لقد أفلحت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية في تصدير تصورها وسياستها في إدارة الشأن الديني إلى الدول الناكصة عن الديمقراطية والسائرة في طريق الاستبداد، وهو ما يعبِّر عن سبق كبير وتقدم عظيم لهذه الوزارة في ممارسة التسلط على القيِّمين الدينيين.
فها هو السيسي المصري يقتبس من هذا التصور ويبدأ في تنزيله بشكل أقل حدّة مما عليه في المغرب؛ حيث أصدرت وزارة الانقلاب والشؤون الإسلامية المصرية مذكرات تحظر على غير المتوفرين على تراخيص إلقاء خطب الجمعة، كما قامت بطرد أئمة وأوقفت آخرين من الذين لا يتقاسمون معها الموقف المخزي من الانقلاب، أو ممن لهم انتماءات سياسية قد تشوش على خطة شرعنة هذه الجرائم والمجازر. ثم إنها، محاولةً منها لتدارك الفرق الحاصل بينها وبين نظيرتها المغربية، عملت مؤخرا على تفعيل الخطبة الموحدة بين المساجد كل ذلك مع الضرب بيد من حديد على كل من يخالف هذه الأوامر الصارمة.
من دون شك سيتذكر قارئ المقال أن هذه الممارسات أصبحت أمرا معتادا في بلدنا المغرب وغدت سياسة منتهجة منذ انطلاق ورشة هيكلة الحقل الديني، إذ إن الحصيلة ثقيلة لعدد الخطباء والأئمة الذين تم توقيفهم ومنعهم من الخطبة، كما أن حجم الضغط والإرهاب النفسي الذي يعاني منه ذوو المروءات والفضلاء في مؤسسات الوزارة مركزيا ومحليا من مندوبيات ومجالس علمية أصبح أمرا لا يمكن إخفاؤه. وإذا كان هذا الاستهداف قد تركز في الماضي على أعضاء جماعة العدل والإحسان والمتعاطفين معها من المنتسبين إلى هذه الوزارة فإنه أصبح في الأيام الأخيرة يطال كل ذي رأي مخالف للتوجهات الرسمية وكل صاحب موقف من طريقة تدبير هذا الحقل بالمغرب.
إن هذه السياسة تعطي الانطباع بأن الوزارة المعنية بتنزيل مقتضيات «إمارة المؤمنين» في شقها الديني – لأن هناك مقتضيات أخرى لهذا الوصف تهم الشق السياسي يمكن أن تستدعى عند الحاجة – تحولت إلى ما يشبه ثكنة عسكرية تجري روائز نفسية واستخباراتية للراغبين في الالتحاق بها، وهي تعتبر الكفاءة العلمية والأهلية الأخلاقية والتربوية في صاحب رسالة تعليم الدين للناس في ذيل الشروط المطلوب توفرها فيه. لكن القصة لا تنتهي عند هذا الأمر بل يصير المنتسب إليها مدانا حتى تثبت براءته، ولا يتمتع بهذا الصك إلا بعد أن يقدِّم حسن السيرة ويعمل بتفان في خدمة أجندة الوزارة دون المحيد عنها قيد أنملة. وبما أن أوجه التقارب كثيرة بين وزارة الأوقاف وباقي المؤسسات الأمنية الأخرى فإن موظفيها والملحقين بها لهم وضعية خاصة تمنعهم من القيام بأي عمل سياسي أو حتى حضور نشاط لهيئة ما في تبخيس بئيس لمكانة الإمام والخطيب. وخير مثال لذلك ما وقع للخطيب المفوه عبد القدوس أنحاس في الرباط الذي تعرض لتوقيف تعسفي من جميع مهامه مباشرة بعد حضوره لحفل توقيع كتاب صدر حديثا للدكتور محمد الزاوي أحد قيادات العدل والإحسان.
إن هذه الوزارة في تعاملها مع القيمين الدينيين تناقض نفسها؛ فهي من جهة تريد أن تعتبرهم موظفين عاديين يقومون بمهام معينة وفق دفتر تحملات محددة سلفا، لكن في نفس الوقت تقوم باتخاذ قرارات – حال المخالفة المزعومة – دون أي احترام لمسطرة تأديب ومعاقبة الموظف العادي، حيث تقرر مباشرة التوقيف النهائي أو العزل في حق المعنيين من غير تبرير ودون الرجوع إلى الضمانات التأديبية التي تخول للموظف حق الدفاع عن نفسه وشرح موقفه، مما يكون له كبير الأثر على الوضع الاجتماعي والنفسي للموقوفين.
والغريب في الأمر أن المنظمات الحقوقية ظلت صامتة ولم تحرك ساكنا تجاه هذه الانتهاكات التي طالت أبسط حقوق الموظف أو العامل ومست حرية التعبير عن الرأي؛ ففي مدينة فاس، مثلا، تم توقيف الأستاذ محمد الخمليشي إمام مسجد الإمام علي بن أبي طالب بسبب انتقاده لمهرجان موازين، والدكتور إدريس الخرشافي بسبب معالجته الصريحة لمعضلة الرشوة، وبالرباط قررت الوزارة تعسفا منع الأستاذ عبد القدوس أنحاس لفصاحته وتأثيره في المصلين وإعجابهم به..؟
هذه القبضة الحديدية التي تمارسها الوزارة على أطرها تناقض في الأصل جلالة مهمة الإمام والخطيب، فهو الذي رشحته العناية الإلهية لوراثة الأنبياء في إرشاد الناس وهدايتهم لطريق الحق، ولمـــّا كان أمر الإمامة عظيما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للأئمة بالرشد فقال: “الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين” 1 . وبين النبي صلى الله عليه وسلم عظيم أجرهم بقوله: “إن الله وملائكته، وأهل السماوات، وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير” 2 فلو لم يكن من فضل الإمامة والخطابة والإرشاد إلا هذا لكفى.
ولن يقوم أصحاب هذه الرسالة العظيمة بوظيفتهم السامية على الوجه المطلوب شرعا وواقعا إلا عن طريق التهمم بهموم الناس والإحساس بآلامهم والإنصات لتلطلعاتهم والإجابة عن حاجاتهم الملحة، تلك الاحتياجات التي تختلف حسب عامل الزمان والمكان وتقلب الأوضاع وتجدد الحوادث. فيكون هامش الحرية المتروك للخطيب هو سبيله للكينونة مع الناس، دون ذلك لن تؤدي لغة الخشب والخطب الصماء إلا لمزيد من النفور والعزوف ودفع الناس إلى البحث عن بغيتهم في بدائل أخرى متاحة وأكثر جاذبية.
لذلك يمكن القول في الأخير بأن الأمن الروحي والاعتدال المنشود في السلوك الديني لعموم الأمة وخصوصا الشباب منهم يقتضي القطع مع سياسة مخزنة المشهد الديني والعمل على استثمار الطاقات البشرية والعلمية التي يحفل بها هذا البلد دون إقصاء أو خلفيات سياسية ضيقة.