الإمام عبد السلام ياسين: من قومة “الإسلام أو الطوفان” إلى تكريس حياته لـ”المنهاج النبوي”

Cover Image for الإمام عبد السلام ياسين: من قومة “الإسلام أو الطوفان” إلى تكريس حياته لـ”المنهاج النبوي”
نشر بتاريخ

أرّخت العرب قبل الإسلام بعام الفيل الذي سُحِق فيه أبرهة وجيشه وهو يريد هدم الكعبة، وأرّخ المسلمون بحدث الهجرة الذي كان بدايةً لتأسيس الربيع الأول لهذه الأمة. فهل يؤرخ طوفان الأقصى لانهيار العلو الثاني لبني إسرائيل؟ وهل تُفقِد صفعةُ القرن 1 دولةَ الاحتلال ولوبياتها توازنها، وتُدخِلها في حالة من الإرباك ينتج عنه انهيار صنائعها من الأنظمة العميلة التي كشف كتاب “الحرب” للصحفي بوب وودورد ما باحت به من كره لكل ما يبثّ الروح في شعوبها؟ فيؤرِّخ الطوفان الذي سيجرف تلك الأنظمة للربيع الثاني 2 لهذه الأمة؟ الله أعلم!

لكن الأكيد هو أن هناك كثيرا من المفكرين الإسلاميين والغربيين 3يرون أن الطوفان قادم لا محالة، والسؤال بالنسبة إليهم، ليس كيف نتفادى الطوفان، بل السؤال هو: “ماذا نحن فاعلون بعد الطوفان؟”. ومن هؤلاء الإمام عبد السلام ياسين الذي خصّص حيزا كبيرا من كتاباته للتنظير لخواء وخيبة ما بعد الطوفان، حيث يقول: “ليكن واضحا أننا لا نلتمس مهربا من ساحة المواجهة أو توازنا مقبولا من طرف القوى العالمية والمحلية المعادية للإسلام… ولسنا نرمي لترميم صدع الأنظمة المنهارة معنويا، المنـتظرةِ ساعتها ليجرفها الطوفان… يَندَكُّ ما كان يظنه الغافلون عن الله الجاهلون بسنـته في القرى الظالم أهلُها حصونا منيعة… وتغرَق. ولما بعد الطوفان، ولخواء ما بعد الطوفان، وخيبة ما بعد الطوفان نكتب” 4.

 فمن هو الإمام عبد السلام ياسين؟ وما هو المنهاج النبوي الذي حاول بسطه؟ وما هي أهمية ذلك المنهاج؟

قومة “الإسلام أو الطوفان” 1974 م

بدأ الإمام عبد السلام ياسين رحلته مع التنظير للتغيير والعمل الإسلامي بكتابه “الإسلام بين الدعوة والدولة (المنهاج النبوي لتغيير الإنسان)” الصادر سنة 1972م، وكان الكتاب بمثابة صيحة “من اكتشف عالما فأخذ يصيح بكل قواه ليجلب انتباه الناس، لا يبالي بمن صدق أو كذب أو شك” 5.  وفي سنة 1973م أصدر كتابه: “الإسلام غدا (العمل الإسلامي وحركية المنهاج النبوي في زمن الفتنة)”، الذي خصّص فيه حيزا واسعا للخصال العشر التي رتّب فيها شعب الإيمان وفق رؤيته التغييرية 6. وفي 1974م كتب رسالته المفتوحة إلى ملك المغرب آنذاك الحسن الثاني في حوالي 100 صفحة بعنوان: “الإسلام أو الطوفان”، نصح فيها الملك وأمره ونهاه، واقترح عليه توبة كتوبة عمر بن عبد العزيز، واقترح عليه المنهاج النبوي لتجديد الإسلام، حيث قال: “وقد صغت المنهاج النبوي كما أراه في كتابي «الإسلام غداً» وأعيد صياغته هنا بإيجاز كثير، ولا أرى أني فرغت من صياغته” 7.

بعد فشل محاولة الإصلاح من القمة، والنجاة من الموت المحقق، وما كانت تقتضيه أعراف سنوات الرصاص، حوَّل الإمام ياسين جهوده نحو البناء من الأساس. فأسس الجماعة وأصدر كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما زحفا”، ليكون دستورا للعمل والحركة. ثم استمر بعد ذلك في تَجلِيَّة ذلك المنهاج بسطاً، وإزالةً للمشوشات، وتوضيحاً للمبهمات… بحيث يقول في كتاب محنة العقل المسلم: “ما هذا المكتوب كتاب جدل يجري معك في مسالكك لتعترف بكفاءته المنهجية. بل هو للتأسيس والتذكير على المنهاج النبوي” 8. ويقول في كتابه: “سنة الله”: وقصدنا من التعرض في هذا الكتاب لسنة الله في تاريخنا إنما هو إحاطة المنهاج التربوي بالظلال والألوان لتبرز أهمية التربية. فالتربية ثم التربية ثم التربية هي المطلب المحوري للأمة 9. والشاهد فيما سبق من عناوين الكتب أو الاقتباسات منها هو أن الهمّ المُستولي على الرجل في كل ما كتب هو تجلية المنهاج النبوي، والتنظير لمستقبل الأمة. فما هو المنهاج النبوي؟ وما أهميته؟

ما المقصود بالمنهاج النبوي؟

كلمة منهاج كلمة قرآنية، وردت في الآية: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة: 48]. وقال ابن عباس: “المنهاج ما جاءت به السنة”. وقد ورد المركب الإضافي “منهاج النبوة” في بشارة عظيمة من رسول الله ﷺ لهذه الأمة حيث قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت” 10.

والإمام ياسين يعرف هذا المركب الإضافي بقوله:” أمّا المنهاج النبوي، وهو السنة التطبيقية العملية النموذجية… فنجدها ونستمدها لفظا ومحتوى وتَوجُّها وبشرى للمؤمنين، وبُشرى للمحسنين، وعامِلَ ثقة في موعود الله عز وجل وبلاغِ رسـوله الكريم ﷺ، في هذا الحديث العظيم الـمُنْبِئ عن العِزِّ المُستقبَل الذي ينتظر هذه الأمة” 11.

وهذه البشارة العظيمة كان من المفترض، بعد بشائر الصحوة الإسلامية، أن تكون حادي تفكير كل العاملين للإسلام للبحث عن ذلك المنهاج الذي ربى به رسول الله ﷺ جيلا قرآنيا من المحسنين نقلهم، في ظرف وجيز، من رعاة وبدو على هامش التاريخ إلى أساتذة للعالم وقادة له في القيم والأخلاق والإرادة والفاعلية.

هل بعد القرآن والحديث النبوي نحتاج شيئاً اسمه المنهاج النبوي؟

قد يسأل بعضهم: هل بعد كتاب الله وما جمعه علماء الحديث من سنة رسول الله ﷺ، وما فصله الفقهاء من أحكام الشريعة… نحتاج إلى شيء اسمه المنهاج النبوي؟ وهذا سؤال من لا يعتبر نفسه معنيا بالعمل بكل أوامر القرآن ونواهيه، ولا بحال الأمة وهي تساق كقطيع الأنعام، إذ لو اعتبر نفسه معنيا لقاده همُّ العمل إلى البحث عن منهاج العمل. أو هو سؤال من اكتفى بفهمه هو للكتاب والسنة وبإسلام الآباء والأجداد! وسؤال من لم يسأل “ما الفائدة من علم بلا عمل؟ ما الفائدة من عمل بلا إخلاص؟ من ينهض بك إلى العمل؟ من يداويك من سم الرياء؟” 12. وسؤال من لم تطرق سمعَه قصةُ حجَّة الإسلام أبي حامد الغزالي الذي كانت تشدُّ إليه الرحال للفتوى، ثم بعد أن تأمل حقيقة حاله مع الله ذهب ليبحث عمن يربّيه ويعلمه الإيمان ومعارج الإحسان.

أهمية المنهاج النبوي والفقه الجامع

إن أهمية المنهاج النبوي لا يمكن إدراكها إلا بإدراك فاعليته في التغيير، وحجم الانحراف والتجزيئ الذي أصاب دين الأمة بعد “تهميشه”. فبصحبة رسول الله ﷺ، وفي جماعة تتحرك في مجتمع يقاوم التغيير ويناور ويناوش، أوتي الصحابة الإيمان وحكمة التعامل مع الواقع، وتعلموا دينهم في كلياته وجزئياته، دونما حاجة إلى التخصصات التي استُحدِثت فيما بعد مثل علوم الحديث وأصول الفقه ومقاصد الشريعة… تعملوا دينهم كما كان العرب يتعلمون اللغة سليقة من غير قواعد للنحو والإعراب، وكما كان بعضهم يَنْظِمُ الشِعر الموزون قبل أن تُكتشَف أوزان بحوره.

لكن بعد تغيُّرِ نظام الحكم من خلافة إلى ملك 13، وانتقاضِ العروة الماسكة لباقي العرى 14، وتغيّرِ شعار الدول من: “«إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»، و«رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي»، إلى: «إني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف (…) والله لا يأمرني أحد بعد مَقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه»، وبعد زحْفِ العدوان الداخلي، وتشتتِ الأمة إلى فِرق، وإسكاتِ الأصوات الناهية عن المنكر، واعتزالِ العلماء للشأن العام، وغيابِ القدوة الجامعة للدين والصف… “تشتت العلم مُزَعاً متخصصةً عاجزٌ فيها أصحابُ التخصص عن النظرة الشاملة. لا يجسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن مخافة السلطان” 15.

لذلك، فإن أهمية المنهاج النبوي هي أن يجيب “بوضوح وشمولية وانجماع في فكرنا وقلبنا وإيماننا وإرادتنا وحركتنا” عن سر التربية النبوية ومنهاجها حين ربى وحين ألَّف بين قلوب المؤمنين وحين رسم الأهداف وحين قاد وحين انتصر. وأن يجيبنا كيف جمع رسول الله ﷺ بين الدعوة والدولة؟ وبين الغاية الإحسانية: أن تعبد الله كأنك تراه، وبين الغاية الاستخلافية: عمارة الأرض وإقامة العدل؟ وأن يكسبنا الفقه الجامع الذي سيؤهلنا للاستفادة مما خلّفه العلماء من كنوز الفقه في كل التخصصات. “فمتى اكتشفنا من خلال كتاب الله وسنة نبيه سر التربية النبوية ومنهاجها انفتحت عنا أغلاق الجاهلية الراتعة في الأفئدة، المقيمة عليها، المقيدة لطاقات الفطرة الإيمانية، تمنعها من الانطلاق” 16.


[1] صفعة القرن: الضربة التي تلقتها دولة الاحتلال على يد المقاومة يوم السابع من أكتوبر 2023.
[2] الربيع الثاني أقصد به الخلافة الثانية على منهاج النبوة كما جاء في الحديث.
[3] آخر من تكلم في الموضوع هو المفكر الفرنسي إيمانويل تود، الذي تنبأ سنة 1976 في كتابه “السقوط الأخير” بسقوط الاتحاد السوفياتي والاتحاد في اوج قوته. فقد صدر له في بداية 2024 كتاب “هزيمة الغرب”La Défaite de l’Occident، الذي تنبأ بسقوط الغرب. وقد بنى تنبؤه على إحصائيات ومؤشرات في الاقتصاد والتعليم… وتحول النخبة البروتستانتية التي كانت تمجد قيم العمل والعلم، إلى عصابات حاكمة مشبعة بأفكار النيوليبرالية والجشع. والفوضى في القيم والمعايير وتغييب معنى الحياة، مما جعل الغرب عنوانًا للعدمية، وجعل قيمه غير جذابة لبقية العالم.
[4] ياسين، عبد السلام: العدل: الإسلاميون والحكم، ص617.
[5] ياسين، عبد السلام: الإحسان، ج1، ص19
[6] ذُكِر حديث شعب الإيمان عند البخاري ومسلم دون تفصيل. وممن حاول التفصيل في الموضوع أبو عبد الله الحلِيمي (ت:403ه) في كتابه: “المنهاج في شعب الإيمان”، وأبو بكر البيهقي (ت:458ه) في كتابه: (شعب الإيمان)، وعبد الجليل بن موسى القصيري (مغربي ت:608ه) في كتابه: “شعب الإيمان”. والإمام عبد السلام ياسين في كتابه: “شعب الإيمان”.
[7] ياسين، عبد السلام: الإسلام أو الطوفان، رسالة مفتوحة إلى ملك المغرب(الحسن2)، ص132.
[8] ياسين، عبد السلام: محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص34.
[9] ياسين، عبد السلام: سنة الله، ص47.
[10] رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير، والطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة، والطبري، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وحسنه الأرناؤوط.
[11] ياسين، عبد السلام: العدل: الإسلاميون والحكم، ص23.
[12] من أقوال الإمام أحمد الرفاعي.
[13] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: امْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: امسِكْ خِلاَفَةَ عَلِيّ قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً. رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط.
[14] قال رسول الله ﷺ: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة). أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه بإسناد جيد.
[15] ياسين، عبد السلام: نظرات في الفقه والتاريخ، ص9.
[16] ياسين، عبد السلام: القرآن والنبوة، ص62.