أن ننفض الغبار عن مفهوم ما، ونزيل عنه ترسبات عالقة وتراكمات ثقيلة ليس بالأمر الهين؛ فهو يحتاج من العلم والتبصر والاجتهاد ما يكفي لإماطة الأذى عنه وإحيائه وبعثه من جديد.
وهذا ما قام به الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، حيث اعتنى عناية بليغة بالمفاهيم وخصوصا القرآنية منها، وأخرجها من ضيق الفهم إلى رحابة المعنى، واعتبرها الجوهر الذي تنبني عليه نظرية المنهاج النبوي، فبسط دلالاتها وتعبيراتها وتأويلاتها ووظائفها. وأهم هذه المفاهيم نجد مفهوم الحافظية باعتباره المحدد الأساس لوظيفة المرأة.
فما مفهوم الحافظية عند الإمام؟
وما تجلياته في واقع المرأة المؤمنة؟
1- مفهوم الحافظية
يعد مفهوم الحافظية مفهوما أصيلا عند الإمام رحمه الله، مستمد من القرآن الكريم ومستنير بالسنة النبوية التي هي النموذج، وهو ذو أبعاد متعددة يستهدف أول ما يستهدف جوهر المرأة/الإنسان ووظيفتها. يقول الله عز وجل: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ (النساء: 34).
تستوقفنا هذه الآية الكريمة، ومن خلالها «نبدأ في استكشاف وظيفة المرأة، ومن خلال التكليف العام الشامل للزوجين الرجل والمرأة في خطابه تعالى العام (يا أيها الذين آمنوا)» (1).
يتبين من وظيفة المرأة أنها حافظة للغيب؛ «كلمتان توحي الأولى بمفهومها أن هناك ما يضيع إن لم تحفظه المرأة، كما توحي الثانية بأن هناك غيبا وحضورا» (2).
فما المقصود بالحافظية؟
في اللغة يقول ابن فارس: الحاء والفاء والظاء أصل واحد يدل على مراعاة الشيء. يقال حفظت الشيء حفظا.
والتحفظ: قلة الغفلة، والحفاظ: المحافظة على الأمور (3).
وعند الأصفهاني أن «الحفظ يقال تارة لهيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، وتارة لضبط الشيء في النفس ويضاده النسيان، وتارة لاستعمال القوة، فيقال: حفظت كذا حفظا، ثم يستعمل في كل تفقد وتعهد ورعاية» (4).
لقد غلب على جل المفسرين في تفسيرهم لنص الآية الدلالة المباشرة، وفسروا الحافظية على أنها الطاعة وألا تأتي المرأة بما يكره الزوج في غيبته، منهم الإمام الطبري والإمام القرطبي.. فالحافظية عندهم تقتصر على حافظية البيت.
أليست من هذا المنطلق حافظية ناقصة غير كاملة؟
بالرجوع إلى الآية السابقة، والوقوف عند قوله تعالى (بما حفظ الله) نجد الإمام ابن عاشور يعطي للحفظ معنى شموليا، فيقول: الباء في (بما حفظ الله) للملابسة، أي حفظا ملابسا لما حفظ الله.. وحفظ الله هو أمره بالحفظ، فالمراد الحفظ التكليفي، ومعنى الملابسة أنهن يحفظن أزواجهن حفظا مطابقا لأمر الله تعالى، وأمر الله يرجع إلى ما فيه حق للأزواج وحدهم أو مع حق الله، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه… وكما أذن لهن النبي أن يخرجن إلى المساجد ودعوة المسلمين (5).
فهي حافظية شاملة لا تقتصر على حق الزوج والاهتمام بتدبير شؤون البيت.
وعندما يتحدث الإمام رحمه الله عن الحافظية وتجلياتها فهو يقصد هذا الفهم الشمولي، يعلق على قوله تعالى: حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ فيقول: «ما حفظ الله. ما هنا سواء اعتبرناها موصولية أو مصدرية تؤدينا إلى قراءة: بما حفظ، أي بحفظ الله، بالذي حفظ الله.
أي أن حافظية المرأة هي تحمل ما كلفها به الشرع، وما حفظه الله من آياته العاصمة للشرع.
حافظيتها إذا لا تقتصر على حفظ حقوق الزوج، بل تشمل كل حقوق الله المكلفة بها الزوج، حافظية الصالحات القانتات في المجتمع المسلم لا تقتصر على شُغل بيوتهن وإرضاء أزواجهن، بل تنطلق أولا من إرضاء الله عز وجل وترجع إليه» (6).
أي فهم هذا، وأي عمق في الدلالة لمعنى الحافظية؛ أن تحفظ دين الله أولا وتتقن دورها الوظيفي في البيت ثم تحمل هم المجتمع/الأمة لتتقرب إلى الله عز وجل.
2- تجليات الحافظية
1-2- في بيتها:
الحديث عن الحافظية حديث عن الأهداف والمقاصد والوظيفة، والحفظ في الحياة الزوجية هو استمرار واستقرار. «فالنساء بفطرتهن يحفظن استمرار الجنس البشري بما هن محضن للأجنة، وحضن للتربية… مدبرات لضرورة معاش الأسرة» (7).
بيتها هو حضنها الأساس، تبدأ مهمتها الأولى بإتقان لدورها الوظيفي؛ وهو حفظ النسل وتعهد العقول والجسوم وصون حقوق الزوج. بيتها «برج دفاع وذخيرة وتخطيط للمستقبل وتدريب جند» (8).
يستند الإمام رحمه الله إلى حديث نبوي شريف، يبرز فيه ملامح الحافظية في نطاق الحياة الزوجية. «روى ابن جرير الطبري بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك”».
قرأ رحمه الله هذا الحديث بمفتاح الفهم النبوي، ولم يقف عند الدلالة الحرفية كما فعل معظم المفسرين والفقهاء والمحدثين؛ بل اتخذه، مفتاحا لفهم شامل ينسجم مع المفهوم القرآني للحافظية، حيث ربطه بمقاصد التشريع فقال: «ضروريات خمس… قرأنا حافظية المرأة على النسب وعلى نفسها وهما متلازمتان، ثم حافظيتها على مال زوجها، بقيت ضروريتان.. حفظ الدين وحفظ العقل».
فهي إذا حافظية شاملة جامعة، وأول ما تحفظه المرأة حفظ الأنساب، ويقرر أولويته قوله صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا»، الحديث أخرجه الشيخان عن الإمام علي كرم الله وجهه. فالمرأة أمينة، تحفظ دينها ودين الرجل، تصون الفطرة وتنشئ جيلا يتشرب الإيمان، وهي مسؤولة وراعية ومدبرة.
يقول رحمه الله: «نكبة ورقدة في الفطرة لا يمكن أن ينبري لها بقومة محيية مقومة إلا أمهات صالحات قائمات بوظيفتهن الحافظية كاملة غير منقوصة» (9).
المرأة بحافظيتها صانعة إنسان، بيتها مدرسة، تصبر وتصابر، تواجه وتقتحم، فهي الأس ومنها البناء، تعلم العلم النافع، وتلقن اللغة، وقبل ذلك وبعده تتهمم بالولد ورواحه إلى المسجد، تتابع خطواته، معاملاته، أخلاقه كما كانت تفعل الصحابيات.
وقوتها في ذلك؛ الإيمان بالله، هو الباعث لها والمحفز، لتسلك إلى الله وهي مطمئنة، تساهم بالفكر والجهد والجهاد في صنع غد الأمة، وهي «واثقة بأن ذلك يقرب إلى الله عز وجل ويخدم قضيتها الأخروية، ويصلح أثناء ذلك الولد» (10).
2-2- في مجتمعها:
إذا كان حضور المرأة في بيتها بمثابة القوة والمثانة لبناء أسرة متماسكة، فهل لها حضور في مجتمعها؟
يوضح الإمام رحمه الله تعالى هذا الحضور فيقول: «إسعاد أهلها وذويها من فرائض فطرتها وأمومتها، لكن ماذا تقدم من خدمة لأمتها؟» (11).
ليس هناك فصل في كتاب الله وسنة رسوله بين وظيفة المرأة في بيتها ودورها في مجتمعها؛ والحقيقة أن انحدار الزمن بالمرأة وقرون الانحطاط، وانتقاض عرى الحكم وانحباس الفقه جعل «المرأة المسلمة مقهورة مغلقة عنها أبواب العلم، موصدة عليها أبواب البيت» (12)، إضافة إلى الجهل وغزو الاستعمار، كلها عوامل ساهمت في خلق هذه الهوة. وأصل المسألة هي المزاوجة بين الوظيفتين، فالإمام رحمه الله جمع ما تفرق في الأمة، وأحيى ما وهن وضعف فيها؛ فجدد مفهوم الحافظية، حيث جمع بين حفظ الفطرة وتعبئة الأمة، جمع بين وظيفة البيت وما تتطلبه من قوة إيمان وبين خدمة مجتمعها وما يستوجبه من تعبئة وقوة بناء.
تمتد وظيفة المرأة إلى خارج بيتها حين تدخل في الولاية العامة مع الرجل، ولها فيها المسؤولية العظمى تأكيدا على مكانتها في واجب السهر على دين الله وحمل العبء، ودعم البناء. قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (التوبة، الآية 71).
لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم معسكر خاص بالرجال وآخر للنساء، ولم تكن النساء في عهد النبوة منعزلات حبيسات بيوت؛ وإنما كانت المرأة تربي الناشئة وتطلب العلم وتجاهد وتحفظ القرآن وتشارك في الغزوات وتدافع عن الإسلام.. مثلها مثل الرجل تماما.
«فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية مشتركة بين الرجال والنساء.. تدخل الصلاة وتدخل الزكاة في طاعة الله ورسوله كما يدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والمرأة المؤمنة كالرجل المؤمن، نصيبها من المسؤولية السياسية مثل نصيبه، مع اعتبار “الدرجة” التي خولها الله له ليقود السفينة…» (13).
إلى نموذج الصحابيات نعود لنلتمس تلك التربية الإيمانية الجهادية؛ كانت المرأة على عهد رسول الله، تحضر المسجد تصلي الفجر والعشاء، تحضر صبيانها «ليفتح الصبي عينيه على السنة حية» (14)، هكذا كانت تحكي سيدتنا عائشة، تحضر المؤمنة الجمعة تتعلم القرآن وتحفظه لتلقنه رضي الله عنها أبناءها وأبناء أمتها «وأهم ما نعد لهم من قوة أمومة مبرورة برة مربية، تصنع مستقبل العزة للأمة».
نموذج قوي وهي “أسماء الصديقية” رضي الله عنها حرصت على طلب العلم في مجالس العلم، في المسجد جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل.
وها هي “أم سليم” زوج أبي طلحة، ربت وعلمت أنسا، تشرب من قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعلم الأمة بعد ذلك بما رواه من أحاديث.
«ويخبرنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه، إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى» رواه مسلم.
من خلال هذا التفصيل نجد الإمام قد أصل لمفهوم قرآني مهم جدا وهو الحافظية، وأعطاه أبعادا واسعة الدلالة.
وما يميز الإمام عن غيره، هو تأصيله للمفاهيم وتنظيمها في نسق متكامل ومتراص ومتناسق وربطها بالواقع.
خاتمة
أود في ختام هذه الوقفة مع وظيفة الحافظية أن أسجل بعض استنتاجات أجملها في ما يلي:
– إن الجمع بين حافظية البيت وحافظية المجتمع هو عين التجديد الذي جاء به الإمام لوظيفة الحافظية.
– ضرورة إشراك الرجل في الفهم الصحيح للحافظية باعتباره مفهوما قرآنيا، من الحكمة إدراك كنهه وروحه كما أراد الله سواء على المؤمن أو المؤمنة.
– لا تعارض بين القوامة والحافظية، بل تكامل وانسجام يسهم في بناء الأسرة القوية، الأسرة البرج، الأسرة اللبنة.
(1) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 1/2018، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 81.
(2) نفسه.
(3) أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، كتاب مادة حفظ، حققه عبد السلام محمد هارون، دار الفكر 1399هـ/ 1979م، 2/87.
(4) الحسين الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، حققه صفوان عدنان الداودي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1412هـ/ ص 244.
(5) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، 41/5.
(6) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ص 82.
(7) نفسه، ص 81.
(8) نفسه، ص 211.
(9) عبد السلام ياسين، العدل، ص 303.
(10) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ص 214.
(11) نفسه، ص 203.
(12) نفسه، ص 93.
(13) نفسه، ص 270.
(14) نفسه، ص 107.