في سورة مريم يقصّ علينا ربّنا عز وجلّ قصة عبده ونبيه زكرياء عليه السلام. قصة داعية إلى الله، محبّ صادق، يرجو الله تعالى أن يرزقه امتدادا دعويا… ولدا صالحا يحمل همّ الدعوة والتبليغ عن الله.
القارئ لكتاب ربّه قراءة سطحية لا يرى في القصة إلا شغف شيخ -شاب شعره، وانحنى ظهره، ووهن عظمه- بالولد، ودعاءه ربّه خفية أن يجود عليه ويمنّ ويهبه ولدا رضيا و ذرية طيبة، وهذه أمنية كلّ زوج في هذه الحياة الدنيا.
لكن حينما تقف على قول نبي الله –عليه السلام-: يَرِثُنِے وَيَرِثُ مِنَ اٰلِ يَعْقُوبَۖ تفهم جيدا أنّه لا يقصد الإنجاب الطيني فقط، إنّما يقصد الإنجاب الدعوي ووراثة الرسالة.
إنّ سيدنا زكرياء عليه السلام كان حريصا على الامتداد الدعوي من صلبه، وأن يستمر الاصطفاء الإلهي في عقبه. ويحيلنا دعاء سيدنا زكرياء بقوله: وَيَرِثُ مِنَ اٰلِ يَعْقُوبَۖ على سورة البقرة لنرى الحرص نفسه عند سيدنا يعقوب حينما سأل أولاده -الإثني عشر- وقد حان موعد الرحيل، وآن أوان الفراق: مَا تَعْبُدُونَ مِنۢ بَعْدِےۖ.
فهمّ الداعية ليس أن يكون له امتداد طيني، إنّما همّه أن يكون له امتداد ديني، ودعوة مستمرّة متنقلة عبر الأجيال.
جميل أن يُخرج الله من صلبك صالحين وصالحات، ويجعل في نسلك أولياء وصديقين وشهداء…وأجمل منها وأبهى وأرقى أن يكون من ولدك رسلٌ وأنبياء.
أما الأخيرة فلا سبيل إليها… فنبينا عليه الصلاة والسلام هو خاتم الرسل الكرام. وأما الأولى فاسع لها سعيها واسأل المولى الكريم أن يهبك ولدا صالحا إذا واراك التراب وقف –دون انقطاع- على باب الملك الوهاب، وتضرع وبكى ولثم الأعتاب، وسأل لك المغفرة والثواب، وطلب لك العفو وحسن المآب.
لكنّ ولدا أو ولدين أو عشرة لا يكفون، وستشعر بالحسرة يوم يأتي الناس بآلاف الأولاد بل ملايين الأولاد، وتأتي أنت عقيما، أو بولد أو اثنين. لذلك نتحدّث عن الإنجاب الدعوي… عن الامتداد الدعوي… عن أولاد صالحين ليسوا من نطفتك ولكنّهم من جهدك ودمك ولحمك… من دعوتك وفكرتك وخدمتك… من لينك واحتضانك ورحمتك.
أولاد الدعوة أولاد شرعيون مائة بالمائة… استكثر منهم ولا تخش فقرا أو إملاقا… إنما يرزقك الله وإياهم ويرزقهم وإياك.
فأبناء صلبك قد تجد منهم نفورا وإعراضا، تمنّعا وعصيانا ورفضا، وغلظة وفظاظة، لكن أبناء دعوتك لا تجد منهم إلا إقبالا وإكراما، إجلالا واحتراما، اتباعا وتسليما.
أولاد الدعوة لا حدود لوفائهم… فقد ينساك أبناء صلبك ولا ينساك أبناء كلمتك وموعظتك وتذكرتك…
وقد نُسي -والله- علماء أجلاء وشيوخ أتقياء لمّا قلّ أولاد دعوتهم رغم وجود ذرياتهم، في حين ذكر علماء انعدم أولادهم الطينيون لمّا كثر أولاد دعوتهم وتعليمهم وتربيتهم.
أما ترى يا أخي أنّ أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلّهم ماتوا في حياته إلا فاطمة عليها السلام وقد لحقت به بعد ستة أشهر، لكنّه ما نُسي لحظة منذ ألف وأربعمائة وستة وأربعين سنة مضت، -ولن يُنسى أبد الدهر- وسيأتي يوم القيامة ومعه من نتاج دعوته ملايين الملايين، بل بلايين البلايين…
يا أخي تودّد إلى الدعوة، تقرّب منها، أعطها شغفك وحبّك، هم بها عشقا، حنّ إليها شوقا، تمتّع بها ذوقا، اختر للحديث معها أجمل العبارات، وتخيّر من رفيع الأدب وجميل الشعر وروائع الطيب والعطر ما تكسب به قلبها، ثمّ تزوجها على سنّة الله ورسوله، وأنجب منها حتى ينقطع النفس.
استكثر من أولاد دعوتك، واحرص على تربيتهم تربية ربانية، ولا ترضعهم لبان الدروشة، ولا تلبسهم ثياب الادعاء، ولا تطعمهم طعاما فكريا لا يسمن ولا يغني من جوع… اسقهم من حياض الذكر، أجلسهم في بساتين الصحبة في الجماعة، وأطعمهم من ثمار الصدق ما يشبع قلوبهم ويريح بالهم. حارب فيهم أنانيتهم المستعلية، وخلّصهم من الذهنية الرعوية، وحررهم من التبعية للعادات الجارفة. واقتحم بهم العقبة…
انثر لهم ورد ودّك، فبالودّ تتسع الصدور لأنوار القلوب. بالودّ تحمل العطايا على المطايا إلى قلوب لم نكن بالغيها إلا بشق الأنفس. بالود تظهر آثار الأشعرية على جباه المحبين.
واسمع –يا أخي- من الإمام المجدّد رحمة الله عليه هذه الوصية الغالية النفيسة:
«أوصي كل واحد منكم أن يعتبر نشر الدعوة وتعزيز الصف من أحد واجباته بشرط أن يربط سعيه الدؤوب في الدعوة بسعيه الجوهري في التقرب إلى مولاه، إنها لقربة شريفة أن من أعلى شعب الإيمان بل من أسبق سابقات الجهاد أن تدعو غيرك إلى الله. إنها مهمة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومهنة المصطفين من عباد الله، فتعست همة لا تطمح هذا المطمح، ولا عاش من لا يحمل هم الأمة، الساكن عن الدعوة ساعة من نهار، وفرصة كل لقاء، مثبط قاعد. تكلموا وبلغوا حفظكم الله. إن إيمانك -أخي وأختي- له أبواب المزيد مترعة حين يشغل بالك بعد ذكر الله عز وجل الدائم المقيم هم تبليغ رحمة الإيمان لغيرك.
ليكن ذلك أيضا منبعثا من شعورك بفضل الله عليك حين هداك للإيمان، ومعبرا عن شكرك له سبحانه. وإنه لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. فدل غيرك على ما أنت به فرح سعيد.
إن صحبة إنسان في طريقه للهداية تنتشله من وهدة الغفلة لنعم العمل.
إن غرس الإيمان في القلوب وزراعة الأخلاق السامية في النفوس، ورعاية الغرس حتى يقبض وتعهده حتى يشتد عوده لنعمة الفلاحة. وإن الرفق بالعباد من سوق الغفلة، تسوقهم بحضورك بكلمتك، بقدوتك ومثالك، ببسمتك، بمجلسك، بمواساتك، إلى سوق التجارة مع الله لنعم المكسب…» 1
جعلنا الله وإياكم من الأشعريين الذين يقتسمون مع إخوتهم فضل ربّ العالمين. وصلى الله على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. آمين.