مقدمة
الفن قضية بالغة التعقيد، ليس لأي كان البث فيها، ولا إبداء الرأي الصائب ولا الحكم السديد ولا استنباط مقاصد الشريعة الظاهرة والباطنة مما تحدث بخصوصه القرآن الكريم والسنة المطهرة الثابتة. وذلك لأنها قضية تتعلق بالمشاعر والأحاسيس، والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأنها مجال انطلاق وحرية، وإبداع لا محدود، وتميز ملفت… فهي قضية، لا كغيرها من قضايا الفكر، والعقل، والحركة، التي يكون البت فيها سهلا والحكم فصلا، ولا تثير زوبعة ولا نقعا.
من أجل هذا بقيت قضية الفن مجالا للأخذ والرد، والقبول والرفض، والتحليل والتحريم، والتصنيف والتكفير، والإطراء والغلو.. بقيت عالقة إلى حين ينظر فيها المتخصصون المنظرون ويبدع فيها المهتمون، الفنانون الممارسون، ويحد لها النظار العالمون، ليكون لها أفق ينظر، وثمرة تُجتنى، وعقب يُنجِب من رحم هذه الأمة الأدباء، والشعراء، والمسرحيين، والرسامين، والخطاطين، والمصورين، والنحاتين، ومن يسعى سعيهم ويسير على منهاجهم في البذل والعطاء والإنتاج الإبداع والتميز.
إن المتصدر لمناقشة موضوع الفن لا يعدو أن يكون أحد رجلين أساسين: رجل ذائق بمشاعره وأحاسيسه، شائق بتطلعاته وآماله، ناطق بتعبيراته وكلماته، فذلك الفنان الموهوب، صاحب الإبداع المستمر والعمل الخلاق. ورجل عالم كامل، عقله عقل الأمة، وهمه همها، وشغله شغلها، ونظره منصب عليها وعلى واقعها ومستقبلها، دائم الانشغال بحالها ومآلها، وما يعتريها من متقلب الأحوال والتأثيرات والتحديات، ويواجهها من التغيرات والتصورات التي تطرأ عليها، وكذلك الآثار التي تترتب عن كل ذلك، هذا الرجل الذي لا تهمه سفاسف الأمور ولا صغائرها لشمول نظرته، وكليتها، ولتركيزه على مصير الأمة، وعلى النظر إليه باهتمام مستقبلي وترقب، بعلم وعمل، بتربية وجهاد.
شمولية النظر
لقد كان الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين حقا رجل الأمة المقدار، والحامل لأمانة تبليغ الدعوة، والمربي الفاضل، والفقيه الأصولي، والمفتي النَّظار، يسعى لما يَصلح لهذه الأمة، وما يُصلح شأن أهلها في هذه الدار، وفي الأخرى إن شاء الله، صاحب الفكر الجامع، والعقل المانع، الذي استقى من مشكاة النبوة واستنار بالكتاب واسترشد بالسنة وتأسى بخير خلق الله سيدنا محمد عليه من الله أفضل الصلوات وأتم التسليم.
لقد كان فكر الإمام جامعا لشتات الأمة، مانعا أهل الزيغ والهوى والإلحاد أن يهدموا بناءها أو أن يحوموا حول حماها، يسد بجهده كل الثغرات ويرد بتربيته للأجيال الناشئة، وبحركة التنظيم المؤسس، والزحف الجماعي الجهادي تربص المتربصين وكيد الكائدين ودعوى الجاهلين. لقد كان رحمه الله دائما مفكرا، ومتأملا، في إمكانيات هذه الأمة وطاقاتها وكيفية توظيفهما وحسن استعمالهما، كان يرصد حركتها وحركة أعدائها ويبسطها وفق بساط الهدي الرباني والمنهاج النبوي، لتكون إن شاء الله كما أخبر القرآن أمة وسطا، وأمة مسلمة، وأمة واحدة.
ولقد أرخى لذلك شُعبا وخصالا حدها بلزومه غرز المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ولزوم سنته واقتفاء منهاجه، وحدها من فهم السلف ومن صحبة أهل الله أهل المعرفة والحق واليقين، فإن شئت فشُدَّ بدءا في لُحمة الصحبة ورحم الجماعة، ثم في محاضن الذكر، فالحضور المسؤول الشاهد الجامع للصدق، فإنفاق العزائم بالبذل والعطاء، فالعلم النافع، والعمل الصالح، والسمت الحسن المميز، والتؤدة المتأنية، فالاقتصاد عند المسير والجهاد عند النفير.
معالم شمولية جامعة، ورؤية مانعة، ودعوة للعودة للمسارِ الأصلِ تأسيا بالسلف الصالح الذين اقتدى بهم وسار على دربهم. عملا بقوله تعالى أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ 1 قال الإمام رحمه الله يؤصل لهذا التأسي وهذا الاقتداء بسلفنا الصالح لنظرتم الكاملة والشاملة والمحيطة والمستحضرة للمصير الحتم والموعد الحق: نجد أسلافنا أهل جمع، يحق لنا أن نغبطهم على جمعهم ذاك، وانحياشهم إلى الله جل وعلا، ولهجهم بذكره وانصياعهم للمصير.. هم كانوا أعلى مرصدا كانت شموليتهم شاملة حقا جامعة حقا لأنها لم تضيع الغاية الأبدية جريا وراء الأهداف العابرة الغائبة ولم تسكت عن الآخرة تضخيما لشؤون الدنيا) 2 .
ولما كان الفن ثغرة من الثغرات التي وجب على الأمة سدها، والمرابطة في حماها، وصد هجوم أعدائنا من خلالها، ولما كان سلاحا ذا حدين سلاح الإباحية الغريزية، واللهو الماجن، والمسلمة الدوابية، والدهرية المتأنقة، وسلاح الدفاع عن بيضة الأمة وكرامتها ونشئها، وحقها في الترويح والفسحة، كان لزاما على الأمة أن تقوم قومة الرجال الكمل القائلين بقول الحق، القائمين بفعل الصدق، وقومة الفنانين الممارسين، المقتحمين، المهتمين لأمر الأمة، المساهمين في إعادة بناء صرحها، على أسس ثبتها الشرع، ولَبِن رصَّها الواقع.
وقيام الرجال الكمل على الفن بالتوجيه والتنظير والتأييد إنما هو من وجهين:
– أولها، أن رؤية القيادة المنهاجية رؤية جامعة مانعة شاملة تمس جميع نواحي الحياة التي أوجدنا الله فيها، والتي يعتبر الفن واجهة من بين واجهاتها التي لزم ضبطها والجهاد في سبيل الله عبرها، ولزم تحديد إطارها، وتوسيع آفاقها والمجالات التي تعمل فيها.
– وثانيها: أن الرجوع للقيادة الكاملة الراشدة هو من صلب الدين وفقه النبوة لا تضييق فيه ولا حجر، ولا حصر ولا تسلط، ولا تقييد للفن بدعوى الانطلاق والحرية. فقد روى الحاكم عن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي فقيل يا رسول الله، إن أبا سفيان يهجوك فقام ابن رواحة فلم يأذن له النبي وقام كعب بن مالك فلم يأذن له حتى قام حسان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “اذهب إلى أبي بكر فليحدّثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم واهجهم وجبريل معك” 3 “إذهب إلى أبي بكر” أي ارجع إلى القيادة التي اتسمت نظرتها بالشمولية والإحاطة والحنكة ومعرفة للواقع واعتبارات المآل، وكل ذلك حتى لا يقع حسان في المشركين ونسب رسول الله منهم.
كانت كلمات الإمام المرشد رحمه الله في الفن كلمات إرشادية، ودعواته دعوات إصلاحية، وصرخاته تنبئ عن علم وفهم وذوق في هذا المجال، وعن تحرق ولهف على حال هذه الأمة المتردي بالفن الماجن وبغيره. كلمات إرشادية ترشدك إلى فن إسلامي يعيش دنياه ولا ينسى أخراه ودعوات إصلاحية عملية تدعو الفن ليصلح ما انكسر لدى هذه الأمة من أدوات وآليات ومفاهيم، وصرخات صادقة تحذر من واقع فني ماجن فاحش مفتون. فتراه يسأل في أكثر من موضع سؤالات الفن المختلفة: يسأل عن الماهية والحد 4 ، والنوع 5 ، والوظيفة والمسار والغاية أو المقصد الأسمى 6 ، والشكل المشتغل به 7 ، وكيفية التبليغ والنفاذ 8 ، يسأل عن البديل الفني- أو إن شئت الأصيل- الذي ينبغي للجماعة المؤمنة والأمة تَبَنِّيه، يرسم لمن يأتي بعده خطوطا كبرى لسد منيع وبناء عال متين.
موقف الإمام من الفن
يعتبر الإمام الفن الإسلامي ميدان جهاد، وأي جهاد! ومجال فسحة وترويح، نص عليه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله، وفعل الخلفاء الراشدين من بعده وفعل السلف الصالح من التابعين وتابعيهم بإحسان، فهو فن هادف ونشيد جهادي يسع جهاد النفس كما يسع جهاد الميدان، له سند شرعي قوي وأصيل، لا يرد ولا يدحض. قال رحمه الله أما النشيدُ الذي يحمل كلمتَنا للناس فليس النشيدَ الصوفي، وقد سمى الأستاذ البنا السماعَ الذي كان يحضره “نشيدا جميلا”، لكنه النشيد الجهادي الذي نجد له أصلا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله. فلا كلامَ ولا جدالَ) 9 . موقف واضح لا كلام فيه ولا جدال، ولا يحتاج إلى كثرة أخذ ورد خاصة والإمام يستعرض في مختلف كتبه نماذج كثيرة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تبرز صورا رائعة من جهاد الصحابة بالكلمة الصادقة كحسان وكعب وابن رواحة وأخرى مشرقة من حسهم الترويحي الفني الرحب الفسيح ، وهم من هم من أهل بدر والسابقة.
سيرة سلفنا الصالح سيرة اعتدال ووسطية، وبالأخص في مجالات الأدب التي عرفها العرب. وفي تاريخهم ما لا يدع مجالا للشك أن الفن مجال رحب تُخمد به الفتن والثورات، وتُحمى به بيضة الأمة، ويُقام به الدين، فهو حجر أساس في البناء، وليس مكملا ولا محسنا، وبهذا جاءت الآثار والأخبار وعلى هذا اتفق المحققون من الفقهاء والمفسرون وأهل السلوك، بشرط أن يكون الفن حسن اللفظ، منضبط الأداء، موافقا لعرف الشرع، لا الفن الهابط الساقط من رقص مائس، وغناء متغنج، وإغراء وعري وفاحشة.
قال الإمام رحمه الله: لا خلافَ عند أهل الحقِّ في أن السماع الشيطانِيِّ رجسٌ وفسق. إنما كان الخلاف في التغني بشعر زهدي تذكيري على هيئة خاصة) 10 . هكذا موقف الإمام من الفن المشروع والفحش الممنوع، موقفه من الفن الشرعي ونقيضه موقف واضح لا غبار عليه، ويبقى ما بينهما محل نظر واجتهاد واختلاف يدعه رحمه الله إلى الجيل المستقبلي من فقهائنا الأصوليين لينظروا فيه نظرتهم، ويبتوا فيه حكمهم، حكم فصل له من التأصيل طرف ومن التنزيل طرف، يلامس الطفل في فضائه والمرأة في بيتها والعامل والطالب والموظف، كل في موقعه إما ناظرا أو مستمعا أو متفكرا متأملا، فانظر قوله رحمه الله موجها ومحفزا أهل التخصص لمزيد فهم وإعمال نظر: نترك لأهل الاجتهاد المستقبلي فسحة للتحقيق) 11 وقوله ورأينا أن مضمون الكلمة الدينية يَسْلَمُ لنا ولو امتزج بنغمات الأوتار إلى حينَ يعيد العلماء تقديرَ الرأي في هذه النقطة الفقهية المختلَفِ فيها) 12 .
وقد اختلُف فيه حقا، وتبعا للاختلاف ولشهوة الناس، صار ميدان فتنة وحلبة صراع! والفتنة حينما تدخل في شيء يختلط فيه الحق بالباطل، والحلال بالحرام، فكيف بقرون طالت من العض والجبر، وغلبة العدو، وفقدان المناعة، وغياب المنعة.
ما تُرى نصنع بهذا البلاء المتمكن من الجسد، أنستأصله أم نبقيه ينخر فيه شيئا فشيئا؟
لا بد من التدرج في طرح الحل الفني والتمهل في حسم القرار الحكمي، لا بد من التأني في المباشرة في قطع الصلة بضربة لازب، وبث حكم قاطع فيما تضاربت فيه الآثار والأخبار، وما اختلُف فيه، بإصدار حكم فصل لا يراعي الحال والمآل والقرائن، بل لا يتيسر هذا إن كان هو المراد، بل لا بد من عمل تدرجي قد يطول على مر الأجيال المقبلة إن شاء الله تعالى. عمل تهذيب وتأصيل وتحبيب وتنزيل. قال الإمام رحمه الله: وإنَّ قطعَ الصلة بين أشكال الإعلام التي يتيحها التقدم العلمي التكنولوجي وبين مضمونها الجاهليّ الدوابي قطعاً مفاجئا لا يتيسر إن أردنا الاحتفاظ بسمع السامع وبصر المتفرج، وهما كل زيد وعمرو من المسلمين وذراريهم… أعني أن قطعَ الأوتار والمزامير، وفكَّ الجوقات الموسيقية لن يكون إلا عملية تدريجية قد تطول) 13 .
إذن فموقف الإمام في ما بين الفن الإسلامي ونقيضة موقف تدرجي، وحين اكتمال عملية التدرج يصير الفن إسلاميا بامتياز ذروة سنامه القرآن، أي سماع القرآن، وقراءة القرآن، وحفظ القرآن، والعيش مع القرآن، في كل همسة وفكرة وخطرة، يصطف صفا واحدا متراصا خلف القرآن الكريم والهدي النبوي.
هذا الاكتمال الشرعي والفني يتم يوم تعبئة الطاقات الأفقية بانتظام وتميز، يوم تمام الصرح وانتظام الزحف، لا في مرحلة البناءالتي يكون القول والفعل فيها “عفوا” و”غفرا” و”سترا”. قال رحمه الله: إن كان من المعقول أن يتدرج الأدب الإسلامي والفن والمسرح والشعر في جهاد تميزه عن الأدب الكاسح المادي، فاكتماله يرجى يوم يعبئ الطاقات الأدبية بشجاعة وصدق ليقف صفا متراصا خلف الكلمة القرآنية والبلاغ النبوي) 14 . وقال أيضا يصف تدرج المومنة وخلوصها من حبائل الهوى وحب اللهو إلى سماع يرضاه الله ورسوله: ويترعرع الإيمان في قلب المومنة التي كانت تحب اللهو وتحرص عليه، فيطرد حب الله حب اللهو، وتنْعَتِقُ الروح من حبائل الهوى، ويصبح سماع الأنبياء والصديقين أشرف ما تتحلى به الأذن ويَستشرف إليه القلب. سماع الأنبياء القرآن، يتغنى به المومنون والمومنات، فتسمو به المشاعر، وتتصعد العواطف) 15 .
تأصيل وتحليل
بعد تحديد الموقف العام من الفن نقف وقفة مع منهجية الإمام في إبداء الأحكام التفصيلية الملائمة للتنزيل والمسائل المترتبة عليها.لتتبين لنا منهجيته التنظيرية، العلمية المؤصلة والتنزيلية العملية. فحسب النظرة الشمولية التي صاحبت فكره وقوله وحكمه على الفن، عرف فقهه اعتبارات ورؤى حددت زاوية النظر عنده، وإشارات ولطائف لا يلحظها إلا أهل الكمال والمعرفة اليقينية، وهذه الاعتبارات التي أثرت في حكمه والتي سارت في ثلاث مسالك أولها ذوقي وثانيها مقاصدي والثالث واقعي:
• فأما الأول، فهو الذوق الفني الرفيع المتمثل في إدراك طبيعة فنون الأدب وأنواع الغناء وألوانه باستعماله رحمه لمصطلحات هجرها فقهاؤنا وردوها ولم يقبلوا بها مثل الصنعة والجمالية، والتلطف… ويا ليتهم تركوا للفن مساحة يشتغل فيها ومتنفسا يتنسم منه عبير الحياة!!
• وأما الثاني فهو الفقه المقاصدي الناظر للمسألة من جهة أصلها في الشرع، ومن جهة ما يطرأ عليها من رخص وعزائم، ومن جهة ما يفرضه الواقع والمستجدات على الأمة، وما يدعو إليه الدين والعرف والعوائد من تيسير، ورفع حرج، ودفع مشقة، ينظر إلى جميع جوانبها المتفق والمختلف عليها.
• وأما الثالث فهو الفقه الواقعي وهذا كثير في كتابات الإمام رحمه الله لأنه يعيش في الواقع للناس، ومع الناس، وبين الناس، شهادةً حقة، وحضورا مسؤولا، يعيش كما الصدر الأول من الصحابة والتابعين.
فمثلا موقفه من الغناء أبان عنه بتفصيل في باب السماع في كتاب الإحسان، وذلك بتبيان الأصل الجامع، والاستدلال والتعليل على حكم الرخصة بتحديد ضوابطها وتقييد حكمها، وربطه بفقه الواقع، ثم الفتوى فيما يخص قاضية القواضي ونازلة النوازل: غناء اليوم بصوره المستجة وأشكاله المستحدثة ووسائله المتطورة. قال يصفه رحمه الله: هذا البلاء المصبوب صَبّا من فجاج الأرض والسماء، المندسِّ دَسّاً في أجهزة الترانزستُور بكل بيت وفي كل يد، المخزونِ في المسجِّلات اليابانية، المتبرج بالألوان الزاهية على شاشات التلفزيون العالمي الذي تتبارى شبكاته المتنافسة في صناعة إغواءِ السامع والناظر) 16 .
بيان الحكم الأصل
يقول الإمام رحمه الله في بيان الحكم الأصل بترخيصه العام والكلي للفن مركزا على ثلات صفات أساسية وهو يعرف لنا شكل ونوع الغناء النشيدي الذي تبناه الشرع عالما عن عالم وكابرا عن كابر والتي نقف معها وقفة استنطاق للفهم والاستنباط والتحليل 17 :
• قوله: يحمل كلمتنا للناس) أي ذكره لصفة التبليغ وهي من صفات وخصوصيات الفن التي سنراها بعد.
• وقوله: النشيد الجهادي) أي ذكره لصفة الحركة والمدافعة والجهاد.
• وقوله لأن له أصلا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله) أي ذكره لصفة التأصيل لا التأويل والتقول.
ثم يوضح صراحة حكم الغناء الشرعي باصطحاب الآلات الموسيقية، بل ويتخذ في اجتهاد واستنباط موقفا صريحا فيه حين يقول: ورأينا أن مضمون الكلمة الدينية يَسْلَمُ لنا ولو امتزج بنغمات الأوتار) 18 .
أحكام العامة
ثم يمر رحمه الله لتبيان الرخص والاستثناءات التي أقرها الشرع والدين والتي جاءت بها الأحاديث الصحيحة والأخبار الصادقة مبينة ومعززة للحكم العام فيقول: فإن أدخلنا مع الإنشاد إيقاعَ الدفوف فتَرَخُّصٌ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بضربها في الأعراس) 19 .
مذهب الإمام وموقفه أن الفن في شكله الترويحي مذهب ترخيص للعامة مع عذرهم وعدم إخراجهم من الملة كما يفعل المتزمت المصنف الناس إلى عقيدة صحيحة وأخرى فاسدة، مذهبه ارتآه من استقرائه للنصوص النقلية واستدعاؤه للقواعد الأصولية ورؤيته للحياة الواقعية قال رحمه الله: مذهبي الترخيص للعامة، من باب ارتكاب أخف الضررين في جو المنافسة العالمية على حُداء الزنا… بشرط إدخال ذلك في الإسلام وتصفيته قدر المستطاع. مذهبي لنفسي ولجند الله أن نعذرَ أهلَ الوَجد والحال الصادقين، وأن نُعلِّم، فيمن نعلم من الجاهلين، ولا حرج عندئذ أن نمد الصوت كما مده الصوتُ الملهم الشريف. على أن نتدرج بالرَّكب الإسلامي جميعه إلى السماع الإحساني) 20 .
اعتباره للواقع
ويمر رحمه ليبين واقعا أسود تفرضه حركة الحياة التي صار فيها الفن لا يقوى على حمل نعت الإسلام، يقتبس لنا أشكالا وصورا وإبداعات دخيلة، أذعن لها العقل، فهل يذعن لها النقل!؟
رأي الإمام المتفتح، القريب إلى الناس وواقعهم، رأي سديد يحد من الانفلات من عقد وسطية الفن والنزوح إلى طرفيه النقيضين، إما في إطلاق الإباحة أو الغلو في التحريم، يدعو لرحابة أوسع في التعامل مع هذا السلاح الخطير والخطير جدا، ذي الوقع القوي، والتأثير الفاعل في كلا التوجهين: الديني والشيطاني. قال رحمه الله واصفا الشكل المقتبس أنه خيط جاهلي لا يمس الشخصية الإسلامية في مقتل بل يُدَاوَى كما تُدَاوَى الكلوم وكما يذهب كثير الماء بقليل النجس. ورأينا أن مضمون الكلمة الدينية يَسْلَمُ لنا ولو امتزج بنغمات الأوتار إلى حين يعيد العلماء تقدير الرأي في هذه النقطة) 21 . فما أحوجنا اليوم إلى فقه كفقه الإمام، فقه يجمع ولا يشتت، فقه يراعي أحوال الناس وواقعم، فقه ينظر في موازين القوى التي توجد وتتعايش وتتداخل مع الأمة، وينظر في قواها ومناعتها وقدرتها على الرد والصد والذود؛ فقه منهاجي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما، يلامس آمال الناس ويتماشى مع وسعهم وطاقتهم.
استشكالات وهمية للمصطلحات الفنية
الأصل أن الفن الملتزم هو من سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد وجد النبي الشعر في الجاهلية فهذبه ونقحه ولم يلغه، ووجد الخطابة سائدة في أفضل صورتها، وأفصح لسانها فصَوَّبها لتكون أكثر انضباطا وانقيادا للمنهج العام الذي جاءت به الرسالة المحمدية، ووجد الغناء في قريش وعند الأنصار، في الأعراس فما ذم إلا ما كان فيه للشيطان نصيب، وهكذا وعلى هذا سار الصدر الأول من سلفنا الصالح الخير والذين ثبت عنهم قبولهم الشعر والخطابة والغناء وعدم تعصبهم أو تزمتهم أو رفضهم لهذه الألوان. قال الإمام رحمه الله: وقد جاء كعبٌ بنُ زهير رضي الله عنه تائبا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده في مسجده الشريف قصيدة “بانت سعاد”، وفيها من الغزَلِ ما يضيق به المُتَزَمِّتُ لولا أنه صح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وخلع على الشاعر التائبِ بُرْدته على عادة العرب فيمن يمدحهم) 22 . فانظر رحابة وسعة صدر النبي العربي، وانظر إكرامه للشاعر على عادة العرب، عادة معرفتهم باللغة وعادة تذوقهم للشعر وعادة إدراكهم لأساليبه، من غزل ومدح ورثاء وهجاء وما إلى ذلك.
فلم يكن في شعر العرب في الجاهلية والإسلام استشكال أن يلامس أمورا عظاما مثل هموم القبيلة وقضايا الأمة، وذكر أحوال المجتمع وذكر مكارم الأخلاق وإعمال العقل في التفكر والتأمل. لم يكن فقط كما صوره الإخباريون والنسابون وأهل السير ذكرا للرسوم والأطلال، ووصلاً للمحبوبة وهجراً لها، ووصفاً الناقة والفرس وما إلى ذلك. لم يكن كله جريا وراء شياطين االإيحاء والقوى الخارقة. لم يكن خيالا في خيال، وإن كان من الخيال ما يصدق حقيقة. لقد كان خيالا مسجونا في قفص الجاهلية فلما جاء الإسلام صار خيالا حرا منطلقا في الفضاء عينه على صوى الشرع تعلمه المسار، وتوضح له الطريق، وتوجهه وتهديه. وهذا ما يجب أن يكون عليه أدب اليوم وشعر اليوم وغناء اليوم. قال الإمام رحمه الله: لكن الأدب والشعر والفن إن استألفته رياض الخيال النضرة، وأبهجه التغريد بالحنين مع شحارير الرياض وهزارات الأفنان وأزهار البستان فتلفت في يده الأمانة وذهل لسانه عن الكلمة المبلغة، وزلق حوضه وجف وعف عن الجهر بالحق فما هو إلا قرية ظلمت ولم تؤت أكلها، وعقت والديها وأهلها الأدب حلم جميل وسراب محيل إن ألهاه تنميق الكلام وتزويق الصور عن تعميق المعنى وترتيل السور) 23 .
وكذلك كان الغناء لفظا جاريا على ألسن العرب، والنبي صلى الله عليه وسلم وأغلب صحابته منهم، وصار الغناء مع قدوم الإسلام لفظا منهاجيا لوروده في أحاديث نبوية عديدة، كان غير بعيد عن فهم الصحابة والتابعين وعن تصورهم، حاضرا في استعمالات سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. وإنما وقع الانفصال والتصنيف لما فشا في بني أمية غناء الجواري والقيان في بلاطات الحكام، ودور الخلافة. فصار الغناء لصيق الالباطل واللهو الزندقة كما جاء عن أئمة المذاهب رحمهم الله. ففي الحديث عن ابن عباس قال: “أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيها غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم” 24 . سبحان الله!! “أرسلتم معها من يغني”؛ لكي لا يقول أحدهم جاهلا بل متجاهلا هذه محدثة أو بدعة أو ضلالة. وفي حديث التغني بالقرآن ما يثبت ذلك، ثم ساق الإمام قصة عمر بن الخطاب مع الإمام الراتب الذي يغني بعد الصلاة في قوله: على هذا فليغن من غنى)، وقوله أيضا: الغناء زاد الراكب)، وقول عروة بن الزبير: نعم زاد الراكب الغناء)، فلماذا أحدث الغناء كل هذه الضجة وهذا الأخذ والرد حول مفهومه، واللفظ سار جار على ألسن السابقين!؟
واليوم يجب علينا إعادة الاستعمالات النبوية للألفاظ الفنية، عجب علينا التحرر من طوق التقليد الذي جثم على أنقاس الأمة، وهذا أول النظر وأول الخطو إن شاء الله تعالى.
خصوصيات الفن عند الإمام
دعا الإمام في كتاباته المختلفة حول الفن الملتزم دعوات أبانت عن نظرته له، أين يصنفه؟ وما أشكاله؟ وما خصوصياته التي يتميز بها؟ وهل في مقدوره الصمود أمام الفنون الماجنة السائدة؟ صاغ فهمه في خطاب متميز مؤصل بدقة عالية وبعد نظر. وأورد مقابلة بين جهد حامل الرسالة وجهد الفنان صاحب المخيلة الواسعة، والحماس المفرط، والذوق الرفيع. متسائلا هل يقوى هذا الأخير على أداء المهمة في أحسن حلة وأوفر غلة؟. قال رحمه الله: أفي إمكان الأدب الإسلامي والخطاب أن يبلغ رسالة الله كاملة يزفها في غلالة جمال ودلال لا ينثر منها في بنيات طريق الفن يمكن إن مكن الله) 25 .
نعم يمكن إن مكن الله، إن يسر الله، إن قيض لهذه الأمة فنانين مجاهدين استضاؤوا بمشكاة الوحي، ونهلوا من معين الشريعة السمحة، وعرفوا خصوصيات الفن فأبرزوها، وسعوا من خلال توظيفها للوصول بالإنسان إلى معرفة نفسه ومعرفة خالقه و ترقب مصيره.
خصوصيات لا تنفك تسير مع الفن أينما سار، تلتصق به، تُبرز قيمته لارتباطه بالرسالة الخاتمة وتُبرز جهد أهله، لكونهم وضعت على عاتقهم أمانة عظيمة وحمل ثقيل لا يقوى عليه إلا القلة ويعجز عن حمله الكثير. وهذه الخصوصيات هي التبليغ والزينة والتدرج والشمولية والواقعية والقصدية والتميزوغيرها.
خصوصية التبليغ
القصد من الفن الإسلامي الملتزم دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، ومعرفته والرجوع إليه في كل حال. شأنه شأن سائر الوسائل الخاصة بتحقيق غاية البلاغ وواجب الدعوة، وأول هذه الخصوصيات التي يتجمل بها ولها الفن، وينعت بها خصوصية التبليغ، أي أداء البلاغ المطلوب من لدن الشرع. قال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً 26 .
فطبيعة الفن الملتزم أن يقوم بدوره في التأثير والتبليغ، وإحداث تفاعل مع الآخر، ومحاولة النفاذ إلى عقله وقلبه، ليتحقق السماع القرآني ويتم الإتصال، إيصال رسالة ما، وهدف ما، وفكر ما، وفي هذا الإطار يطرح الإمام محورين اثنين متعلقين بهذه الخصوصية تنبيها منه وإرشادا وتحذيرا:
• الأول في مقدرة أهل الفن وهم على ما هم عليه من الرقة والإحساس والخيال الواسع على أداء بلاغ الرسالة الخاتمة؛ وتبليغ الدعوة المحمدية. قال الإمام رحمه الله متسائلا: أفي إمكان الأدب الإسلامي والخطاب أن يبلغ رسالة الله كاملة يزفها في غلالة جمال ودلال لا ينثر منها في بنيات طريق الفن)؟ 27 ويجيبنا بيقين العارف بالله الكامل: يمكن إن مكن الله). فهذه دعوة كريمة لأهل الفن أن يصطفوا مع المجاهدين والقائمين بالحق، والدعاة إلى الله، يبلغون بفنهم الرسالة في كمالها وحسنها وجماليتها لا تقعدهم عن هذه المهمة الشريفة والمطلب الأسمى أوهام الخيالات ولا عوائق الفتنة ليتم تأهيلهم وتعليمهم وتوجيههم واحتضانهم. كرامة وأية كرامة.
ولهذا تساءل الإمام عن هذا الدور وهذه القدرة، أمانة التبليغ وبيان الخطاب. تساءل عن الكيفية التي تمكن من أداء الدعوة في تمام الانتساب لهذا الدين، فقال: كيف يكون أدبنا قمينا بنعت الإسلامية إن لم يكن على تبليغ رسالة القرآن أمينا، وببيان النبوءة مبينا؟).
• والثاني دعوة أهل الفن أن لا ينسيهم فنهم خطاب الآخرة وأن لا يترددوا ويتحرجوا من ذكر الموت والقبر والمصير المحتم، قال الإمام رحمه الله: التبليغ الأدبي المربي حامل رسالة الكفاية والصواب والمعنى والصدق، يورد محموله الرسالي القرآني على وجه مقنع جميل أمين على القرآن. وهو بذلك مبشر بالقرآن منذر به لا يخجل أن يصف مضجع الموت، ورقدة المحتضر بلغت روحه الحلقوم) 28 .
ويصف الإمام الفن أنه وسيلة كسائر الوسائل التحبيبية التحفيزية الموصلة إلى نشر الدين، وسيلة تربية ودعوة للناس وخطاب ميسر لهم وحديث معهم وتعليمهم، وتكمن قيمته في معدنه إذا صُقِل، وجوهره إذا بُرِّز، وحسه الذوقي إذا عُرِف، يبحث في الشكل والسبيل الملائم الذي يوصل الخطاب الشرعي، ويبلغ المعنى الرسالي. قال رحمه الله: ينبغي أن يكون الأدب الإسلامي وسيلة من وسائل التربية، كلمة لها مغزى، تحمل معنى، تبلغ رسالة. لا أداة تسلية وبضاعة استهلاك) 29 .
خصوصية التدرج
الناس معادن، ما يصلح لهذا لا يصلح لذاك، فمنهم من يرق قلبه لسماع بيت من الشعر، ومنهم من تأسره الصورة والحدث فينقلب تائبا بعد عصيان، ومنهم من يستمع إلى موعظة أو خطبة أو قصة أو أغنية، فيستجيب لداعي اله ويلبي نداءه. لقد صار لزاما على الفن الإسلامي أن يخاطب عقول الناس وينفذ لقلوبهم يلامس آمالهم وينزل منازلهم ويكلمهم على قدر عقولهم وحسب احتياجاتهم ويتدرج خطوة خطوة ليبلغ بهم مقامات السماع الإحساني. قال الإمام رحمه الله: على أن نتدرج بالرَّكب الإسلامي جميعه إلى السماع الإحساني، وهو الاستماع والإنصات إلى كتاب الله عز وجل يُتلى، ويُرتل، ويُجوَّد، ويتغنَّى به المومنون) 30 . وقال أيضا: إن كان من المعقول أن يتدرج الأدب الإسلامي والفن والمسرح والشعر في جهاد تميزه عن الأدب الكاسح المادي، فاكتماله يرجى يوم يعبئ الطاقات الأدبية بشجاعة وصدق ليقف صفا متراصا خلف الكلمة القرآنية والبلاغ النبوي) 31 .
خصوصية الزينة
إن أكثر ما يفتقده فننا الإسلامي اليوم تملكه لخصوصية الزينة وتحليه بحلة التلطف ولباس الجمالية، وهو ما يؤثر عليه في نظر أهله ونظر المتلقين من مستمعي ومشاهدين ونظر الجمهور الذي يقدم خصيصا للاستمتاع به والترفيه والفسحة. وهو يكون بذلك إما:
– مرتجلا في ما يسمى فنا إسلاميا، مقتبسا، متذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ليس فيه حس إبداعي ولا حضور، ولا كفاءة بل يأخذ بوسائل العصر ويتزين ويتخصص، ويتأهل ويتلطف في تقديم رسالته ويتودد في تبليغها قال الإمام رحمه الله الفن. وسيلة تربية وكلمة هادفة تأخذ من العصر وسائله، وتروضها وتتزين بزينة الله، وتتلطف بأشكال المقبول شرعا من أدوات التعبير العصرية كما تلطف مبعوث أصحاب الكهف ليقضي حاجة أصحاب الكهف من سوق كانوا يخشون غائلة أهلها) 32 .
– أو تراه متزرا بلباس الوقار والوعظ والرشاد لا يعرف طريقا إلى الحكمة أو سبيلا إلى “مقال في مقام”، حازما في الحكم قائلا بتحريم الأوتار، لا يسمح ببسمة الشفة ولا فرحة القلب. في عراسه وعظ كوعظ المآتم وفي أفراحه نوح كنوح الحمائم. قال الإمام رحمه الله: أينزع الأدب الإسلامي حلل الجمالية وزينة الإبداع ليرتدي وقار الواعظ، وليقطب جبين الإنكار، وليعبس عبسته الكبرى في وجه مجتمع الاستهلاك، ولينضوَ حسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وطيس الآداب الماجنة، وسينما الزنى، وتلفزيون الدعارة، وسوق التجارة في أعراض الأطفال، وتجارة الخلاعة على أشرطة الفيديو المباحة إنتاجا وتسويقا في دين الاقتصاد المعولم وقانونه؟) 33 .
– أو تراه محتشما منكفئا لا يرفع رأسه عاليا، غير واثق في نفسه وفيما يقدمه من مادة، يخشى ألحاظ الرُّصاد ولسعات النقاد.
هكذا الصورة تؤثر في الفن وفي تقديمه وفي نجاحه وبلوغه غايته، وإن تم لها ذلك، فلا يتنكر للغاية الأسمى والمقصد الأعظم أن يخرج الناس من عبادة الهوى والشيطان إلى عبادة الله الرحيم الرحمان. قال الإمام رحمه الله: الكلمة المربية الهادفة إن تزينت بزينة الله، وتلطفت بوسائل العصر وأشكاله من الألبسة المقبولة شرعا لا ينبغي أن تلحد بها جمالية الشكل وتميل عن الهدف وهو التبليغ) 34 .
خصوصية القصدية
القصد الله، والموعد الله، والوجهة الله، والمصير إلى الله، ولا يتأتى هذا إلا لقلب ذاكر ولسان شاكر وبدن قوي صابر. قال الإمام رحمه الله: حتى إذا بسطنا حاشية من واقع العصر، وصعدنا البصر في عملقته المادية الوسائلية رجعنا إلى الله الملك القهار وقلنا باللسان والقلب: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقلنا بنية المجاهد الذي لا ترعبه كثرة الكاثرين وجبروت الجبارين: الله أكبر) 35 .
خصوصيات أخرى
ذكر الإمام خصوصيات أخرى قد نشير إليها في مستقبل الأيام، وهي القصدية، والواقعية وبعض الصفات كالكفاءة، والصنعة، وغيرها…
طرح البديل الحضاري للواقع الفني المفتون
يطرح الإمام في نظرته الشكل الفني المرجو أن يطلبه أهل الحق من الفنانين ولا نقول البديل لأنه كما أثبت الإمام وسطرنا في هذه الصفحات أنه مؤصل ومثبت في سيرة النبي وقوله وفعله وسيرة أصحابه، يطرح طرحا يلامس جوانب معينة ودقيقة من حياة الإنسان من حقيقة وجوده وواقعه ومآله ليتمكن الفن الإسلامي من أن يحمل الثقل ويؤدي الأمانة وينشد الكمال المأمول، ويحوز الجمال الخالد، فهل يمكنه هذا وهو محاصر بازدراء البعيد وبخس القريب؟ هل يمكن لفنانينا أن ينتصروا لقضيتهم ومظلوميتهم وحقهم؟ وهل يمكن لفنانينا أن يسعفوا الخطاب الفني المعتم الصورة المريض الجسد؟ قال رحمه الله: وحسبي أن تجد الكلمة الإسلامية في فرسان البلاغة وشعراء الرقة والذوق من يسعف الخطاب الإسلامي والشعر والفن والأدب ليخرجه من ضبابية تزج بالخطاب والفن والشعر في أجواء عفة عن قول الحق) 36 .
خاتمة
لقد بدأت كتابة هذا المقال بيقين تام أن الرجال الكمل هم أهل علم جامع وفهم واسع في مختلف المجالات، وحسبي وأنا أستعرض منطوق نصوص الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله وأستنطق مفهومها أن أجد في كلامه كل هذا الغناء والفقه والمعرفة والدقة في ما يخص الفن ويدور حوله، وهو من هو من سعة العلم والفهم والإحاطة بمختلف الفنون والآداب. رجلٌ خالط الناس وخبرهم، رجلٌ عرف مكمن الداء فشخصه، وبين لنا صفة الدواء وتركيبته، فمعرفته هي معرفة رجلٍ ممارس سنين وسنين، عارفٍ بإيجابيات هذا المجال وسلبياته. عارفٍ بمحاذره وعوائقه ومثبطاته.
معرفته معرفة رجلٍ خبير لأصول خطاب الفن واصطلاحاته، أديبٍ يعرف قدر اللفظ وعذوبته، ودقة المعنى وحمولته، شاعرٍ غاص في بحور العروض يعرف القصيدة والبيت والسبب والوتد والروي والزحافات والعلل، ويعرف عيوب الشعر وألوانه وأغراضه، ملحنٍ خبر النغمة وأصواتها وعلم بقدر النَّفَس ومحله، وجال في مقامات النغم وتقنياته، وأبحر في خبايا الصوت وهندسته، رسامٍ يعرف دلالة الألوان ومعانيها ورمزيتها ويعرف تقنيات التشكيل ومدارسه ويعرف للنحت والنقش والخزف أماراتهم…
رحمك الله يا إمام فما وفيتُ قدرك في هذا الباب، ولعلي أرجع إلى كلماتك النيرة في شرح مستفيض وتفصيل أشمل وتحليل أوفى، وبسط قول ونظر.
ألحقنا الله بك وجمعنا وإياك مع الحبيب محمد وأصحابه وإخوانه.
[2] نظرات في الفقه والتاريخ للأستاذ عبد السلام ياسين ص 65.\
[3] رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال حديث صحيح الإسناد.\
[4] تنوير المومنات ص 195 يقول الإمام متسائلا: “ما هي حدود الشرع في الترويح عن النفس؟”.\
[5] المنظومة الوعظية ص 9 يقول الإمام متسائلا: “أينزع الأدب الإسلامي حلل الجمالية وزينة الإبداع ليرتدي وقار الواعظ؟”.\
[6] تنوير المومنات / المومنة وحب اللهو ص 195 يقول الإمام متسائلا: “ما هي الفسحة التي في ديننا؟ ما هي الحدود الشرعيـة لهذا الفضاء الفسيح؟”.\
[7] المنظومة الوعظية ص 5 يقول الإمام متسائلا: “فبأي صنعة أدبية، وبأية أداة لغوية، وبأية منهجية تعليمية يعالج الأدب الإسلامي… نفوسا صبغتها. قليلا أو كثيرا الثقافة المادية السائدة؟”.\
[8] المنظومة الوعظية ص 9 يقول الإمام متسائلا: “كيف يكون أدبنا قمينا بنعت الإسلامية إن لم يكن على تبليغ رسالة القرآن أمينا؟”.\
[9] الإحسان / فصل التؤدة/ باب السماع ص 353.\
[10] الإحسان / فصل التؤدة / باب السماع ص 351.\
[11] كتاب تنوير المومنات / المومنة وحب اللهو ص 197.\
[12] الإحسان / فصل التؤدة/ باب السماع ص 353.\
[13] الإحسان / فصل التؤدة/ باب السماع ص 352.\
[14] المنظومة الوعظية ص 8.\
[15] كتاب تنوير المومنات / المومنة وحب اللهو ص 200.\
[16] الإحسان / فصل التؤدة/ باب السماع ص 352.\
[17] هذا بخصوص قوله السابق في كتاب الإحسان / فصل التؤدة/ باب السماع ص 353: أما النشيدُ الذي يحمل كلمتَنا للناس فليس النشيدَ الصوفي، وقد سمى الأستاذ البنا السماعَ الذي كان يحضره “نشيدا جميلا”، لكنه النشيد الجهادي الذي نجد له أصلا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله. فلا كلامَ ولا جدالَ.\
[18] الإحسان / فصل التؤدة / باب السماع ص 353.\
[19] الإحسان / فصل التؤدة / باب السماع ص 353.\
[20] الإحسان / فصل التؤدة/ باب السماع ص 356.\
[21] الإحسان / فصل التؤدة / باب السماع ص 353.\
[22] إمامة الأمة ص 199.\
[23] المنظومة الوعظية ص 27.\
[24] رواه ابن ماجة (انظر نيل الأوطار للشوكاني / كتاب الوليمة والبناء على النساء وعشرتهن / باب الدف واللهو في النكاح).\
[25] المنظومة الوعظية ص29.\
[26] الأحزاب 39.\
[27] المنظومة الوعظية ص29.\
[28] المنظومة الوعظية ص 31.\
[29] المنظومة الوعظية ص15.\
[30] الإحسان / فصل التؤدة / باب السماع ص 356.\
[31] المنظومة الوعظية 8.\
[32] المنظومة الوعظية 16.\
[33] المنظومة الوعظية 9.\
[34] المنظومة الوعظية 16.\
[35] المنظومة الوعظية 14.\
[36] المنظومة الوعظية 25.\