مقدمة
لكل دعوة في التاريخ البشري فكرة تأسيس وذاكرة تأريخ ومنهاج عمل وخطة طريق، والفكرة/المشروع التي انقدحت في قلب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله وفي عقله ووجدانه واستولت ذات يوم على كيانه كلِّه قد استوت خلال أربعين سنة مشروعا مجتمعيا قائما بفضل الله وتوفيقه، يخطو خطوات نجاحه بتدرج واستبصار، وها هي الأجيال المتعاقبة تحكي ذكرى تأسيسه الطيبة، حتى يهتدي المستهدون بمنهاج عمل وُفق القائمون عليه في حفظ أصالته وتوازنه ومقصديته، ويتدارس الباحثون من كل الأطياف والأعراق والجنسيات خطة طريقه اللاحب. فالفضل بعد الله تعالى يرجع إلى رجُل نوراني أوتي اجتهادا واستبصارا في تأليف القلوب وتربية الأنفس ورصّ الصفوف، فهو رحمه الله “جامع الجماعة ومربيها”.
فكرة العمل الجماعي أو الجماعة الفكرة
بلغني قبل سنوات أن سيدي أحمد الملاخ رحمه الله ذكر بأن الإمام كان يحدثه عن مفهوم وفكرة “المنهاج” منذ سنة 1959م 1، أي قبل مرحلة التصوف بسبع سنوات، وقبل تأسيس الجماعة بــــ 23 سنة، فالرجل كان يجيد طرح الأسئلة الكبرى: أسئلة الوجود والمصير والمعرفة والأخلاق والتغيير والإصلاح… ويجيل بالفكرة في خاطره ويقلب النظر في مضامينها كرّات، ويطلع على آراء السابقين وجواباتهم، وهو يستخير ويتدبر ويتفكر ويستبصر ويجتهد، إلى أن يهتدي إلى ما يراه أولى بالقول أو بالعمل فيصدع به بلا خوف ولا وجل.
ومما اقتنع به رحمه الله -وهو الخبير التربوي والمفكر الحر- فكرة تجميع الجهود الطيبة ورص الصفوف الصادقة من أجل التعاون الجاد على حمل أمانة الدعوة وتبليغها برفق إلى الناس أجمعين، وإعداد الطليعة وصناعة القدوة لتربية أجيال وارثة قادرة بإذن الله على إصلاح ما أفسدته أيدي الناس، وهو يفكر في الأمر ويخطط له، حيث العلم إمام العمل، اهتدى إلى مشروع توحيد العاملين للإسلام في المغرب، ولما تعذّر ذلك، انتقل كعادته في تغيير الوسائل إلى مشروع تأسيس جماعة جديدة بعدما أنشأ أول مجلة إسلامية غير حكومية في المغرب واختار لها اسم “الجماعة” إيقانا منه بأن الإسلام دين الجماعة، وأن التجربة النبوية تجربة جماعية، انصهرت فيها الذوات الفردية وتآلفت فيها القلوب، وتكاثفت فيها الجهود، كل ذلك في مدرسة الشدائد، حيث تربى الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم، ومن تلك “المدرسة مَرَّ المهاجرون والأنصار أفرادا. حتى إذا آنَ أن يتجمع منهم جند الجهاد، تجسدت فيهم تلك التربية، وهي روح الجماعة، تنظيما مرصوصا لا يُقاوَم.” 2
جماعة الإرشاد
قبل كتابة رسالة الإسلام أو الطوفان، دوَّن الأستاذ رسالة لم تطبع إلى حد الآن، بمدينة مراكش سنة 1973م رسالة مُطولة سماها “رسالة الإرشاد” 3، يشرح فيها نظريته التجديدية في الدعوة، ليفتح تجربته الجديدة على واجهة مُشرعة على الشأن العام بإكراهاته وتضحياته. أكد فيها على فكرة الجماعة قبل تأسيس الجماعة، حيث قال: “وهذه دعوة جماعة تسمت “جماعة الإرشاد”، عنوانا لما يُصدقون به من قول الرسول الكريم: “يد الله على الجماعة” ولما يرجون أن يسوق الله على يدهم من اهتداء لأنفسهم ولأمتهم سوقا مجددا مؤيدا، لقوله تعالى: من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا 4.
“جماعة المومنين” هاته هي التي تحتضن التوابين وتربيهم على اقتحام العقبات، سعيا في الأرض برفق الإسلام ورحمته، لا بعنف الجاهلين وقسوتهم، حيث قال في الرسالة نفسها: “فرفقُنا يا من لا يسمع لِوَقْرٍ صنعته له الضوضاء الجاهلية رفق عمل لا رفق تخاذل، رفق جماعة مجاهدة تعالج برفق وتقنع برفق وتبشر بالرحمة ويعطيها الله على الرفق ما لا يعطي إياكم على العنف”.
في كتابه “الإسلام غدا” عام 1973م، وهو يتحدث عن مستقبل المسلمين وشروط إقامة كيانهم الروحي والمادي والأخلاقي، ركز على فقه التعاون الجماعي و”التربية الجماعية” معتبرا أن “الإسلام دين الجماعة”، لا دين الأنانيات الفردانية، التي تحجبها أثقال العادات الاجتماعية ونزعات المصالح الشخصية عن الوفاء لحقائق الإسلام الناصعة، وتمنعها من النهوض بأعباء بناء كيان الأمة وتشييد أركانه. ولذلك فـ“الإسلام الفردي لن يجمع لنا كلمة ولن يؤهلنا لجهاد” 5.
وفي مجلة الجماعة 6 التي كانت اللبنة الإعلامية الأولى التي أنشأها الأستاذ رحمه في عرض مشروعه التجديدي (مشروع العدل والإحسان) أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي، و“ذلك لأن الجماعة المنظمة هي التي تقاوم قوى الانحلال والانهيار” 7 كما يقول محمد إقبال رحمه الله.
توحيد العمل الإسلامي
ابتداء من سنة 1978م أقدم رحمه الله على تنفيذ ما يمكن أن نسميه بفكرة “الجماعة القُطرية” أو “الجماعة الوطنية” التي تفيد توحيد الجماعات الإسلامية في جماعة واحدة، قبل أن يتبين بأن ذلك كان مستعصيا لاختلاف الإرادات ولتمايز مستويات التربية وتفاوت الفهم لمقاصد العمل ووسائله، وفي ذلك رحمه الله: “كان الجميع عبارة عن مجموعة من الناس، قليل جدا عددهم. فأثناء اتصالنا وحوارنا بأعضاء الحركة الإسلامية، كُنتُ أنا أُسوف وأقول نتريَّث وننتظر لعلَّ أن يستجيب لنا إخوتنا فيتوحدون، لعلَّ ولعل… بدا لي بعد سنة ونصف من المحاولات أننا نطرق في حديد بارد، وأننا -كما قلت في سؤال مضى- كنا نطمع في غير مطمع. فلما قررنا أن نتوكل على الله عز وجل وأن نبدأ، أظن أنه تلك الحفنة من الناس التي كانت في بداية عملنا، لم يكن لنا أي تردد ولا أي خوف ولا أي شرط، بل توكلنا على الله ورمينا السفينة في اللجة”. وهكذا بدأت الرحلة من الفكرة إلى الميدان.
أسرة الجماعة
وأول إنجاز للفكرة تأسيس محضن الجماعة بمدينة سلا سنة 1981م في شكل أسرةٍ صغيرة تتدارس آفاق العمل الجماعي وشروطه ومعاناته، وفي ذلك قال رحمه الله “تأسيس الجماعة سنة 1401هـ (1981م) هو الأمل المتواصل في أن يكون لكلمتنا وقع، ولندائنا استجابة” 8، موقنا بضرورة تنظيم العمل الإسلامي من أجل الانتقال من الأماني العاجزة والشكاوى القاعدة إلى الفعل والإنجاز، حيث “إن القوة الحقيقية تكمن في التنظيم الجماعي” 9 لا في النداءات الحماسية كما قال عبد الله العروي.
استجابة لنداء التنظيم المتحاب المتعاون التفَّ حول المشروع ورجل المشروع شبابٌ كثر، من مُدن المغرب وقُراه، يتدارسون مهام الدعوة ويتلمسون معالم السلوك التربوي والدعوي والسياسي كما رسمها اجتهاد المنهاج النبوي في أربعة أعداد من مجلة “الجماعة”. واستمر العمل بجدية ونشاط، إلى أن تأسست الجماعة قانونيا في أبريل 1983م، وبعد أربع سنوات من ترتيب البيت وتوسيع دوائر العمل، اتخذت الجماعة شعار العدل والإحسان شعارا رسميا لها سنة 1987م، فعرفت بجماعة العدل والإحسان.
خاتمة: الجماعة ثمرة صُحبة الإمام
قال الأستاذ محمد عبادي في كلمته الافتتاحية بمناسبة الاحتفاء بالذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة:
“إننا نعتبر صحبتنا لمؤسس الجماعة الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله من أعظم النعم التي منّ الله بها علينا. فهذا الرجل هاله ما تعيش الأمة من أحوال مزرية فعكف على باب الله شهورا وأعواما يستخير الله تعالى، ويستلهمه طريق الخلاص بعدما منَّ الله عليه بمعرفته، فهداه الله تعالى إلى رسم خطة تسهم في تجديد دين الأمة والنهوض بها، أسماها المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، تأسيا بخطى الحبيب صلى الله عليه وسلم ترجمها إلى واقع ملموس، حيث ربَّى عليها أجيالا من المؤمنين والمؤمنات، ورثوا منه روحانيته، وهمته، وشجاعته، وتبَتلَه، وهمَّ لقاء الله، والاهتمامَ بأمر الله، كل حسب استعداده. وتعلموا على يديه أنجع أساليب التدبير والتسيير والدعوة، وألطف طرق التعامل الرفيق مع الوالدين والأولاد والأزواج وعامة الناس، وارتبطت أرواحهم به، وببعضهم البعض، فأصبحوا بنيانا مرصوصا، وأصبح لكل فرد منهم ذكرا أو أنثى نصيب من الوِرد النبوي، وجلسات للذكر والدعاء، والاستغفار وحفظ كتاب الله وتلاوته، وصيام الأيام الفاضلة، بله الحضور في المجالس التربوية والتعليمية والتكوينية التي تقيمها الجماعة.
هذه التربية هي التي بنت جماعة العدل والإحسان، وأحيت أجيالا من الشباب انتشلتهم من الغواية والضلال، وغرست فيهم معاني الفضيلة والرجولة”.
[2] عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص 74.
[3] رسالة في 91 صفحة، توجه بها الأستاذ إلى شيخه والنخبة المثقفة بالزاوية البوتشيشية قصد إصلاحها والخروج بها من الانزواء إلى الفعل المجتمعي.
[4] مخطوط.
[5] ياسين، عبد السلام. الإسلام غدا، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، ط1، 1973، ص 200.
[6] صدر من المجلة 16 عدد، بين 1979م و1985م. وتوجد جميعها في موقع سراج (siraj.net)، وهي بالمناسبة أول مجلة إسلامية غير حكومية في المغرب.
[7] إقبال، محمد. تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: محمد يوسف عدس، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط 1، 2011م، ص 253.
[8] حوار شامل مع الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، ص: 30-36.
[9] العروي، عبد الله. الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة للطبع والنشر، بيروت، ط 3، 1979م، ص 14.