أجرى موقع الجماعة نت حوارا مع الدكتور عمر أمكاسو، عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان ونائب رئيس دائرتها السياسية، حول موضوع “الإمام منظرا وقائدا سياسيا”، تطرق للعديد من القضايا السياسية التصورية والعملية التي كان فيها للإمام رأي وموقف.
مكانة السياسة من مشروع الإمام التجديدي، خصائص وركائز الخط السياسي الذي أسسه وتبناه، مزالق السياسة وعلاقتها بالدعوة والتربية، الموقف من النظم السياسية القائمة، رسالتا “الإسلام أو الطوفان” و”مذكرة إلى من يهمه الأمر”، العلاقة بالأحزاب والحركات، إدارته للجماعة في اللحظات الصعبة… تلك وغيرها من القضايا المهمة التي يقدمها هذا الحوار. فإلى نصه:
يلاحظ كل دارس لمشروع الإمام الراحل عبد السلام ياسين رحمه الله أن السياسة، بما هي شأن عام وتهمم بقضايا البلد والأمة، احتلت مكانة معتبرة في حياة الرجل وتصوره وجماعته.
بحكم أنكم أستاذ أمكاسو واحدا ممن صحبوا الرجل منذ زمن مبكر ونائب رئيس الدائرة السياسية، ما الحجم الذي أعطاه الإمام للسياسة تنظيرا وممارسة؟
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه.
أود في البداية، بمناسبة مرور سنة على رحيل الإمام المرشد أن أسأل المولى القدير أن يجدد رحماته على فقيدنا الكبير وأن يرفع مقامه في أعلى عليين، وأن يجازيه عنا وعن الأمة المغربية والأمة الإسلامية خير جزاء، فقد وهب كل حياته من أجل أن نعيش جميعا في كنف العبودية الحقيقية لله تعالى، ومن أجل أن يسترد المغرب وكافة البلاد الإسلامية عزتها وكرامتها، ومن أجل أن تعيش الإنسانية في كنف السلم والوئام والتعارف والتعاون.
بخصوص سؤالكم، فإن المشروع المتكامل الذي أثله الإمام المرشد رحمه الله وعمل على تنزيله طيلة حياته،ـ وهو الذي نصطلح عليه بمشروع المنهاج النبوي، ـ يعطي للشأن العام موقعا متميزا باعتباره تجسيداً للشق العدلي من الشعار العام لهذا المشروع، أي العدل والإحسان. وينطلق الإمام المرشد من كون المطلب العدلي مكملا للمطلب الإحساني، وأن المطلبين يلخصان معا رسالة الإسلام، مستنبطا ذلك من قول الله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وهذه الآية كما أخبر الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن عباس هي “أجمع آية في القرآن”، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أصبح وهمه غير الله، فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم..”
ولذلك يلح الإمام المرشد رحمه الله على أن فصل هذين المطلبين الساميين الجليلين أحدهما عن الآخر من شأنه أن يحرف هذه الرسالة ويشوهها.
وتجسيدا لهذه المكانة على المستوى التنظيري والتصوري، يستحضر الإمام المرشد رحمه الله البعد السياسي بقوة في كل كتاباته وتنظيراته، مهما كان موضوعها، فمثلا في كتاب تربوي بامتياز ككتاب “الإحسان” ـ وهو من أمهات كتب الإمام ـ يخصص رحمه الله فقرات متعددة لهذا البعد في تناسق خلاق مع البعد الإحساني قلما تجد له مثيلا في كتابات غيره. كما خصص رحمه الله كتابا ضخما لهذه القضية البالغة الأهمية، وهو كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم” الذي نظر فيه بعمق وبراعة للمنهاج السياسي، وعالج كثيرا من القضايا التي يطرحها سعي الإسلاميين نحو الحكم وعلاقاتهم مع باقي الفرقاء، وما أحوج الإسلاميين للاطلاع على هذا الاجتهاد الفذ في هذه المرحلة المفصلية التي تمر منها أمتنا الإسلامية في سيرها الحثيث نحة استعادة مجدها وعزتها.
وعلى المستوى العملي والميداني، انخرط الإمام رحمه الله في معمعان السياسة منذ انطلاق دعوته، بل دشن هذه الانطلاقة برسالته المدوية “الإسلام أو الطوفان” التي تمثل إلى الآن أقوى بيان سياسي معارض للنظام المغربي، كما عمد إلى تأسيس جمعية ذات طابع سياسي كمدخل للعمل الدعوي، هي الجمعية الخيرية الإسلامية التي ستحمل فيما بعد شعار “العدل والإحسان” وقاد باقتدار كبير وحنكة سياسية متميزة جماعة العدل والإحسان كأكبر قوة سياسية معارضة في المغرب، دون السقوط في شباك المخزن كما وقع لكثير من التنظيمات السياسية، ودون الانجرار إلى العنف كما وقع لتنظيمات أخرى، رغم المضايقات المتواصلة التي عانت منها الجماعة، ونال منها الأستاذ المرشد رحمه الله الحظ الأوفر. وبذلك أسس رحمه الله لخط سياسي تدافعي متميز، لا يهادن الحكام الظلمة، وفي نفس الوقت لا يتبنى العنف في مواجهتهم، وهو ما يصطلح عليه بعض الدارسين مثل الباحث الكبير ياسر الزعاترة بخط المغالبة الأهلية. وبالموازاة لذلك أسس رحمه الله لخط تربوي دعوي متميز وفريد، يركز على الأساس التربوي الإحساني -إلى درجة أن الكثيرين سموه تصوفا- وفي نفس الوقت يهتم بالدعوة والحركة والتدافع وبالشأن العام السياسي ، حتى أن البعض اعتبره أكبر معارض للنظام واعتبر الجماعة أكبر قوة سياسية.
بيد أنني أود التأكيد بأن الإمام المرشد رحمه الله لم يعتبر الشأن السياسي هدف مشروعه ومنتهاه، كما نجد عند بعض المنظرين الإسلاميين ومن يوصفون بالإسلام السياسي، بل اعتبره مجرد وسيلة لتحقيق الغاية العظمى التي خلق الإنسان من أجلها وهي غاية تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل، فهو يلح على أن التمكين، أو الوصول إلى الحكم، الذي هو هدف السياسيين، ليس سوى وسيلة لعمارة الأرض وفق شرع الله تعالى وبناء مجتمع العمران الأخوي، منطلقا في ذلك من مثل قوله تعالى: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
لكن يسجل وبشكل واضح تحذيره رحمه الله من مزالق السياسة ومكائد العمل السياسي، وحرصه على تفرغ رجال الدعوة للتربية والدعوة وصحبة الناس في المساجد ومواسم الخير ودلالتهم على حسن الأخلاق وتربيتهم على السلوك القويم. هل معنى ذلك أن الشأن السياسي والانخراط في الشأن العام أمر ثانوي لا ينبغي أن يتضخم ليسرق الهوية التربوية والدعوية؟
صحيح، ما فتئ الإمام المرشد رحمه الله يحذر في مكتوباته ومسموعاته ومرئياته وتوجيهاته من مزالق العمل السياسي ومكائده، لكن ذلك لا يعني تقليلاً من شأن العمل السياسي، بل ينطلق الإمام المجدد رحمه الله في هذه التحذيرات من نظرته السالفة للعمل السياسي باعتباره وسيلة وليس هدفا، وفي نفس الوقت يدعو الإمام المرشد رحمه الله إلى إيلاء الاهتمام الأكبر للدعوة بما هي تربية وتوجيه وإرشاد وتحفيز للإنسان حتى يستقيم على شرع الله ويبني مجتمع العمران الأخوي.
من جهة أخرى، ينطلق الإمام في هذه التحذيرات من قراءته المتمعنة للتاريخ الإسلامي خاصة ولتاريخ الحركات التغييرية، حيث استنتج كما بين في عدد من كتبه وخاصة كتاب “رجال القومة والإصلاح” وقبله كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة” أن انشغال رجال الدعوة والفكر بالعمل السياسي اليومي من شأنه أن يشوش على مشروعهم الأصلي ويلقي بهم في معمعان التدافع والصراعات ويشغلهم عن المهمة الكبرى التي هي تربية الإنسان، ويفقد الدعوة نصاعتها ورصيدها الشعبي..ولنا أن نتأمل ـ تأكيدا لهذا الرأي السديد الموفق ـ كيف انقلب أمر كثير من الدعوات لما تلبست بالعمل السياسي اليومي وغفلت عن جوهر رسالتها مثل الدعوة المرابطية، والدعوة الموحدية، والدعوة الوهابية، وغيرها.
لكن هذه التحذيرات المتواصلة من الإمام للمشتغلين بالدعوة ألا ينغمسوا في معمعان السياسة التدافعية، لا تعني ما يذهب إليه البعض من ترك السياسة وملابساتها لأنها لا تعنينا، مما يمكن أن نسميه لائكية معكوسة، بل قصده رحمه الله التنبيه لخطورة العمل السياسي اليومي، وضرورة وضعه في سياق التغيير الشامل الذي ينطلق من الإنسان تربية له وتزكية لنفسه وترقية لأخلاقه وتأهيلا له ليستحق خلافة الله تعالى في أرضه، ويعود إلى الإنسان بناء لمجتمع العمران الأخوي الذي يوفر له جو عبادة الله تعالى حق العبادة عزة وكرامة وعدلا وشورى..
يعتبر موقف الإمام من نظام الحكم القائم اليوم في المغرب، وسائر البلاد الإسلامية، واحدا من أقوى المواقف السياسية والشرعية وأكثرها توازنا، وتعتبر رسالتا “الإسلام والطوفان” التي بعثها إلى الملك الراحل الحسن الثاني و”مذكرة إلى من يهمه الأمر” التي أرسلها للملك محمد السادس من أبرز تعبيرات هذا الموقف. اليوم وعلى بعد هذه المسافة الزمنية المعتبرة من النصيحتين، ماذا تبقى من الرسالتين من قيم ومواقف؟
بقي من الرسالتين كل شيء… بقي الموقف المبدئي القوي الذي لا يقبل المساومة، وبقي الوضوح الذي لا يقبل أي تأويل، بقي منها إحياء مبدأ الجهر بالحق في وجه سلطان جائر في وقت آثر فيه الكثيرون الركون إلى الظالمين وتبرير ظلمهم، بقي من الرسالتين امتلاك الشجاعة للكشف عن أصل الداء الذي أصاب الأمة الإسلامية منذ انقضاض الملك العاض على الخلافة الشورية، وهو الحكم الفاسد عوض انشغال البعض بفروع وتداعيات هذا الداء ظانين أنهم يصلحون ويغيرون، بقي منها إسداء النصيحة الهادئة القوية التي تستهدف الإصلاح الحقيقي والعميق، وليس المهادنة المتصالحة مع الفساد والاستبداد، بقي من الرسالتين الاقتراح الشجاع والقوي الذي بإمكانه الإسهام في حل أزمة المغرب وهو رد الأموال التي نهبها الحاكمون…
من جهة ثانية كيف دبّر الإمام علاقته مع المخالفين والفرقاء وباقي أطياف المجتمع؟
لقد حرص الإمام رحمه الله على التخلق بالأخلاق النبوية في كل شؤونه، ففي تدبيره للعلاقة مع المخالفين وباقي الفرقاء التزم رحمه الله بمبادئ الحوار الرصين والهادف ومد جسور التواصل والبحث عن نقط الالتقاء لتقويتها وإبرازها، والمناقشة الهادئة الرصينة لنقط الاختلاف، نجد ذلك بوضوح في كتبه الحوارية، مثل “حوار الماضي والمستقبل” الموجه لرجال الحركة الوطنية، و”حوار مع الفضلاء الديمقراطيين” الموجه للزعماء السياسيين، و”حوار مع صديق أمازيغي” الموجه لدعاة الحركة الأمازيغية.
ولذلك كانت تربط بين الإمام رحمه الله وقادة الدعوة والفكر والسياسة داخل المغرب وخارجه علاقات تواصل واحترام متبادل رغم الاختلاف في التوجهات، ولعل الإجماع غير المسبوق الذي حازه الإمام بعد وفاته من قبل الجميع بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم خير تعبير عن هذه العلاقات، ولم يشذ عن هذا المنوال إلا بعض المخالفين الذين لا يقبلون الحوار أصلا ويضعون أنفسهم ودعواتهم فوق الجميع، ورغم ذلك لم يعاملهم الإمام المرشد رحمه الله بالمثل، بل كان يدعو لهم بالمغفرة ويتصدق بعرضه لهم. وليس أدل على ذلك من ترحمه دائما على الملك الراحل الحسن الثاني رغم ما صب عليه من صنوف التضييق سجنا وحصارا ودعاية وتشويشا وغيرها، وكان رحمه الله يقول لنا لقد كنا في تدافع مع الملك في حياته، ولما انتقل إلى دار البقاء فنكله لخالقه وندعو له بالرحمة، لأن معارضتنا له ليست لشخصه إنما هي للنظام الذي يمثله.
باعتباره رحمه الله كان قائدا لجماعة العدل والإحسان، كيف دبّر الإمام بعض المحطات السياسية الصعبة (مثلا: قرار حل الجماعة، حصار المرشد، سجن مجلس الإرشاد…)؟
لا يسعني إلا وصف تدبير الإمام للمحطات السياسية الصعبة في تاريخ دعوة العدل والإحسان بالتدبير الموفق والمسدد بفضل الله تعالى، وكيف لا يكون كذلك وهو يصدر عن مرب مرشد معتكف دائما على باب الله تعالى ذكرا وصياما وتلاوة وتفكرا وتدبرا ودعوة إليه وتأليفا للقلوب عليه.. وفي نفس الوقت يصدر هذا التدبير من رجل سياسي محنك ذي نظرة استراتيجية تنفذ إلى عمق القضايا ولا تشتغل بالقشور، مثلا في تدبيره رحمه الله لقرار حل الجماعة عقب الحملة الشعواء التي شنتها السلطات عليها في نهاية الثمانينيان من القرن الماضي لما اعتقلت مجلس الإرشاد وكثير من قيادات الجماعة في مختلف المدن، وفرضت الإقامة الإجبارية على الإمام المرشد في بيته، رأى بأن النظام كشر أنيابه للقضاء على الجماعة بلا هوادة، فدعا مسؤولي الجماعة إلى القبول بهذا الأمر من باب الانحناء الحكيم أمام هذه الزوبعة، لكنه انحناء السنبلة التي سرعان ما تستقيم. فمباشرة بعد ذلك دعا الإمام المرشد رحمه الله أعضاء الجماعة للتظاهر العلني وسط الرباط احتجاجا على محاكمة أعضاء مجلس الإرشاد يوم 08 ماي 1990، وقد أسهم هذا التظاهر الضخم بحق في التأسيس للاحتجاجات الشعبية في المغرب، وكشف اللثام عن حقيقة السياسة المخزنية، ومن جهة ثانية أعاد للجماعة مشروعيتها الميدانية القوية التي حاول النظام انتزاعها منها بلا جدوى.
ما هي الخطوات التي كان يسلكها قبل اتخاذ أي موقف أو قرار سياسي هام؟
لقد كان الإمام المرشد رحمه الله حريصا على التداول مع المسؤولين وخاصة مجلس الإرشاد وتوسيع النقاش والاستماع لكل وجهات النظر قبل اتخاذ أي قرار سياسي أو غيره، ولا يجد غضاضة في التراجع عن أي رأي يلمس أنه لم يحصل على الإجماع، وفي كلمة واحدة، كان رحمه الله يلتزم بالشورى بكل مقتضياتها في اتخاذ القرارات، ولا يقدم على اتخاذ أي قرار إلا بعد التداول والتشاور، وفي نفس الوقت كان رحمه الله حريصا على بناء مؤسسات الجماعة التي فوض لها الإشراف الكلي على كثير من القضايا، وكان يضع فيها الثقة الكاملة ويترك لها المجال الفسيح للعمل والتدبير، وقلما يتدخل في سيرها، وإذا فعل فإن تدخله لا يتجاوز التنبيه والتوجيه بكل رفق وحدب.
ختاما هل من معنى خاص وقيم مضافة أطرت ممارسة الرجل للتفكير والممارسة السياسيتين؟
أخشى أن نكون قد أغمطتنا الإمام المرشد رحمه الله حقه لما ركزنا في حديثنا عنه على الجانب السياسي في هذا الحوار، فقد كان رحمه الله بحق إماما مرشدا ومربيا مجددا قبل أن يكون سياسيا محنكا حكيما ومفكرا منظرا، ولذلك كان اشتغاله بالسياسة تنظيرا وممارسة مؤطرا بذلك البعد الرباني ومجسدا له.وكانت السياسة في تصوره وممارسته وتربيته للجماعة سلوك تعبدي يحقق معاني الترقي على مدارج القرب من الله تعالى وبناء مجتمع العمران الأخوي المنشود.
نسأل الله عز وجل مجددا أن يجازي عنا خيرا إمامنا المرشد المجدد، وأن يرفع مقامه في عليين مع النبيين والشهداء والصديقين، وأن ينفعنا وينفع الأمة بمشروعه، وأن يجعلنا من تلامذته السائرين على نهجه ومنهاجه تربية ودعوة وسياسة، عدلا وإحسانا.