عنونتُ هذه الحلقة بـنساء رسالة الإسلام أو الطوفان) لكون كاتب الرسالة وطابعيها، كانت معهم -ولا أقول من ورائهم- النساء الصالحات.
نساء خالدات تميزن برقيهن من ضعيفات منشغلات بمشاكلهن الدنيوية منصرفات إلى شؤونهن الخاصة تعانين في صمت إلى مؤمنات فاعلات إيجابيات ذوات إرادات متماسكة مع إرادات أزواجهن، يعنيهن مصيرهن عند الله كما يعنيهن مصير أمتهن.
الجيل الأول من النساء اللواتي ساعدن على بناء مشروع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، سبعة أسماء: رقية – خديجة – ندية – زينب – الهاشمية – السعدية وزهرة.
ثلاثة أجيال من النساء برسالة واحدة
ثلاثة أنواع من النساء يمثلن أجيالا مختلفة: الأم، الزوج والبنت.
نساء بوصلتهن واحدة وقبلتهن واحدة: محبة الله ورسوله.من أجل ذلك ساهمن مساهمة فاعلة ومؤثرة في مسيرة الرجال الثلاثة ومسار دعوة العدل والإحسان.
حرصت على ذكرهن، بأسمائهن في هذه الشهادة، لما بذلن من تضحيات جمة، ولنبل حافظيتهن وحرصهن على استمرار طهارة وقوة رسالة “رجال الرسالة”، فقوة الرجال من صبر النساء.
أذكر نساء رسالة “الإسلام أو الطوفان” قصدا، لأن ذاكرة المجتمع تنسى بصمة المرأة فيه.
أذكرهن من أجل الإنصاف وإبراز دور المرأة في بناء مشروع الإمام منذ الانطلاق.
نساء احتضنّ المشروع الذي كان فكرة ثم أصبح جنينا إلى أن سار بإذن ربه مولودا يسعى في الأرض.
أذكرهن لكي يسجل التاريخ المعاصر أن هناك في المغرب نساء خالدات لا يرغبن في تسليط الأضواء عليهن، إنما غايتهن نيل رضا الله بالتحلي بخصال أمهات المؤمنين اللواتي ارتدين رداء العفة والفضيلة، ويتلألأ من وجوههن نور الطهارة، ويشع من قلوبهن بهاء الطاعة، وعلى أجسادهن سيماء الرفعة والمهابة، وأخلصن في منح قلوبهن ووجدانهن وفكرهن لما آمنَّ به.
أول من قرأ رسالة الإمام امرأة
عندما كتب الإمام مسودة الرسالة، أخبر والدته “للا رقية” بما هو مقبل عليه من الأمر العظيم الذي يمكن أن يكون ثمنه الاستشهاد في سبيل الله. حرص الإمام رحمه الله بعد إخباره أحق الناس عليه، بالأمر الذي هو مقبل عليه، على سماع رضا أمه عليه. وما كان منها إلا أن قالت له: اعلم يا بني، ما من أمر تقبل عليه إلا وكانت معك فيه عناية الله. والله لن يخيبك الله…).
أما الزوج الصالحة “للا خديجة المالكي” فاستقبلت الحدث بالهدوء والسكينة والطمأنينة، وهي خصال نادرا ما تجتمع في المرء. إلا أن السيدة الشريفة زادتها هذه الخصال شرفا وتميزا. لم تمتعض مما أقبل عليه الإمام، لما عودها عليه من القصد في السير والصدق في القول، بينما البنت البارة “ندية”، والتي كانت تبلغ من العمر آنذاك 16 سنة، رأت في خطوة السيد الوالد تميزا في شخصيته، وقوة في الموقف، وعطاء من الله خصه الله به دون غيره.
كل من أم وزوج وبنت الإمام، كان لهن دور مهم في صناعة الموقف الإيجابي لزوجي الصاحبين. بحكمة بالغة قمن بشرح الحدث العظيم لـ”للا زينب” زوج الملاخ و”للا الهاشمية” زوج العلوي يوم اعتقال الإمام رحمه الله. علما أن اعتقال الإمام كان يوم فاتح رمضان واعتقال الصاحبين كان في اليوم الموالي.
رغم الضغط النفسي وأجواء الخوف والإشاعة وأقوال المغرضين وابتعاد القريب وتنكر الصديق، تم تقبل الأمر بشكل تلقائي وفي طمأنينة عالية.
اعتقل سيدي عبد السلام ياسين، رحمه الله، من مقر سكناه الذي كان يكتريه بحي الداوديات بمراكش، تاركا وراءه زوجا “خديجة المالكي” من مواليد 1952 بشيشاوة منطقة ولاد بوسبع، وأما “للا رقية بنت احماد” المزدادة سنة 1904 بآيت زلطن بمنطقة حاحا، وثلاثة أبناء: ندية (16 سنة)، خالد (14 سنة) وكامل (10 سنوات).
اعتقل سيدي محمد العلوي السليماني رحمه الله، من مقر سكناه الوظيفي بمدرسة الإمام الجزولي بحي دوار العسكر – الحي الحسني- بمراكش تاركا وراءه زوجا “الهاشمية بنت محمد بن الطاهر البلغيتي الحسني” من مواليد مدينة مراكش سنة 1935 وخمسة أبناء: أم كلثوم (22 سنة)، كريمة (20 سنة)، مولاي يوسف (18 سنة)، مولاي عبد العزيز (15 سنة) ومولاي أحمد (13 سنة). امرأة تطل على الأربعين مع خمس شباب في مقتبل العمر احتضنتهم ووجهتهم لإتمام دراستهم واقتحام العقبات.
كما اعتقل سيدي أحمد الملاخ رحمه الله، من مقر سكناه الذي كان يكتريه بحي الداوديات بمراكش، تاركا وراءه زوجا “زينب بنت مولاي مصطفى العلوي المحمدي” من مواليد مدينة مراكش سنة 1948 وستة أطفال: كريمة (11 سنة)، نور الدين (10 سنوات)، جميلة (9 سنوات)، إلهام (7 سنوات) وبشرى (6 سنوات) وفاطمة الزهراء (14 يوما). امرأة تطل على الثلاثين مع خمسة أطفال صغار وطفلة رضيعة رحمها الله.
خلال فترة الاعتقال، برز دور امرأة صالحة وهي زوج الحاج علي سقراط، السيدة “زهرة كادة”، التي كانت، رحمها الله، وزوجها نعم السند ونعم الموجه للعائلات الثلاث في محنة الاعتقال.
فترة صعبة، يصعب على ضعاف النفوس اجتيازها، كما يستحيل على عديمي الإرادات اقتحامها… إلا أن لطف الله عظيم وعنايته كبيرة، فما كان منه سبحانه إلا الجزاء الأوفى، اشتد عود الصبيان وخرج الرجال من محنة الاعتقال للاستمرار في مشروع البناء بسبب صبر النساء.
بعد مرحلة التأسيس، كان مشروع بناء الجماعة؛ زيارات يومية لأفواج من الناس للإمام والصاحبين بدون كلل أو ملل. فكانت بيوت الزوجات الثلاث، للا خديجة وللا زينب وللا السعدية الساسي – من مواليد مراكش سنة 1955، زوج سيدي محمد العلوي- محاضن للزائرين والزائرات، وكانت بيوتهن محطات انطلاق قطار جماعة العدل والإحسان.
آخر من ودع صاحب الرسالة امرأة
عندما اشتد المرض على رجال التأسيس، وحان الرحيل، كانت الزوجات الثلاث نعم الصاحبات لأزواجهن المنهكة أجسامهم بالمرض.
نساء رمز الوفاء والنبل والطهارة، بقين قريبات طبيبات رحيمات بأجساد طاهرة تضعف قوتها لحظة بعد أخرى وترحل وظائفها الواحدة تلو الأخرى، لكن الرجال بقوا في أعينهن كالجبال الشامخة والكواكب النورانية.
نساء لم نشهد لهن – نحن الأبناء والأحفاد – بعدا ولا جفاء ولا مللا، بل نسين أنفسهن، ودعون الله أن يقصر من عمرهن ليمد في عمر رفاق دربهن، لما رأين منهم من حسن معاملة ورقة مشاعر ونبل أخلاق.
وفي يوم الرحيل، رأينا في أعينهن دموعا منهمرة، وسمعنا من ألسنتهن صلاة وسلاما على سيد الخلق، كما كانت أيديهن ممتدة إلى السماء دعاء بأن الموعد الله.
أعلم أن أمهاتي الفضليات يرغبن بألا يُتحدث عنهن، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب العبد التقي الخفي”.
أعتذر من أمهات التنوير عذرا كبيرا، لأني تجرأت أن أقتحم حجرتهن. لكن ماذا عساني أن أفعل وعيني ترى عالما يموج في طوفان الوهم والصور المقلوبة، يرفع أقواما لم يبذلوا مثقال ذرة عمل، ويتناسى أناسا بذلوا النفس والنفيس، ليس من أجل الريادة أو الحظوة أو ليقول الناس… بل لأنهن نساء الظل والبناء في الخفاء ليشتد عود أهل السفينة، ولأنهن “نساء رسالة الإسلام أو الطوفان” أمهات ونساء وبنات التنوير اللواتي يكتسبن خصال بيت النبوة.
من أجلهن ولنبل رسالتهن خطت يمين الإمام كتاب: “تنوير المومنات”، لكي يكون نبراسا ونورا لكل مؤمن ومؤمنة، لهذا الجيل وما بعده، في تبليغ الرسالة علما وعملا، صدقا وتصديقا.