مقدمة:
لا يخلو زمان ولا مكان من أولئك المتنطعين الذين ينصبون أنفسهم للكلام، وهم ليسوا لذلك أهلا. وهذا في زماننا كثير، فتجد شبابا متحمسا متعصبا مقلدا جامدا، يحصر الناس في أقوال علماء معينين ويمنع من الاجتهاد أو من تقليد غير أولئك من أئمة الدين، ويشتغل بكثير من الخصام والجدال وكثرة القيل والقال وترجيح بعض الأقوال على بعض مما استحسنه عقله. والأدهى والأمر من هذا كله أن تجد شبابا يدعي بلوغ درجة الاجتهاد وان لم يصرح بها لفظا، ويتكلم في العلم من غير تقليد لإمام.
ما ذكرناه كاف ليكتب الكاتب ويؤلف المؤلف في موضوع الاجتهاد ليذكر من كان هذا ديدنه بضوابط وشروط الاجتهاد، حتى لا يكون الدين لعبا.
تعريف الاجتهاد:
لغة: استفراغ الوسع في أي فعل كان.
واصطلاحا عند الأصوليين هو بذل الجهد للوصول إلى حكم شرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية.
المجتهد وشروطه:
المجتهد هو الفقيه، وهو من كانت له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية واجتمع فيه العلم والتقوى وتحصيل الأدوات المنهاجية الأصولية، وهذه شروط ضرورية لحفظ الدين من أن يقول فيه من شاء ما شاء. وهي شروط أربعة كما ذكرها الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه “علم أصول الفقه” رحمه الله.
أولها:
أن يكون الإنسان على علم باللغة العربية وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليبها كسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة الاطلاع على آدابها وأثار فصاحتها من شعر ونثر وغيرهما – لأن أول وجهة للمجتهد هي النصوص في القرآن والسنة وفهمها كما يفهمها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته – وتطبيق القواعد الأصولية اللغوية في استفادة المعاني من العبارات والمفردات. ومن هذه العلوم: علم النحو، علم الصرف، علم البلاغة وعلم الحروف.
ثانيها:
أن يكون على علم بالقرآن، والمراد أن يعرف كيف يستفيد الأحكام من نصوصه، وهو يتطلب معرفة خمسة علوم من علومه وهي:
*أحكام القرآن.
*علم نزول القرآن.
*علم الناسخ والمنسوخ.
*علم اختلاف القراءات.
*علم التفسير.
ثالثها:
أن يكون على علم بالسنة والواجب أن يعرف منها ما يميز به الصحيح من السقيم، وهذا يتطلب معرفة بعلوم مصطلح الحديث، والجرح والتعديل، وعلل الحديث، أن يستطيع التمييز بين الحديث المتواتر والمشهور والآحاد، أن يعرف كذلك الأحاديث التي تدور عليها الأحكام.
ورابعها:
أن يعرف وجوه القياس، وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي من أجلها شرعت الأحكام، ويكون خبيرا بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم حتى يعرف ما تتحقق به علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيرا أيضا بمصالح الناس وأعرافهم وما يكون ذريعة إلى الخير والشر فيهم.
متى يجتهد المجتهد؟
“لا اجتهاد مع وجود النص” هذه قاعدة عظيمة إذ تبين متى يجتهد المجتهد، فلا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي الدلالة والورود. فإن كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد دل على الحكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الدلالة والورود فلا مجال للاجتهاد فيه، والواجب أن ينفذ فيها ما دل عليه النص. أما إذا كانت المسألة المراد معرفة حكم الشارع فيها قد ورد فيها نص ظني الدلالة أو الورود أو أحدهما أو لم يرد نص على حكمها أصلا فهنا مجال الاجتهاد.
خاتمة:
لا أدعي أن مكتوبي هذا قد أحاط بالموضوع كله، ولكن رجائي في الله عز وجل منه أن يذكر به أصحاب الكلام أن الاجتهاد باب واسع قد فتحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهذه الأمة، إذن فهو ليس بدعة في الدين، غير أن ولوج بابه صعب المنال، فالاجتهاد له شروطه وضوابطه المعتبرة التي تعتبر لجاما للعابثين بالدين والمتهورين فيه، وحدا للعلمانيين والإسلامولوجيين، حتى لا يقولوا في الدين ما شاؤوا. نقول إن الاجتهاد باق ما بقيت الحاجة إليه، وإيجاد المجتهدين فرض على الأمة المسلمة حتى تحقق كفايتها، وقد ضل ضلالا مبينا من قال بأن الاجتهاد قد أغلق بابه.