إن كان الفقر المادي هو الصفة الملازمة لطبقة اجتماعية معوزة، خلد الأديب العالمي فيكتور هيكو ذكرها في روايته الشهيرة “البؤساء”، فإن شريحة واسعة من الطبقة السياسية المغربة بحربائيتها وتلونها، وبفقرها المدقع من نبل الأخلاق السياسية، وعوزها الحاد من فضائل “الالتزام السياسي” كما دعا إليه جون بول سارتر، هي أحق من ينعت بالرجعية، وأجدر من تخلد انتكاستها في رواية عنوانها “البؤساء الجدد” وكاتبها هو الزمن السياسي.
في التاريخ السياسي العربي الحديث، وفي غير ما مرة، كانت المؤسسة العسكرية تثب على مقاليد الحكم، وتنفذ انقلابات كان الإمساك بزمام السلطة حافزها، وكان الضباط هم وقودها. لكن المشهد المصري مؤخرا، بعد الانقلاب الأخير على حكم الرئيس محمد مرسي، كشف النقاب عن أسلوب فريد بليد، لم يسبق إليه. فالانقلاب كان مقصده تقويض سلطة شرعية، وكانت المؤسسة العسكرية راعيته، وكانت الطبقة السياسية هي وقوده. التقت مصالح الطبقتين، وتوافقا على المبدإ الاستئصالي المقيت الغاية تبرر الوسيلة) 1 .
إن التحولات المثيرة في المشهد المصري من شرعنة الاغتيال الممنهج للشرعية الشعبية، والتصفية الجسدية للانتخابية الديمقراطية ليست هي ما يذهل العقل، فالثورة المضادة أمر متوقع من بقايا النظام البائد، ومقاومة التغيير مرحلة هامة لإتمام عملية التغيير. ما يثير الاستغراب هو أن تتخذ الطبقة السياسية في مصر وخارجها، خصوصا المحسوبين منهم على الصف الحداثي والديمقراطي والتقدمي، موقفا داعما لمثل هذه الممارسة البئيسة إن لم تكن طرفا رئيسا فيها.
الكل تابع كيف كانت الطبقة السياسية تحذر من مغبة الزج ببلدان الربيع العربي في أتون الدولة الدينية، بعدما رشحت صناديق الاقتراع التيار الإسلامي وأهلته لإدارة شؤون بلدانها. على إثر ذلك قفز إلى الواجهة نقاش مشروع، وجدل شرس حول ثنائية “الديني والمدني”، وشنت الآلة الإعلامية الحرب لما طغى التخوف من طمس معالم نظام الحكم المدني، وإقباره تحت كلكل المرجعية الدينية. وبدا الكل متيقظا، لا تُترَك صغيرة ولا كبيرة إلا وأُدخِلت إلى مصحة التشريح.
استيقظ الجميع بعد ذلك على وقع طبول “الانقلاب العسكري الدموي”، ولم تنتظر النخبة السياسية طويلا، بل اصطفت في طوابير الصباح تردد التحية لرموز العسكر بعد أن ألقت إليهم السَّلَم، مشيدة بموقفهم البطولي في تحرير البلاد من قبضة الكيان الأصولي، وهو ما أنساهم ولا شك في هزيمة يونيو 1967 ونكستها.
قفز إلى الواجهة هذه المرة، لكن على استحياء، نقاش معقول حول ثنائية “العسكري والمدني”، فشنت وسائل الإعلام مرة أخرى غاراتها العشوائية، وشرعت في قصف العقول) 2 بعد أن قصفت القبضة الأمنية من قبل الأجساد. انهمر خطاب التهوين من دوس معالم نظام الحكم المدني بحذاء الحاكم العسكري، يعضده ويؤازره في مهمته السامية خطاب التخوين في حق المشككين في نبل العملية السياسية برمتها.
هنا انكشفت أولى إرهاصات بؤس الطبقة السياسية التي يبدو أنها لم تتأمل جيدا أحداث التاريخ، لتنظر أيا من الدولتين العسكرية والدينية كانت بالمدنية أشد بطشا وأكثر فتكا.
فيما يبدو كان الحديث عن البؤس الاجتماعي والاقتصادي والفكري يحظى باهتمام كبير من لدن الفلاسفة والمفكرين الأقدمين منهم والمحدثين. ففي ميدان الاقتصاد كتب المفكر الفوضوي بيير برودون كتابه نظام التناقضات الاقتصادية أو فلسفة البؤس) وكانت بصمته كبيرة على حقبة من التاريخ الأوروبي، وكان يكفيه إثارة للجدل أنه استفز كارل ماركس ليرد عليه في كتابه بؤس الفلسفة)، وفي ميدان الفكر كتب كارل بوبر ينتقد مذهب التاريخانية في كتابه بؤس الإيديولوجيا)، وكتب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في الميدان الاجتماعي كتابه بؤس العالم) منتقدا الرأسمالية المتوحشة.
ويبدو أن زمن بؤس السياسة قد حل. فحينما تتمرد الطبقة السياسية على قناعاتها السياسية، وحينما تكون هذه الشريحة الحداثية جدا مفتونة بالعمل السياسي باعتباره مرادفا، كما هو شائع، للغة المصالح، فإنها تصبح أكثر احترافا للسياسة في بعد تام عن حدود القيم والفضائل النبيلة، وما ليس يخفى على أحد أن محترفي السياسة، مهما قالوا ومهما ادعوا، ليسوا في غالبيتهم رجال مبادئ) 3 .
قمة “البؤس السياسي” أن ينتصب العقل السياسي مستويا على عرش المبادئ الحداثية ومتترسا بالمواقف التقدمية، بينما هو يتفنن، كما يتفنن الجلاد في تعذيب ضحاياه، في حبك المؤامرات للانقلاب على الشرعية الديمقراطية. يبدو أن الأحداث الكبرى في بلدان الربيع العربي قد عرت سوءة الطبقة السياسية، وكذبت شعاراتها البراقة، ووعودها الوهمية. فقد برهنت بما لا يدع مجالا للشك على استعدادها الدائم كي تضع يدها في يد “شيطان الانقلاب” إذا كانت الديمقراطية غير مشروطة بإشباع نزوات “الأنا الحداثي التقدمي”، كما أنها جاهزة كي تكفر ب “دين الديمقراطية” إن خانته معتقداته ولم تنزل عند رغبتها. حقا قد يكون الإنسان صاحب قناعة ومحروما من المعارف في موضوع السياسة، وقد يكون صاحب علم وفكر لكنه محروم من القناعات المطابقة. إن هذه الفروق التي قد تبدو عديمة الجدوى في حال الهدوء المطلق تبرز بشكل صارخ في الحادث الجلل) 4 .
قمة “البؤس السياسي” أن تلجأ الطبقة السياسية الحداثية في صراعها مع خصومها السياسيين إلى عقلية التآمر عبر الاستقواء بقوة غير سياسية، وأن تقبل بدخولها إلى حلبة الصراع وبحوزتها وسائل الإكراه وأدوات العنف المادي. فالجيش بطبيعته خطر على الدولة نفسها دائما. فالذين يملكون الأسلحة محمولون على إساءة استعمالها ككل من يملك سلطة. إن الأسلحة هي التعبير الأقصى عن السلطة… إن العسكريين المسلحين هم خطر دائم على الحاكمين وعلى المواطنين العزل… يمكن القول على وجه العموم أن العسكريين يسندون طبقة الأقلية التي تتمتع بالامتيازات وتحتاج إلى بنادق ورشاشات ومصفحات لإبقاء سيطرتها على الطبقات المستَغَلة) 5 .
قمة “البؤس السياسي” أن تركن الطبقة السياسية التقدمية جدا ركونا وثيقا إلى جوار من كانت بالأمس القريب ترميه بأشد تهم الفساد، وتحمله مسؤولية الأزمة، وتلقي على كاهله تبعات الكارثة، ثم تجبرها مقتضيات الحراك السياسي على أن تتحالف معه، وتوقع له في لمح البصر شهادة النزاهة.
هل من نكاية وجرم أقبح من إصدار صك البراءة في حق من كانت تحمله الثورات الحقيقية إلى حبل المشنقة أو تكل مصيره إلى أحكام العدالة الانتقالية، بينما تحمل شركاء الأمس في الثورة إلى ردهات السجون ودهاليز المعتقلات. حقا لقد فضلت طوائف من المثقفين الديمقراطيين الاستلاب السياسي لَمّا ألْقَوْا السَّلَم إلى الأنظمة الحاكمة لِقاءَ مُزعةٍ هزيلة من سلطة، ومنصب هامشي في برلمان، وشِبرٍ متقلص تحت سماء الديمقراطية المحلية المزيفة) 6 .
قمة “البؤس السياسي” أن تمارس النخبة السياسية الديمقراطية جدا سياسة التمييز العنصري في حق خصومها السياسيين بعيدا عن مقتضيات التنافس الشريف، والتقاطب السياسي، والتنوع الإيديولوجي. أليس هذا هو أحط أشكال الأبارتيد السياسي حين تمارس أقلية مهزومة الإقصاء ضد القوة السياسية والشعبية الأولى. إنه مظهر آخر من مظاهر العنصرية. العنصرية السياسية، بدأت مع جمهورية الرئيس عبد الناصر عام 1954، حين شرع في تصفية خصومه السياسيين، فبدأ في (شيطنة) الإسلام السياسي… وكان مكانهم الطبيعي بقوة الجيش التي ملكها ووجه سلاحها إلى الداخل في السجون الحربية والمعتقلات وعلى منصات الإعدام. ومرت الأيام واستخدم نظام مبارك ذات العنصرية السياسية حين اخترع فزّاعة الإخوان. ورحل مبارك، وأتيحت الفرصة أمام الشعب المصري ليختار ممثليه في مجلس الشعب 2012، فاختارت الجماهير ثلاثة أرباع ممثليها من (شياطين) الإسلام السياسي، وكانت تلك ضربة قاصمة لدعاة شيطنة هذا الاتجاه من الناصريين ودعاة العلمانية، (لم يحصل الحزب الناصري أو الشيوعي على مقعد واحد في تلك الانتخابات) 7 .
* صياغة العنوان مستوحاة من فقرة في كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم”، اختار لها الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله اسم “المعتزلة الجدد”.
[2] عنوان كتاب الدكتور فيليب تايلور: “قصف العقول، الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي”.\
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “الإسلام والحداثة” ص 140.\
[4] ريجيس دوبريه، كتاب “نقد العقل السياسي” ص 36.\
[5] موريس دوفرجيه، كتاب “مدخل إلى علم السياسة” ص 170.\
[6] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب “الشورى والديمقراطية” ص 106.\
[7] هشام عبد الصبور شاهين، مقال “الأبارتيد المصري”.\