العبادات نوعان: عبادة القلوب وعبادة الجوارح، فعبادات الجوارح كالصلاة والصوم والزكاة والحج أما عبادات القلوب فهي ما يقوم في القلب من أثر عبادات الجوارح.
وعبادة القلب هي التوبة والإخلاص والرضا عن الله تعالى والانكسار لله عز وجل. وعبادة الجوارح ترفعك درجات وعبادات القلوب ليس لها منتهى عند الله تبارك وتعالى.
الانكسار لله من عبادات القلوب
الانكسار لله هو أقرب الأخلاق حبا لله عز وجل، فهو خلق يحقق معنى العبودية التي تعني التذلل لله عز وجل من خلال معرفته بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وجماله، والتقرب إليه بخفض جناح الذل والرحمة للمؤمنين كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته؛ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا (الآية) [الفتح: 29].
وهي عبادة تهذب النفس وترقق القلب وتطهر الجسم من الشهوات، فالإنسان دائما بحاجة إلى الله تعالى؛ يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هو الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15]؛ والفقر هنا ليس هو فقر المال ولكن الفقر المطلق؛ فقر في كل شيء، والله تعالى له غنى مطلقا، غني في كل شيء وعن كل شيء .
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: “علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم” (أخرجه البخاري).
وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها “ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا”.
ولنتأمل أذكار الرسول صلى الله عليه وسلم وأدعيته، ففي سيد الاستغفار تتجلى أعظم معاني العبودية وأسمى معاني الانكسار والتذلل والافتقار لله تعالى: “اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت” (أخرجه البخاري).
إنها تربية ربانية تحد من استكبار العبد وتجعله مفتقرا لله تعالى منكسرا بين يديه. فالعبد كلما ازداد عبودية وافتقارا لله ازداد خوفا على نفسه وتعلق قلبه بربه، وإسوتنا في ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يتضرع افتقارا إليه سبحانه وتعالى متجردا من حوله وقوته وهو سيد الخلق أجمعين، ومما كان يدعو به: “يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك” (أخرجه مسلم).
ذلة وانكسار يعقبه نصر وتمكين
هذه الرسائل الربانية تعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته. تعلم صلى الله عليه وسلم أن الذل والانكسار لله تعالى نتائجهما النصر والعز والتمكين؛ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ (الآية) [آل عمران: 123].
أما في حنين، فيقول تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (الآية) [التوبة: 25].
بعض مواقف الانكسار والافتقار لله تعالى
– سيدنا يونس عليه السلام حين ابتلعه الحوت قال: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (الآية) [الأنبياء: 87]، هنا الإقرار بالذنب والانكسار الواضح، إنها كلمة ما قالها مكروب إلا وفرج الله همه وجعل له من ضيقه مخرجا.
– سيدنا أيوب عليه السلام رمز الصبر لما اشتد به الألم التجأ إلى الله تعالى مناديا: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (الآية) [الأنبياء: 83].
– سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (الآية) [التوبة: 114]، وأواه تعني كثير التأوه والتوجع، وتعني انكسار القلب.
– انكسار سيدنا جبريل عليه السلام، وهو الذي وصفه الله تعالى بالقوي الأمين، وهو الذي يسد الأفق من ضخامته، وهو الذي سماه الله بالروح القدس، والمكلف بنقل رسالة الله إلى الأرض، ورغم هذه المنزلة الكبيرة وهذه القوة وهذه الضخامة يصفه الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: “مررت ليلة أسري بي بالملإ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله”.
ما أحوجنا أن ندخل على الله تعالى من باب الذل والانكسار والافتقار له لنحقق معنى العبودية التي خلقنا من أجلها، يقول الزاهد المشهور عبد القادر الكيلاني رحمه الله وهو أستاذ ابن تيمية: “طرقت الأبواب إلى الله، كلما طرقت بابا وجدت عليه آلافا من الناس يدخلون، فطرقت باب الذل فوجدته فارغا، لا يدخل إلى الله من هذا الباب إلا القليل فدخلت وقلت لكم هلموا إلى هذا الباب، فقد وجدت الباب الذي تدخلون منه إلى ربكم”.
فاللهم ارزقنا حسن التوكل عليك والافتقار إليك والاستعانة بك وارزقنا الذل والخضوع والانكسار بين يديك.