من المسلم به أن تكون المباحث الإسلامية مباحث تنبثق منها جملة من العلوم والمعارف، تأسيسا على أن القرآن الكريم والسنة النبوية يعتبران منهجا ودستورا متكاملا للبشرية، واللذان ضم بين دفتيهما مداخل ومعاني لمنظومة معرفية علمية متكاملة وشاملة استوعبت كل الاتجاهات بمختلف مواضيعها. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 1.
منظور الإسلام إلى التنمية البشرية
الشريعة الإسلامية رابطة بين جميع العلوم، بل هي أصل لها، فالعلوم الوضعية بالأخص الصالحة منها، أغلبها إذا بحثت في أصولها ستجد أن لها أصلا في علوم الشريعة الإسلامية. وهذا ما يؤكد إمكانية تطوير علم تنمية بشرية برؤية إسلامية من خلال المحاور التالية:
1. المفهوم الإسلامي للتنمية البشرية
الحديث عن التنمية بما يستوعب كل مضامين المفهوم وكمالاته صار من الأمور الواجبة التي لم يعد يصلح فيها الكلام المرسل أو العام، خاصة أن هذا الكلام على كثرته، ظل ضمن الدائرة الجدلية بين الاتجاهات المختلفة، وظلت التنمية تعبيرا عن حالة سطحية لم تصل إلى عمق المجتمع وتكويناته. ومن هنا كان من الضروري استيعاب هذا المفهوم ضمن رؤية كلية شاملة، لأن الاهتمام بجزء على حساب العناصر الأخرى أورث جملة من الاختلالات ليس فقط في التصور والفهم، بل في العمل والممارسة. وأهم مثال لهذا الخلل في التصور والممارسة معا، هو إهمال البعد الديني للتنمية البشرية. وعليه، فهذا البعد الذي أهمل في النظر وفي العمل، كان أهم الدوافع التي تستدعي تجديد زاوية الاهتمام التي يمكن الانطلاق منها وتأصيل صياغة نموذج معرفي للرؤية التنموية في الإسلام. لذا أصبح من الضروري أن ننظر للتنمية البشرية وفق رؤية شاملة للإنسان والكون والحياة، ضمن عناصر بناء عقائدي، يستند إلى عقيدة التوحيد بكل مضامينها وتأثيرها. التنمية البشرية إذن ضمن هذا التصور قيمة شاملة وجامعة وواصلة بين عناصر هذه الرؤية الكلية، تتضمن رؤية عمرانية واعية وحركات متواصلة، قيمة تتحرك صوب تزكية النفس الإنسانية وعمارة الكون. التنمية ضمن هذا التصور مفهوم حضاري شامل يشمل كل العناصر الحضارية وفاعليتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.
2. خصائص التنمية البشرية من منظور إسلامي
لكي تكون التنمية البشرية متكاملة تشمل كل الجوانب الحضارية للأمة، يجب أن تتميز بعدة سمات كي تمنح لها صفة التكامل، لذا فالتنمية البشرية في الإسلام يجب أن تتسم بعدة خصائص، وهي ذات الخصائص التي اتسمت بها الشريعة الإسلامية بجميع أنظمتها بوصفها كلا لا يتجزأ، ومن أهم هذه الخصائص:
– الشمولية والتوازن
إن التنمية البشرية وفق الرؤية الإسلامية “لا تقف عند التطور والتغيير المستمر نحو الأحسن فالأحسن، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك كله ميزة أخرى وهي الشمولية” 2. ومنها سيتوجه الإنسان فطريا ليتعامل مع الحياة وحركتها على أنها سلسلة من العبادة المتلاحقة لله الخالق رب العالمين. فشمولية التربية القرآنية وتكاملها مبنية على أساس استيعابها لمنظومة الحياة ومجالاتها كافة، ولحركة الإنسان مراعية قدراته وإمكانياته. كما أن هذه التربية ترفض أن تنفرد التنمية بالنواحي الاقتصادية دون القضايا التعبدية. وهذا الأمر هو الذي يحقق التوازن في حركة الإنسان على مستوى النظرية والتطبيق، كالتوازن بين الحقوق والواجبات، وبين مصالح الفرد والجماعة، بين العبادة والعمل.
– الاستقلالية والثبات
إن التنمية البشرية وفق الرؤية الإسلامية تستمد وجودها من المد الغيبي لكتاب الله تعالى. وبناء على ذلك، “فإن العملية التنموية لابد أن تكون نابعة من خصائص ومميزات تلك الأمة، كما لابد أن تتم بعيدا عن أي نوع من أنواع التبعية، بحيث يصح أن نطلق عليها تنمية مستقلة” 3. من هنا يقتضي أن يكون للمنهج الإسلامي في التنمية البشرية استقلاليته. وهذا ما يمنح الشريعة الإسلامية الثبات بفعل ثبات الموازين والمعايير القرآنية، التي كانت وراء حفاظ الرسالة الإسلامية على هويتها ووجودها، وهذا الثبات لا يعني الجمود أو محاربة كل جديد، بل حركة منضبطة عميقة متجددة تهدف إلى التغيير الإيجابي الذي يعد العنصر الأساس في العملية التنموية.
– الواقعية والإنسانية
التنمية البشرية تتعامل مع الحقيقة الإنسانية متمثلة في الأفراد كما هم في عالم الواقع، وتتعامل مع طبيعة الإنسان وطبيعة الظروف التي تحيط بحياته في الكون، في حدود فطرته واستعداداته وطاقاتـه وفضائله ورذائله وقوته وضعفه، فلا يسوء به الظن ولا يحتقر دوره في الأرض ولا يهدر قيمتـه، لذا فالشريعة الإسلامية تنظر إلى الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض، فتهدف إلى الوصول به إلى مرتبة الكمال، لذا كان التكريم في القرآن الكريم مبنيا على أساس الآدمية فحسب من دون النظر إلى مكانه وزمانه.
مبادئ التنمية البشرية في الرؤية الإسلامية
إن الحديث عن مبادئ التنمية البشرية في الرؤية الإسلامية يرد لبيان وجهة نظر الإسلام في تفسير ظاهرة التطور والتغير الإيجابي وفق الأسس العامة الذي تشكلها العقيدة الإسلامية، أي التأكيد على أن هذه الظاهرة منسجمة مع العقيدة الإسلامية ولا تتعارض مع منظومتها القيمية. وهذا ما نستشفه من المبادئ التالية:
1. مبدأ الاستخلاف
الاستخلاف مبدأ قرآني تنموي هدفه بناء الإنسان والارتقاء به إلى مستوى خلافة الله تعالى. والإنسان مأمور في مبدأ استخلاف الله في الأرض من خلال إحيائه لها وبناء الحضارة عليها، لذا مكنه الله تعالى الأرض وما فيها من طبيعة، وأودع فيه كافة القوة العقلية والبدنية والروحية والنفسية لتطويعها وتنميتها بغية إشباع حاجاته وتحقيق طموحاته المشروعة، وبهذه المؤهلات نال شرف الخلافة من الله تعالى من دون سائر المخلوقات. وهذا يقتضي بناء مشروع تنموي جبار يطرق الجانب الروحي للإنسان كحجر أساس للتنمية البشرية، والجانب الفكري ومنظومته الذي يضمن للإنسان العلم والمعرفة، والجانب السلوكي الذي يهتم بمجالات الحياة العملية المختلفة، وهكذا تكون التنمية البشرية في هذا المشروع بمثابة الوسيلة لتحقيق مبدأ الاستخلاف. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن مبدأ الاستخلاف ليس مشروعا يفرض وجوده من دون إمكانية تمثيله على أرض الواقع، بل له مرحلة لاحقة صرح بها القرآن الكريم وهي مبدأ التسخير.
2. مبدأ التسخير
اقتضت حكمة الله سبحانه أن تطوع وتسخر الأرض خدمة للإنسان بوصفه المستأمن من قبل الله تعالى على مصادر الثروة في الكون ليدبر أمرها ويدير شأنها وفقا لمبادئ الشريعة الإسلامية. وهذا ما نلمسه جليا في القرآن الكريم ونحن نرتل آيات التسخير، بحيث يدرك المتدبر في الآيات المباركة متانة الرابطة وقوة الانسجام بين الإنسان والطبيعة. لذا على الإنسان أن يدرك ضرورة حسن التعامل مع ما سخره الله له، بحيث يكون هذا التعامل وفق الشريعة الإسلامية الذي شرعت الوجود على أساس التكامل والعدالة. فاحترام هذه السنة الكونية التي شرعها الله تعالى للبشر يعد إقرارا بالعبودية لله تعالى واحتراما للإنسان وما يحيط به من سنن كونيه سخرت له، وخلقت لخدمته وتأمين حاجته وتنميته بالارتقاء به من حال إلى أحسن حال.
3. مبدأ التمكين
يعد مبدأ التمكين مرحلة متطورة من مبدأ التسخير، لأن مفهوم التمكين يعني أن يشرع الإنسان عمليا بتكاليف الاستخلاف من خلال الاستفادة مما مكنه الله تعالى من تسخير ما في الكون. والناظر في مصادر لفظة التمكين في القرآن الكريم، يميز بين صيغتين له: صيغة التمكين في الشيء، وصيغة تمكين الشيء. الأولى خاصة بالتمكين في الأرض، والثانية عامة تشمل تمكين الدين، وهذا يعني أن التمكين للإنسان يتم عبر مستويين: الأول: حسي مادي، يتم فيه تمكين الإنسان من التصرف في الأرض، ولذلك جاء ذكر المعايش مع التمكين في الأرض وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ 4، أي بما يضمن استقرار الحياة ومستلزماتها. والثاني: معنوي، يتم فيه تمكين الدين والأمن للإنسان وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا 5، وهذا مستوى من التمكين يحرز بموجبه الإنسان أهم الأسس الداعمة للحياة الكريمة.
المنهج الإسلامي في التنمية البشرية
بتأملنا للمراحل أعلاه يتضح أننا دخلنا إلى التنمية البشرية من أوسع أبوابها، كون التنمية البشرية تقتضي وجود فكرة أو نظرية وهي من المنظور الإسلامي “الإنسان خليفة الله في الأرض”، وي+لزم وجود غاية تكون بمثابة الدافع والباعث وهي بلوغ الكمال الإنساني لعمارة هذه الأرض، ثم وجود أدوات وسبل لتحقيق تلك النظرية. لذا كان لزاما على الإنسان أن يدرك أن للأمانة ضوابط تلزمه الالتفات إلى عظيم ما وكل إليه وما يترتب على ذلك من خطوات عملية لتحقيق مبدأ الاستخلاف وللاستفادة مما سخر إليه والتمكن منه، كل ذلك خدمة للشروع بأداء الأمانة الإلهية وتطبيق بنودها. ولقد اهتم الإسلام بصورة عامة والقرآن الكريم بصورة خاصة بالظروف المحيطة بالإنسان وتأثره بها سلبا وإيجابا، وحجم تأثيرها في عطائه وسلوكه، مما أوجب الاهتمام بكل هذه المجالات إذ عدها مسارات واضحة لتكامل رؤية التنمية البشرية.
1. التنمية البشرية وميدانها التربوي فـي الإسلام
أسـست الشريعة الإسلامية منـذ بـزوغ فجـر الإسـلام للبنـاء الإنــساني المتكامــل؛ بــدءا مــن تهذيب نفس الإنسان وسلوكه، علــى أســس العقيــدة الــسليمة. ويعد الجانب التربوي المظلة التي تستظل بها منظومة التشريع الإسلامية وبوابة صرحه، وهو الضابط والمعيار في العلاقات وجميع النشاطات، والحق هو ما نلمسه بوضوح في الحركة الروحية والأخلاقية التي يصورها القرآن الكريم كونها جزءا من العقائد والأحكام، والتي تسعى لبناء الإنسان وتطويره بغية انتشاله من وحل الانحراف والارتقاء به إلى نقاء الاستقامة. فالنظام القرآني عمل على تنظيم صلة الإنسان بالله عز وجل، وعلى الغـرس فـيه معـاني المجاهدة الممهـدة لتقويـة شخـصيته، وذلك عن طريق مقاومة جموح نفسه، وإنزالها مقامها أمام الخالق سبحانه بالانقياد لأوامره ونواهيه، والانكباب على تحقيق الغاية من وجوده التي هي عبادة الله تعالى. وبذلك يصبح “حق الإنسان الأسمى هو أن ينتقل من بهيميته إلى إنسانيته، ومن قبضِ البهيمة وبسطها، أي انفعالاتها الغضبية والفرحية بالمتعة أو انعدامها، إلى سعادة الإيمان بالمصير الخالد عند الله” 6.
2. التنمية البشرية وميدانها المعرفي فـي الإسلام
يتسم النظام المعرفي الإسلامي في رؤيته للكون والحياة والإنسان، عن باقي الأنظمة والنماذج المعرفية الأخرى، بمجموعة من الخصائص التي ترشحه لصياغة النموذج المعرفي البديل، والقادر على انتشال الإنسانية من أزماتها المتنوعة. فمنهج الإسلام في التنمية المعرفية يقوم على التكامل بين حقائق الوحي ومعارف العقل وخبرات الحياة، فالوحي يتولى بيان طبيعة علاقة الإنسان بالله، وغاية وجوده، ومصيره بعد الموت، والعقل هو موجه الإنسان إلى إدراك موقعه من الحياة ووسيلته في طلب العلوم الشرعية والكونية، والحياة وسيلة الإنسان لإدراك الحقائق بالمعرفة التي ترادف العلم، ومنها ما يدرك بالتعليم وما يدرك بالتجربة الذاتية حيث ينتهي جميع ذلك إلى تكوين معارف شؤون الحياة كلها. وبهذا يتكامل المصدران الوحي والعقل مع الكون لتمكين الإنسان من أداء مهمة الاستخلاف. فبهذه الرؤية استطاع الجيل الأول وهم الصحابة رضوان الله عليهم، أن يحققوا إنجازا حضاريا كان لمنطلقاته القرآنية أعظم الأثر في ارتقاء العقل إلى آفاق علمية وإنسانية واسعة، بدأ معها عهدا جديدا من التعامل مع السنن الكونية في التسخير والإبداع المادي.
3. التنمية البشرية وميدانها الاجتماعي فـي الإسلام
إن للإسلام رؤية تهتم بالمنظومة الاجتماعية ومكوناتها وعناصرها ومقوماتها وتنميتها، وإن منشأ هذا الاهتمام مرده أن المجتمع حقل النظم الشريعة الإسلامية لتطبيق نظرياتها وتصوراتها، لذا أرسى الإسلام نظاما اجتماعيا لضبط حركة الأفراد والجماعات، بحصر الواجبات والحقوق، وتحديد الحدود والعقوبات. ويقصد بالنظام الاجتماعي في الإسلام: مجموعة الأحكام الشرعية التي شرعها الإسلام، لتنظيم علاقة الفرد بغيره: مسلما كان أو غير مسلم، فردا كان أو جماعة، ذكرا كان أو أنثى. ولهذا فقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحفظ للإنسان دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله، وشرعت من الوسائل ما يتوصل به إلى حفظ هذه الضرورات وما تحمله من مضامين مادية ومعنوية، ولقد بلغت المنظومة الاجتماعية الإسلامية مبلغا عظيما عندما جعلت الأمن على المعاش المادي هو الشرط الضروري لتحقيق الأمن الديني والروحي للإنسان في هذه الحياة، فصلاح الدين مؤسس على صلاح المعاش، وتوافر الضرورات والحاجيات المادية للإنسان، يقول في ذلك الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: ” فإن نظام الدين لا يحصل إلا بانتظام الدنيا، فنظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن” 7.