تتفتق عبقرية المخزن من جديد باعتقال أحد دعاة ومناضلي وأحرار هذا الوطن الجريح، الدكتور والداعية “باعسو محمد” في إطار مسلسل تصفية الحسابات الذي يستفيد من خدماته كل من سولت له نفسه أن يمارس حقه في معارضة الفساد والاستبداد والسعي إلى التغيير من أجل مغرب يتسع للجميع.
ففي اللحظات الأولى لاعتقال الدكتور باعسو، انطلقت الماكينة الإعلامية الصفراء في حبك المسرحية الهزيلة والممجوجة التي طالت أغلب النشطاء والرموز والصحافيين المغضوب عليهم مخزنيا، كبوابة للتسريبات التي من خلالها يعلم المواطنون التهم والمتابعات التي ستوجه للأضناء قبل أن تسطر من طرف النيابة العامة بصك الاتهام، في مخالفة فاضحة لسرية البحث والتحقيق التي يعاقب عليها القانون كما هو منصوص عليه في المادة 15 من قانون المسطرة الجنائية.
إن ما تعرض له الدكتور باعسو ومن قبله أحرار هذا الوطن يشكل رسالة غير مشفرة، مفادها أن كل واحد له مكان محفوظ في المنظومة الجنائية المنزلة على المقاس وحسب الحاجة، لا كما هي منشورة في الجريدة الرسمية والمعبر عنها من خلال الخطاب الرسمي، وبالتالي نحن أمام قلب لقرينة البراءة التي تقول “كل مشتبه فيه بريء إلى أن تثبت إدانته” وجعلها أن “كل مواطن مدان إلى أن تثبت براءته”.
نذكر من يهمهم أمر هذا البلد ومهندسي ومنفذي الفيلم الهوليودي لتهمة “الاتجار في البشر” التي طالت الدكتور “باعسو محمد” أن مفهوم الاتجار بالبشر تطور واختلف من مرحلة إلى أخرى ولعل ذلك راجع من جهة إلى تعقيد هذه الجريمة، ومن جهة أخرى إلى كونها تتخذ في كل مرحلة صورا مختلفة مع الحفاظ على مضمونها الماس بكرامة وإنسانية الإنسان، لكن يبدو أن بلدنا الحبيب شذ عن هذه الخلفية الدولية والحقوقية عندما يستغل هذه المقتضيات في غير سياقها وفلسفتها بالرغم من أن المغرب التزم وانخرط في أهم المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات الصلة بموضوع الاتجار بالبشر، وهي على الشكل التالي:
1- الاتفاقية الخاصة بالرق لسنة 1926، والتي انضم إليها المغرب ووضع صكوك قبولها في 11 مايو 1959.
2 – اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير لسنة 1949، التي صادق عليها المغرب في 17 غشت 1973.
3 – الاتفاقية المتعلقة بوضعية اللاجئين لسنة 1951، والتي صادق عليها المغرب في 7 نونبر 1956.
4 – اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989، التي صادق عليها المغرب في 21 يونيو 1993.
5 – اتفاقية منع كل أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979، التي صادق عليها المغرب في 21 يونيو 1993.
6 – اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية لسنة 2000، التي صادق عليها المغرب في 19 سبتمبر 2002.
7 – البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن بيع الأطفال واستغلالهم في البغاء وفي المواد الاباحية لسنة 2000 الذي صادق عليه المغرب في 22 ماي 2002.
8 – البروتوكول الاختياري للاتفاقية المتعلقة بحقوق الطفل بشأن إشراك الأطفال في المنازعات المسلحة سنة 2000 الذي صادق عليه المغرب في 22 ماي 2002.
وعطفا على ما سبق فالمعروف لدى رجال القانون أن فلسفة قانون الاتجار بالبشر، جاءت لمواجهة تنامي ظاهرة الشبكات الإجرامية المنظمة والعابرة للحدود التي تستهدف فئات هشة على رأسها النساء والأطفال والمهاجرين غير النظاميين، وتنشط بالمغرب مستغلة كونه منطقة عبور واستقرار للعديد من الحالمين بالهجرة نحو أوروبا، فضلا عن اتساع الفوارق بين العالم الحضري والقروي وما يترتب عنها من حالات هجرة داخلية، كما أن عددا من المواطنين المغاربة يقعون بدورهم ضحايا هذه الشبكات بالخارج، وقد تم رصد صور كثيرة للاتجار بالبشر منها مثلا استغلال الأطفال في العمل المنزلي؛ والتسول والدعارة خاصة ما يتم في بعض المدن السياحية؛ كما سجلت حالات استغلال الفتيان في أعمال السخرة من خلال تجنيدهم كممتهنين في محلات الأعمال الحرفية والصناعة التقليدية والميكانيك؛ وإجبار النساء المغربيات أو الأجنبيات خاصة المهاجرات غير النظاميات من بلدان جنوب الصحراء على الدعارة والتسول؛ وتشغيل النساء في العمل المنزلي وإجبارهن على تحمل الاستغلال من خلال مصادرة جوازات سفرهن وعدم دفع الأجر والإيذاء الجسدي؛ وبيع الأعضاء والأنسجة البشرية …الخ.
وفي هذا السياق ونتيجة للضغوط والإملاءات الدولية، وبسرعة متناهية صيغ ونوقش وصودق في البرلمان على القانون المتعلق بمحاربة الاتجار بالبشر الصادر بمقتضى الظهير رقم 127-16-1 بتاريخ 25-08-2016 لتنفيذ القانون رقم 14-27 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 19-09-2016 وتجدر الإشارة إلى أن الأمر لا يتعلق بقانون مستقل، وإنما بتعديلات جزئية أدخلت على منظومة القانون الجنائي بشقيه الموضوعي والإجرائي، ولا سيما الفصل 1-448 الذي توسع المشرع جدا في تعريف الاتجار بالبشر ووسائله، بل إنه ذهب بعيدا عندما لم يشترط حتى تلك الوسائل في الفصل الموالي لقيام هذه الجريمة، وكما يعلم العارف البسيط بالقانون المغربي تشكل استثناء داخل القانون الجنائي لكونها مفتوحة على مجموعة من التفسيرات والتأويلات، بل قابلة لأغلب المقاسات والنوازل، وهو ما يفتح المجال أمام عقلية الاستبداد لاستغلالها من أجل متابعة وتوريط حتى من لم تسعفه وقائع وعناصر النازلة أن تلبسها لبوس التهم الروتينية التقليدية والجديدة في تصفية الحسابات مع المعارضين والمخالفين للرأي، ومنها حالة الدكتور باعسو.
لذلك وبغض النظر عن أننا لسنا في دولة المؤسسات واستقلال السلطة القضائية كما يروج له الخطاب الرسمي، فإن سهولة لي أعناق هذه النصوص الفضفاضة والمجملة المتعلقة بالاتجار بالبشر، علما أن غالبية الأفعال المشكلة للاتجار بالبشر مجرمة في القانون الجنائي الحالي، أدى إلى العصف بأمهات القواعد الفقهية في المادة الجنائية المعروفة لدى العام والخاص والتي لا يمكن المساس بها بأي شكل من الأشكال، من قبيل “قرينة البراءة”؛ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”؛ “عدم التوسع في تفسير النص الجنائي”؛ “الشك يفسر لفائدة المتهم”، ناهيك عن تضمين هذه المقتضيات عقوبات مغالى فيها لا تتناسب مع خطورة الأفعال حتى لو ثبتت وتوفرت عناصرها التكوينية. وهذا ما يشكل روح وفلسفة الاتفاقيات الدولية التي سبق ذكرها. وعلى العكس من ذلك تماماً نجد مثلا القوانين المقارنة خاصة الحديثة مثل القانون الإماراتي أو البحريني أو الأردني أو السوداني لم تتوسع في تعريف الاتجار بالبشر، ولم تتشدد في العقوبات على خلاف المشرع المغربي.
وتجدر الإشارة إلى أن منشور وزير العدل والحريات رقم 10 س 3 بتاريخ 06/02/2017 حول تفعيل القانون 27.14 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر، بعدما وجهت وزارته استبيانا إلى محاكم الاستئناف لاستطلاع الحالات التي طبّق فيها القانون المذكور منذ دخوله حيز التنفيذ حيث نفى تسجيل أي قضية من هذا النوع، وهو ما أكده تقرير رئيس النيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة لسنة 2017، والذي صدر خلال شهر يونيو 2018، حيث لم يتضمن أي معطيات إحصائية حول عدد قضايا الاتجار بالبشر المسجلة بالمحاكم، خلافا للواقع المعاش الذي يعج بهذه الجرائم الخطيرة والمسكوت عنها والمنظمة من جهات نافذة والتقارير الرسمية وغير الرسمية خير دليل.
ختاما، يبدو أن مقتضيات “الاتجار بالبشر” كما تُفسر وتُطبق عمليا خاصة في نازلة الحال، ليست لتوفير الحماية القانونية للفئات الهشة والمعوزة، من مختلف صنوف الاستغلال والاتجار بمآسي الناس وحاجاتهم، التي تطال اليوم كل أصناف فئات الشعب المغربي، من جراء سياسة ومافيا الريع والاحتكار والاستغلال البشع لجميع الحقول والمجالات المجتمعية، بقدر ما جيء بها من أجل التصدي وإرهاب وجعل القضاء منصة لتصفية الحسابات مع كل من تسول له نفسه أن يتخندق في صف المستضعفين ويدافع عن القضايا الحقيقية للوطن والمواطنين.