البعد التربوي والتعليمي في القرآن.. قصة موسى والخضر عليهما السلام نموذجا

Cover Image for البعد التربوي والتعليمي في القرآن.. قصة موسى والخضر عليهما السلام نموذجا
نشر بتاريخ

تقديم

لعل أغلب الدارسين والباحثين في علوم القرآن والدراسات القرآنية يرنون – من خلال تحليل السور والآيات – دائما إلى استخراج المؤشرات والدلالات المرتبطة بصور الإعجاز العلمي الدالة على خلق الله وقدرته ومعجزات وتمظهرات ذلك في الكون والحياة؛ ويعمدون إلى إعمال العقل والتبصر والغوص في درر الكتاب الحكيم منقبين ومستخرجين ما يثبتون به وجود الله ووحدانيته وإلزامية عبادته من جهة، ومدحضين مزاعم المشككين والملحدين والمنافقين من جهة أخرى، مبتغاهم الأساس في ذلك الدعوة إلى الإسلام وإظهار الحق وإزهاق الباطل بمقاربة حجاجية علمية مبنية على الملاحظة والتأمل والتبصر مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164].

لكن من الباحثين من ذهب في منهجه إلى الكشف عن الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والتعليمية والتربوية في الرسائل القرآنية، ليقدم للناس منهج الإسلام في التربية والتعليم من خلال الاقتداء بقصص القرآن وسير الأنبياء والرسل والصالحين في هذا المجال.

ويبقى – بلا ريب – سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم المعلم الأول في منهجه وأساليبه وأدواته في بناء العلاقة بين المدرس والمتعلمين منذ انطلاقته الأولى من مدرسة دار الأرقم بن أبي الأرقم، ولا أدل على ذلك من صناعته مع أصحابه لأمة كانت خير أمة أخرجت للناس.

وهنا يحضرني موقف الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب تنوير المؤمنات؛ إذ يؤكد على ضرورة إعادة بناء العلاقات التربوية بين المعلمين والمتعلمين على أسس من الجدية التي ترفض القمع والمراقبة والاستعلاء، وتنحو نهج الرفق والحكمة والتعارف والتواد والإصغاء والنصح والتوجيه الحكيم، رافضا التعامل الرقمي الكمي مع المتعلمين لصالح التعامل الرفيق الحاني المحترم لشخصية المتعلم المتخلق بأخلاق التعلم الواجبة لمعلمي الناس الخير، يقول في هذا الصدد في جمل جميلة: “صناعة جيل لمستقبل حياة أمة ينبغي أن تعتمد على تحرير التلميذ والطالبة من عقدة القصور أمام أستاذ يعلم كل شيء. تُنمّى طاقات الجيل ويُفتح الصدر، ويفتح المجال للمناقشة والمجادلة والاحتجاج بأدب لتكبَر الشخصية الحرة المسؤولة” 1 “فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين” 2. ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125].

 وهنا نجد الإمام المجدد يمتح من قبسات منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة من خلال اعتماد الأسوة والقدوة الحسنة التي ينتهجها في مقاربته التربوية والتعليمية.

إذ بالإضافة إلى رفقه ولينه، وحلمه وسعة صدره في تعليمه – صلى الله عليه وسلم – فإنه علَّمنا أساليب رائدة في التعليم، ولفت الانتباه والجمع بين الإقناع العقلي، والتأثير العاطفي.

يقول معاوية بن الحكم السلمي: “فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني” [رواه مسلم]، وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً” [رواه مسلم].

فما أحوج المعلِّمين إلى التعلم من آدابه وأخلاقه، وحسن تعليمه، وأساليب تعليمه.

قصة موسى والخضر عليهما السلام نموذجا

متن القصة:

وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أبرح حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا (62) قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا (64) فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا (65) قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (67) وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا (68) قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا (69) قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا (70) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا (71) قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا (73) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا (74) ۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (75) قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا (76) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا (77) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا (78) أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا (79) وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا (80) فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا (81) وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا (82) [الكهف].

كان من البدهي أن تكون التربية والتعليم على رأس مهام وأولويات جميع الأنبياء والمرسلين والصالحين، ولذلك لم تخل قصص القرآن الكريم في سرد ووصف حياتهم ودعوتهم ورسالتهم من هذه المهمة العظيمة. قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2].

وإذ نقرأ كتاب الله عز وجل نجده يزخر بقصص وأخبار في هذا المجال وسورة الكهف جعلت من قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام وعلاقتهما التعليمية موضوعا للتأمل والتدبر في وجوب طلب العلم على يد ذوي الخبرة من العارفين والواصلين. “نفتح كتاب الله عز وجل لنقرأ من خبر موسى مع العبد الصالح الذي سمته السنة خضرا إذ أخبرنا الله تعالى أن موسى رحل مع فتاه، بوحي من الله ليلقى عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [الكهف: 65]. وبقية القصص الحق تدل على أن من عباد الله من يعلمهم الله من عنده، ومن يأمرهم بأمره، ومن ينصبهم معلمين لعباده. وجاء في صحيح البخاري، كتاب التفسير، عن أبي كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخضر قال لموسى: يا موسى، إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم الله علمنيه لا تعلمه” 3.

ولعل قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام تزخر بالأبعاد والرسائل التربوية والتعليمية التي أراد الله تعالى أن يبعث عليها سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم قدوة ومخلِّصا لأمته من الضلالة إلى النور.

فإذا كان الله تعالى قد اصطفى لأنبيائه من يعلمهم ويرشدهم ويلهمهم كما هو الشأن لسيدنا جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اصطفى لسيدنا موسى سيدنا الخضر عليه السلام – بعد بشارات التكليف – ليكمل تكوينه وتأهيله لمهمته العظمى ورسالته الفضلى؛ فيعينه على الارتقاء والكمال بشخصيته الرسالية العرفانية: فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا [الكهف: 65].

ولذلك شرعَ سيدُنا موسى في رحلةِ بحثٍ عن هذا “المعلم الرباني” مستهدياً بما دلَّهُ عليه اللهُ تعالى من علاماتٍ وإشاراتٍ تدلُّهُ عليه وتهديهِ إليه، فكان أن اهتدى سيدُنا موسى إلى سيدِنا الخضر فسألهُ عليه السلام إن كان يأذن له بأن يتبعَه حتى يتعلَّمَ منه علماً رشيداً يرتقي بوساطةٍ منه إلى ما يجعلُ من حالِهِ مع اللهِ تعالى الحالَ الذي لا شائبةَ تشوبُهُ 4.

فالعلاقة بينهما بدأت عندما سئل سيدنا موسى -عليه السلام- من هو أعلم النّاس؟ فأجاب -عليه السلام-: أنا، إلّا أنّ الله تعالى عاتبه، وذلك لأنّه لم ينسب العلم لله، ثم أخبره بأنّ هناك من هو أعلم منه، وأمره بأن يذهب للقائه عند مجمع البحرين؛ فذهب موسى عليه السلام، وطلب من الخضر أن يرافقه ليتعلم منه. فالعلاقة بينهما إذن علاقة تربوية تعليمية بين المعلم والمتعلم. فما هي أهم الأبعاد التربوية والتعليمية في هذه القصة؟

من خلال التعمق في معاني ومضامين هذه القصة واعتماد المنهج الاستنباطي “وهو المنهج الذي يقوم على دراسة النصوص بهدف استخراج مبادئ تربوية مدعمة بالأدلة الواضحة” 5، يمكننا الكشف عن علاقة تضبطها ضوابط سلوكية وأخلاقية ومعرفية وتفاعلية يعبر عنها في الجهاز المفاهيمي المعاصر بمكونات المثلث الديداكتيكي (المعلم: سيدنا الخضر – المتعلم: سيدنا موسى – المعرفة: ما لم يحط به خبرا) في أقطابه الثلاثة: القطب الإبستيمولوجي (المعرفة – المدرس): قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66]. والقطب البيداغوجي (المدرس – المتعلم): قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70). ثم القطب السيكولوجي (معرفة – متعلم).

ومن أهم معالم العلاقة التعليمية التربوية بين المعلم هنا (سيدنا الخضر) والمتعلم (سيدنا موسى) عليهما السلام:

1- أدب المتعلم في حضرة معلمه: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: هذه مخاطبة المستلزم المبالغ في حسن الأدب، وقال الشيخ سيد طنطاوي رحمه الله: فأنت ترى أن موسى عليه السلام قد راعى في مخاطبته للخضر أسمى ألوان الأدب اللائق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث خاطبه بصيغة الاستفهام الدالة على التلطف، وحيث أنزل نفسه منزلة المتعلم من المعلم، وحيث استأذنه في أن يكون تابعا له، ليتعلم الرشد والخير” 6 ويدل ذلك على تواضع المتعلم لمعلمه واحترامه؛ إذ رغم كونه موصولا بأمر إلهي مرسلا للخضر من قبل ربه، استعمل أسلوب الطلب والاستسماح والتبعية. وقال بهذا أيضا الإمام الرازي: إنه استأذن في إثبات هذه التبعية، فإنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعا لكم وهذه مبالغة عظيمة في التواضع” 7.

2- الصدق في الرغبة والحرص في التعلم: فالعلم ميراث النبوة ولذلك كان نهج الأنبياء الترقي العلمي والمعرفي لبلوغ شرف الدعوة، ويبرز الصدق جليا في اعتراف فتى سيدنا موسى بنسيانه للحوت: فإني نسيت الحوت، وفي اعتراف موسى مع الخضر عليهما السلام: لا تؤاخذني بما نسيت. فبناء العلاقة التربوية والتعليمية على الصدق من شأنها بناء التواصل والثقة والشفافية لتسهيل التلقي والتفاعل الإيجابي والانخراط الفعال في التعلم؛ مما يضمن النجاعة والاستمرارية فيتم التحصيل بشكل أمثل وتتحقق الأهداف بشكل أفضل.

3- الاعتراف بفضل المعلم وعلوه في مجاله: إذ طلب موسى من الخضر عليهما السلام أن يعلمه من علمه: عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؛ أي قليلا من علمه الغزير، وفي ذلك ثناء من المتعلم وتقدير واحترام واعتراف وحافز للمعلم للمزيد من البذل والعطاء.

4- أسلوب الحوار: وظهر جليا خلال كل أطوار القصة، سواء بين سيدنا موسى وفتاه أو بينه وبين الخضر عليهما السلام مع مراعاة ضوابط الاحترام والتواصل.

5- طلب الإذن في التعلم: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؛ فاستعمال سيدنا موسى “هل” مفتاحا لطلبه، ينم عن وعيه بأهمية التعلم من معلمه واحترامه لخبرته ومعرفته التي يفتقدها، وفي نفس الوقت يعبر عن امتنانه وتقديره لمكانته.

6- تقديم النصح والتوجيه عند انطلاق العملية التعليمية لضمان التفاعل الإيجابي: قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. فيبين له قيمة العلم وأهميته وجدية ما هو مقبل عليه حتى يكون مستعدا لمواجهة كل التحديات والصعوبات التي تعرفها مسيرة التعلم.

والنصيحة مفتاح العلم والعلم مفتاح الدين “وإنما الدين النصيحة، والنصيحة بذل للعلم. ولا خير إلا في عالم ومتعلم يعملان بعلمهما، فهما فقط يمكن أن يقيما الدين بإقامة النصيحة على كل مراتبها. فإن لم يكن للمسلمين إمام فالعالم والمتعلم – أي رجل الدعوة – هم الأرجى أن يعلموا الأمة كيف تتحرك لتقيم منها إماما” 8.

7- اللين والحزم حسب الاقتضاء: قال الإمام الرازي رحمه الله: “قول الخضر لموسى عليه السلام “وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا” نسبة إلى قلة العلم والخبر… ولكن المعلم إن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعا وإرشادا إلى الخير، فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم” 9.

8- حسن التعامل مع الخطأ (بيداغوجيا الخطأ): الصبر على الخطأ وحسن استثماره ومنح الفرصة للمخطئ ليتجاوزه قال أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لن تستطيعَ معيَ صبراً. مع ضرورة التفاعل الإيجابي للمخطئ والتأدب والتفهم في ذلك قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.

9- عدم مقاطعة المعلم أثناء الحديث باستفسار أو طلب فهم، فقد يتضمن الاسترسال المطلوبَ في سياقه: لا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.

10- طاعة وامتثال المريد لشيخه: وذلك من أسمى معالم الثقة بين المعلم والمتعلم والصبر على التعلم: لا أعصي لك أمراً.

11- وضع ضوابط وقواعد للتعلم: (بيداغوجيا التعاقد) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب رحمه الله: “وإزاء الرغبة الملحة من موسى عليه السلام الحريص على طلب العلم والمعرفة، يرضى الأستاذ أن يكشف لتلميذه عن بعض ما عنده، ولكنه يشترط لنفسه، كما اشترط التلميذ من قبل لنفسه، أن تكون صحبته غاية لطلب العلم، فيقول، بمعنى إن اتبعتني فعليك أن تلتزم الصمت” 10. فلا بد من وضع ميثاق ملزم لضمان بيئة تعليمية تعلمية سليمة وملائمة تحقق الالتزام في التفاعل والاحترافية في الأداء والفعالية في التعلم.

12- تدبير زمن التعلم: فقد كان الخضر دقيقا في الإجابة عن أسئلة سيدنا موسى وانتظار الوقت المناسب التزاما بميثاق العمل الذي وضع في بداية التعلم، فلا سؤال ولا جواب إلا حسب الضوابط المتفق عليها سابقا.

خاتمة

لقد أنزل القرآن الكريم وحيا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون رحمة للعالمين؛ بإخراج الناس من الكفر إلى الإيمان ومن ظلمات الجهل والباطل إلى أنوار العلم والحق واليقين. وبما أن مراعاة السياق شرط لازم لكل دعوة إلى التغيير، فقد جاء الكتاب الحكيم مخاطبا الناس وفق منطق التدرج والتسلسل المنطقي في مسلسل التغيير من البسيط إلى المركب ومن المستسهل إلى المستصعب. وكان من البدهي أيضا أن يعتمد أسلوبا يقوم على مقاربة حجاجية سلسة جاذبة فاختار أسلوب الوصف والحكي والسرد، وفق منهجية تعليمية وتربوية تشجع على التعلم وطلب المعرفة والفهم؛ فجاءت كثير من سوره تزخر بكثير من القصص والسير، وهو أسلوب اتخذته الدعوة الإسلامية منهجا في التربية والتعليم قصد اقتداء الناس بما ورد في القرآن الكريم من قصص وسير الأنبياء والرسل والصالحين. وتعتبر القصص في كتابنا العزيز عبرة لمن أراد أن يعتبر وأداة للتربية والتعليم وتعزيز البنية الأخلاقية للمجتمع الإسلامي لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111]، ومن أهم القصص التي يزخر بها القرآن الكريم في ذلك:

– قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66].

– قصة سيدنا إسماعيل مع أبيه إبراهيم عليهما السلام في بر الوالدين والامتثال لأمر الله وطاعته: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102].

– وصايا لقمان الحكيم عليه السلام في سورة لقمان المليئة بالقيم العقدية والتعبدية والأخلاقية: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴿13﴾ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿14﴾ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿15﴾ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿16﴾ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿17﴾ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿18﴾ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴿19﴾.

– سورة قصة يوسف عليه السلام في التربية على العفة والسمو بالنفس عن ملذات الحياة ونزواتها: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: 23].

– قصة ابنة شعيب عليه السلام في العفة والحياء وحسن الأدب في رد الجميل والمعروف فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص: 25].

– قصة نوح عليه السلام في الصبر والثبات والإخلاص وعدم اليأس والاستسلام في الدعوة، وجاء ذلك في أكثر من سورة: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 109]. فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 72]. وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ [هود: 29].

وخير ما يجمل الختام به؛ أن القرآن الكريم مدرسة تربوية تخرج منها أنبياء ورسل وصالحون وعلماء وأولياء… وآياته رسائل لتربية الإنسان وصناعة الحضارات والارتقاء بالأمم والمجتمعات.

وما أحوج الشيوخ والأساتذة والمدرسين والمعلمين والطلاب والمتعلمين في عصرنا إلى ولوج التكوين والتعلم في معهد الأرقم بن أبي الأرقم، ومدرسة لقمان والخضر عليهما السلام، وباقي الرسل والأنبياء والصالحين.


[1] عبد السلام ياسين. تنوير المؤمنات، ج2، ص 273.
[2] أخرجه البخاري، باب قول النبي ﷺ: يسروا ولا تعسروا (8/ 30)، رقم: (6125)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير (3/ 1359)، رقم: (1734).
[3] عبد السلام ياسين – الإحسان ج 2 – دار لبنان للطباعة والنشر – 2018 ص 11.
[4] معلم موسى عليه السلام – جمال نصار حسين https://sufism-247.blog
[5] فودة – المرشد في كتابة البحوث التربوية – 1988 – ص 43.
[6] محمد السيد الطنطاوي – التفسير الوسيط للقرآن الكريم – المجلد 1 – دار النهضة 1988 القاهرة، ص482.
[7] محمد بن عمر فخر الدين الرازي – تفسير الرازي، المجلد 3 – دار إحياء التراث العربي 2000 – ص 484.
[8] عبد السلام ياسين – المنهاج النبوي – دار إقدام للطباعة والنشر – 2022 ص 245، 246.
[9] محمد بن عمر فخر الدين الرازي – تفسير الرازي، المجلد 3 – دار إحياء التراث العربي 2000 – ص 485.
[10] مجلة السراج في التربية وقضايا المجتمع – المجلد 8 – عدد 2 – 2024 – ص 275.