القدوة” 2. وحسن التمثل والإفادة من النموذج النبوي يحتاج إلى فقه إيماني حركي مقاصدي، ونظر كلي مصلحي تجديدي، وفهم نبوي متوازن يعيد سيرة زمن التنزيل على مستوى المبادئ والكليات والثوابت مع الاجتهاد في تنزيلها على أحوالنا وظروفنا وزماننا…
ورث الصحابة رضي الله عنهم الهدي النبوي كاملا فاعلا عمليا؛ لأنهم شهدوا التنزيل والوحي الإلهي يسدد مسيرتهم، وعاينوا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وصحبوه وعاشروه حتى كان أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم، وأخذوا عنه الإيمان والعلم والجهاد، وعاصروا سيرته عليه السلام وتتبعوا أحوالها ودقائقها، وتشبعوا بهديها وأنوارها، وفهموا مقاصدها وغاياتها، وتمثلوا المنهاج النبوي علما وفقها، فهما وتنزيلا، تحملا وأداء، نصا واجتهادا، عبادة ونظاما، دعوة ودولة…
كان الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعا -في حدود بشريتهم- مثالا رائعا في التأسي والاقتداء بالنبوة، والبناء على هديها في التربية والدعوة والجهاد… مع الاجتهاد في الحوادث والنوازل الطارئة الفردية والجماعية بنظر مصلحي واقعي أصيل، وعقل مقاصدي مبدع سديد، واجتهاد كلي جماعي رشيد… كانت الطريقة واضحة أمامهم، فساروا على سنن هذه المحجة البيضاء اللاحبة، وبدأوا يمارسون “مسؤوليتهم على ضوء الثوابت الإلهية، لأول مرة؛ فعلموا وتعثروا. طبقوا ما كانوا تلقوه من وحي، واجتهدوا بما لم يأت به خبر السماء، فأصابوا في معظم الأحيان وأخفقوا في أقلها وهم في كلا الحالتين ماضون في طريقهم الصاعد، محدقين في المستقبل بأعين ملأتها آيات الحكم المبين” 3.
الطريقة الواضحة الناهجة، والمحجة البيضاء اللاحبة التي تركنا عليها الرؤوف الرحيم صلوات ربي وسلامه عليه تعتمت وتجزأت؛ أول ما تعتم منها الحكم بتحوله من خلافة راشدة على منهاج النبوة إلى ملك عضوض وراثي كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الخلافة الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت” 4. وتوالى التعتيم والتشويش والتمزيق حتى ضاعت المحجة البيضاء، وانحرفت الأمة -تدريجيا- عن الجادة المستقيمة والسنة الكاملة.
أصيب البناء النبوي الراشدي بأول نقض له بتحول الحكم من شورى وعدل وإحسان إلى قهر واستبداد وظلم وتنازع على الدنيا؛ فكانت هذه هي الصدمة الأولى التي هزت البناء وزعزعته، وجعلت فيه شروخا وأنكاثا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة” 5.
كانت النتيجة الطبيعية لهذا التحول والانكسار أن تجزأ وتفرق المنهاج النبوي -الذي كان كاملا مجموعا في عهد النبوة والخلافة الراشدة كما سبقت الإشارة إلى ذلك- بتفرق المسلمين إلى طوائف (أهل السنة والجماعة، الخوارج، الشيعة…) ومذاهب (أهل الحديث، الفقهاء، الصوفية، السلفية…) وبتجزؤ العلم (علم الكلام، الفقه، السلوك، الأصول…) وبانفصال الدعوة عن الدولة، والقرآن عن السلطان، بل إن التجزؤ أصاب حتى شخصية الفرد (العقل، القلب، العمل…)، يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين: “ذهبت الشورى مع ذهاب الخلافة الراشدة، ذهب العدل، ذهب الإحسان، جاء الاستبداد مع بني أمية، ومع القرون استفحل، واحتل الأرض، واحتل العقول… واغتيل الرأي الحر، وسد باب الاجتهاد. وفي ظلها وفي خفاء الصراعات تكونت المذاهب الدساسة، وتمزقت الأمة سنة وشيعة، وتشتت العلم مزعا متخصصة عاجز فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة. لا يجسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن مخافة السلطان” 6.
لقد مثل هذا التراجع عن المنهاج النبوي الراشد في الحكم بداية التحلل والنقض في عرى المنهاج ومعاقده وأصوله وخصاله. ومنذ تلك اللحظة التاريخية المفصلية بدأت الأمة تبتعد عنه تدريجيا -وإن استمرت في الإنتاج العلمي والعطاء الحضاري ونشر الإسلام وتوسيع الفتوحات- وتنحرف عن جادته، ومع مرور الزمن كبر هذا الانحراف واستفحل، وتعتم ذلك الطريق الناهج، والسبيل القاصد، وتنكبت عنه الأمة وتخلت، فضيعت الشرعة، وغابت عنها الغاية، وضلت الطريق، وانقطع فيها المنهاج عن مورده، فجفت ينابيعه، وأخذت تتسول الدروب، وهي تصطنع المورد عند كل باب، وترد في نهاية الأمر عند كل باب تطرقه، مدحورة مخذولة 7، حتى تحولت إلى أمة غثائية ضعيفة، مهانة ذليلة، قصعة للآكلين كما أخبر بذلك الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم.
ومنذ ذلك الحين -وطوال تاريخنا الفتنوي- عاشت الأمة وماتزال أزمة منهاج؛ أزمة عقل ونقل وإرادة، أزمة تلقي وفهم وتطبيق.
وعندما اشتدت الأزمة بالأمة من كل جوانبها نهض علماؤها ومصلحوها ومفكروها للإجابة عن السؤال العريض الذي طرح منذ فكر النهضة “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”. تعددت وتناقضت المدارس والاتجاهات المجيبة عن هذه الإشكالية، فمن فكر “المقاربات” إلى فكر “المقارنات” إلى فكر “الحداثة” إلى مشروع “أسلمة المعرفة”… ومن تجارب “الحركات اليسارية” إلى تجارب “الحركات القومية” إلى تجارب “الدولة الوطنية” إلى تجارب “الحركات الإسلامية” إلى تجارب “الثورات العربية”…
وإذا كانت أغلب الدراسات ومشاريع النهوض والتقدم تجمع أن الأمة تعيش أزمة؛ فقد اختلفت في تحديد طبيعتها (عقدية، فكرية، تربوية، سياسية، حضارية…) والأسباب والعوامل التي أدت إليها، ومن ثمة طبيعة المشروع المنشود: مرجعيته، أهدافه، أولوياته، وسائله… فلم تقد هذه الجهود والطاقات والتضحيات إلى الخروج من الأزمة، بل عمقتها. والقليل من هذه الاجتهادات من بحث في السؤال العريض العميق المؤسس “سؤال المنهاج”.
[1] العلواني. طه جابر، أفلا يتدبرون القرآن؟ معالم منهجية في التدبر والتدبير، دار السلام، ط1، 2010م، ص 13.
[2] عبيد حسنة. عمر، من فقه التغيير ملامح من المنهج النبوي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1995م، ص8.
[3] الوزير. زيد بن علي، الفردية: بحث في أزمة الفقه الفردي السياسي عند المسلمين مركز التراث والبحوث اليمني، ط1، 2000م، ص114.
[4] أخرجه أحمد، واللفظ له، أول مسند الكوفيين، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، حديث: 18406. والبزار في مسنده، مسند حذيفة بن اليمان رضي الله، حديث: 2796. والطيالسي في مسنده، أحاديث حذيفة بن اليمان، حديث: 438.
[5] أخرجه أحمد، واللفظ له، مسند الأنصار، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، حديث: 22160. وابن حبان في صحيحه، ذكر الإخبار بأن أول ما يظهر من نقض عرى الإسلام من جهة الأمراء فساد الحكم والحكام، حديث: 486. والطبراني في المعجم الكبير، باب صدي بن العجلان أبو أمامة الباهلي، حديث: 7486.
[6] ياسين. عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، مطبعة فضالة المحمدية، ط 1، 1989، ص 10.
[7] ينظر أبو الفضل. منى عبد المنعم، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي: بين المقدمات والمقومات، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ط1، 1996م، ص7.
[2] عبيد حسنة. عمر، من فقه التغيير ملامح من المنهج النبوي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1995م، ص8.
[3] الوزير. زيد بن علي، الفردية: بحث في أزمة الفقه الفردي السياسي عند المسلمين مركز التراث والبحوث اليمني، ط1، 2000م، ص114.
[4] أخرجه أحمد، واللفظ له، أول مسند الكوفيين، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، حديث: 18406. والبزار في مسنده، مسند حذيفة بن اليمان رضي الله، حديث: 2796. والطيالسي في مسنده، أحاديث حذيفة بن اليمان، حديث: 438.
[5] أخرجه أحمد، واللفظ له، مسند الأنصار، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، حديث: 22160. وابن حبان في صحيحه، ذكر الإخبار بأن أول ما يظهر من نقض عرى الإسلام من جهة الأمراء فساد الحكم والحكام، حديث: 486. والطبراني في المعجم الكبير، باب صدي بن العجلان أبو أمامة الباهلي، حديث: 7486.
[6] ياسين. عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، مطبعة فضالة المحمدية، ط 1، 1989، ص 10.
[7] ينظر أبو الفضل. منى عبد المنعم، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي: بين المقدمات والمقومات، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ط1، 1996م، ص7.