التأسيس للنظام الديمقراطي مدخل استراتيجي لبناء دولة الحقوق والحريات
تميزت الوثيقة السياسية للجماعة بخطاب حقوقي أصيل، يمتح من ثوابت النظرية المنهاجية للجماعة التي تشكل المنطلقات الأساسية لفكرها السياسي ورؤيتها للتغيير، خطاب لم يخف التفاعل مع متغيرات الواقع الوطني والدولي في مجال حقوق الإنسان، ومنها التعاطي مع المواثيق والعهود الدولية بما يتلاءم والهوية الوطنية للمغاربة، كما يستحضر هذا الخطاب ثقل الماضي وواجب الحاضر وتحديات المستقبل في علاقته بالمسألة الحقوقية، التي تستوجب عملا مشتركا مع كافة الفاعلين من أجل مجتمع العمران الأخوي، في ظل وطن يتعايش فيه الجميع ويتسع لكل أبنائه، وذلك عبر البناء الجماعي لدولة الحقوق والحريات.
لقد حظي البعد الحقوقي في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والاحسان بمرتبة مهمة في استراتيجية التغيير السياسي المنشود، ويتضح ذلك جليا من خلال تموقع القضية الحقوقية في المحور السياسي الموسوم بالمحددات التالية: الحرية والعدل وحكم المؤسسات (ص 31). فبالاطلاع على هذا المحور، نجد المدخل الحقوقي يأتي في المرتبة الثانية بعد المدخل الدستوري في تشييد وبناء معالم دولة العدل والكرامة والحرية (ص 33)، مما يؤكد على أهمية القضية الحقوقية في المشروع السياسي للجماعة، كورش استراتيجي مصيري في التأسيس لنظام سياسي ديمقراطي.
سنحاول من خلال هذه القراءة من داخل الوثيقة السياسية، وباستحضار ثنائية الثابت والمتغير العمل على إبراز العلاقة التلازمية بين بناء دولة الحقوق والحريات والمدخل الدستوري، وكذلك سنعمل على رصد وتحليل أهم المقترحات العملية التي تناولتها الوثيقة في سياق التأسيس لنظام سياسي ديمقراطي يلتزم بالحقوق والحريات.
أولا: العلاقة التلازمية بين الدستور الديمقراطي وضمان الحقوق والحريات
تحت عنوان “دولة الحقوق والحريات” (ص 39)، اعتبرت الوثيقة السياسية أن العرض الدستوري لسنة 2011 انتهى بفشل ذريع لأنه لم يتمخض عن إرادة سياسية حقيقية، وكان من النتائج الوخيمة لذلك حالة من الانحسار الحقوقي، التي تدلل عليها طبعا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا؛ من خلال استمرار ظاهرة الاعتقال السياسي، وتغول السلطوية في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مع ترسيم المقاربة الأمنية، وحرمان المواطنين من الحقوق الأساسية، في ظل استشراء الفساد وحماية الريع وارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، وبذلك تؤكد الوثيقة بكل وضوح العلاقة التلازمية بين الحقوقي والسياسي.
ولعل هذا الترابط والتلازم بين المدخلين الحقوقي والدستوري هو ما عبرت عنه الوثيقة بالقول في الصفحة رقم 33 “إن بناء دولة العدل والكرامة والحرية يتوقف على إحداث قطيعة فعلية مع الاستبداد، وتوفير شروط وآليات جديدة تضمن حق الاختلاف، وتمكن الجميع من العيش تحت سقف دولة واحدة تكفل الحكم بدستور ديمقراطي، وترعى على أساس من اللامركزية والعدالة الاجتماعية حريات وحقوق كل المواطنين”.
لذلك نجد الوثيقة فصلت بتدقيق معالم المدخل الدستوري في تطويق الاستبداد، وذلك من خلال مدخل السلطة التأسيسية الجماعية التي من شأنها وضع عقد سياسي يلجم السلطوية من التمدد، ويفتل في تصور الوثيقة لمفهوم الدولة المنشودة والقائمة على مجموعة من المبادئ وأهمها:
1. مساواة الجميع أمام القانون، حكاما ومحكومين، وحماية حقوق وحريات كل المواطنين بواسطة نص الدستور والمؤسسات والآليات القانونية والقضائية، التي تسمح بمواجهة كل شطط من شأنه المس بالحقوق والحريات.
2. جعل كرامة الإنسان في المقام الأول.
3. جعل التعددية السياسية أساس العمل السياسي، مع ما يتطلب ذلك من ترسيخ لثقافة القبول بالآخر مهما كانت الاختلافات والتباينات. فالوطن يسع جميع أبنائه.
4. تحييد المساجد والمؤسسات الدينية عن الصراع الحزبي والانتخابي، ومنع احتكارها وتوظيفها لتبرير التسلط من قبل الدولة ومؤسساتها الرسمية.
ومن أجل بلوغ ذلك، لم تقف الوثيقة عند مستوى التشخيص والتحليل، بل تميزت بنفس اقتراحي وطابع واقعي، يتصف بالموضوعية في الطرح والاقتراح، وقد بلغ عدد المقترحات في المجال الحقوقي 39 اقتراحا سنحاول تكثيف مضامينها فيما يلي.
ثانيا: المداخل والمقترحات الأساسية لبناء دولة الحقوق والحريات
1. المصالحة الوطنية مدخل استراتيجي لجبر الضرر وطي ماضي الانتهاكات
الملاحظ أن الوثيقة وظفت مفهوم المصالحة والوطنية بدلا عن مفهوم العدالة الانتقالية، فمفهوم المصالحة يجمع بين ضمان حق الضحايا في الجبر الفردي والجماعي، وبين اعتراف الدولة بالانتهاكات الجسيمة، وفي ذات الوقت يهيئ الأجواء السياسية بمقاربة يغلب عليها طابع العفو وحقن الدماء بما يضمن عدم تكرار ماضي الانتهاكات، وفي هذا السياق تقول الوثيقة: “نقترح ما يلي: اعتراف الدولة بمسؤوليتها عن جرائم الاعتقال السياسي والإخفاء القسري والتعذيب، وفتح باب المصالحة الوطنية وجبر الضرر الفردي والجماعي” (ص 39).
2. تحقيق الحقوق والحريات السياسية والمدنية مدخل مهم لتحصين العملية السياسية
تناولت الوثيقة العديد من المقترحات العملية، التي من شأنها تحصين العملية السياسية، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضمان حرية الرأي والتعبير والتجمع والتنظيم، وحرية الصحافة وحمايتها دستوريا، وإشراك الإعلام في تخليق الحياة السياسية والتعريف بحقوق الإنسان، وتشكيل وعي مجتمعي ضد انتهاكات الماضي الجسيمة، وترسيخ الحكامة القضائية، وضمان الحق في المحاكمة العادلة وحماية السجناء وإدماجهم في النسيج الاقتصادي وتأهيل المؤسسات السجنية وجعلها فضاء للتربية والتعليم والتأهيل النفسي والمجتمعي والمهني، وتفعيل مبدأ سيادة القانون، وتيسير الدفع بعدم دستورية القوانين أمام مختلف المحاكم، إذا تعلق الأمر بالحقوق والحريات الأساسية.
3. ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها مدخل أساسي لمجتمع العمران الأخوي
اعتبرت الوثيقة السياسية أن تحقيق النهوض التنموي للمجتمع وتأسيس مجتمع العمران الأخوي، يتوقف على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها. ومن أجل تحقيق ذلك اقترحت الوثيقة في هذا الصدد العديد من المقترحات منها: ضمان الحق في التعليم العمومي الجيد والمنصف لكل فئات المجتمع والرفع من الإنفاق العام لتجويد مخرجاته، وإشراك المجتمع في النهوض بالعملية التعليمية، وتأمين الحق في الصحة والتطبيب لكل المواطنين وإعادة الاعتبار للقطاع العام، والعمل على تعميم الاستفادة من التغطية الصحية، وضمان الحق في الشغل، وتدريب الموارد البشرية للتخفيف من ضعف كفاءة اليد العاملة، ودعم الباحثين عن العمل، وتعويض الفاقدين للشغل لفترة معقولة، والعمل على انخراط جميع الأجراء في منظومة الضمان الاجتماعي، مع دعم التشغيل الذاتي. وحماية مؤسسة الأسرة باعتبارها محضنا أساسيا للتربية والتنشئة الاجتماعية، ودعم الأسر الفقيرة والشباب الراغب في الزواج ماديا، وبتوفير مساكن بالإيجار، وفق صيغ تعاقدية منخفضة التكلفة. والعناية بالنساء عموما وخاصة اللواتي يعانين وضعية هشاشة، وإزالة كافة أشكال التمييز ضدهن، ليساهمن في النهوض بدورهن داخل المجتمع باعتبارهن حافظات للأجيال، وحماية حق الطفولة والحق في التنشئة الاجتماعية، وضمان حقها في التعليم والتربية والترفيه، وفي الرعاية الصحية والاجتماعية، والاهتمام بفئة الشباب وتأهيلها عبر برامج مندمجة تجمع بين بناء الجسد والعناية بالروح، وتحصينها من الاستلاب الثقافي.
يتضح أن الوثيقة السياسية للجماعة في بعدها الحقوقي كانت قريبة للواقعية في الاقتراح، والموضوعية في التشخيص والعمق في التحليل، كما تميز خطابها بالإجرائية والنفس الحقوقي الذي يجعل منها أرضية للحوار والتفاعل والمطارحة مع الآخر، فهي وثيقة مفتوحة على التجويد والتطوير تتضمن مقترحات وأفكارا حقوقية تعيد الاعتبار للحقل الحقوقي، وستسهم لا شك في الدينامية الحقوقية الوطنية في أفق بناء جبهة حقوقية متينة تدافع عن حقوق الإنسان وتصون كرامة المواطن وتضمن حقوقه الأساسية.