مقدمة
الدنيا دار بلاء. قال اللّه تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا 1 . يقول الإمام المجدد رحمه الله عن الحكمة في ذلك: وجود الفتنة المتعددة الوجوه، فتنة الشيطان والإنسان والسلطان عامل إحياء) 2 . فبدون فتنة لا معنى للجهاد لاقتحام العقبة، ولا مكان للجزاء في الدار الآخرة. يقول الإمام رحمه الله: يحالف الشيطان نوازع الشهوانية والغضبية العدوانية الأنانية في الإنسان، ويستغلها ليمارس أشغاله. وهكذا يفتتن الإنسان من داخله بنفسه ونوازعها، وبالشيطان ونزغاته، يلتئم الصوتان ويتمازجان. ويفتتن الإنسان من خارجه، يفتنه الإنسان من بني جنسه، ويفتنه السلطان) 3 .
شياطين الجن والإنس وهوى النفس، أعداء للمومن ولجماعة المومنين. قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ 4 . يقول الإمام المجدد في هذا الصدد: وشاء ربك تبارك وتعالى أن يكون شياطين الإنس أسبق في محاربة الفطرة من أبالسة الجن لكونهم ألصق بالجنس وأشبه وأدخل، كما شاء عز وجل أن يكون الهداة من الإنس، أنبياء ومربين، من الإنس لا من الملائكة. وكما كان شياطين الإنس ولا يزالون أعداء الفطرة وملجميها وآكليها، كذلك كان المهتدون الهادون ولا يزالون إلى يوم القيامة أولياء الفطرة ومحرريها ومحييها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل على دين خليله، فلينظر أحَدكم من يخالل) 5 .
من هنا تأتي الحاجة الملحة للتحصين، وسد الثغرات على هؤلاء الأعداء. فما هو التحصين وما هي أهميته؟
التحصين لغة
التحصين من حصَّنَ يحصِّن، تحصينًا، فهو مُحصِّن، والمفعول مُحصَّن.
حصَّن المكانَ: أحصَنه، منعه وصانه، بنى حوله حِصْنًا. لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ منيعة: يصعب الوصول إليها. حصَّن فلانًا: اتّخذ الحيطة لوقايته من المرض ونحوه، حماه وصانه وحفظه: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحَصِّنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ. الحصن فيه معنى الحصانة والمناعة والصيانة والحماية والوقاية والحفظ.والتحصين من الفعل حصّن المضعف الذي يدل على التكثير والمبالغة في الفعل.
وكذلك الأحاديث النبوية تحث على التحصين، بنفس الكلمات أو ما يماثلها. كما سيتضح لاحقا.
التحصين اصطلاحا
فما هو التعريف الشرعي للتحصين؟ ينطلق التعريف الشرعي للتحصين من القرآن الكريم الذي يحض على التحصين من خلال الاستعاذة بالله عز وجل. كما سنرى في الآيات الكريمة لاحقا. وينطلق من المعنى اللغوي لهذه اللفظة القرآنية. استعاذَ بـ يستعيذ، اسْتَعِذْ، استعاذةً، فهو مُستعيذ، والمفعول مُستعاذٌ به. اِسْتَعاذَ بِهِ مِنْ شَرِّ النَّاسِ: لَجَأَ إِلَيْهِ، اِعْتَصَمَ بِهِ، استجار به. اِسْتَعاذَ بِاللَّهِ: قالَ أَعوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ.
يقول بن كثير في تفسير سورة الفاتحة: ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة. انظر الآيات ضمن العنوان التالي.
التحصين في القرآن الكريم
يقول الإمام المجدد رحمه الله: في القرآن والأدعية المأثورة والأذكار الخاصة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم شفاء لما في الصدور. تسمع المسلمة والمسلم قول الله تعالى:)قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور 6 . وقوله جل شأنه:)وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمومنين 7 . ويسمع مثل هذا الحديث النبوي الشافي، فيصدق، ويمتثل، ويستشفي بالآية والدعاء والذكر لأمراض جسده، لا يتجاوز ذلك. ذلك حظها إن لَم يَرتفِعْ فهمها لتعلمَ أن الذي في الصدور هو القلب، وأن الاستشفاء بالآية والدعاء والذكر الخاص من أسقام الجسد إنما هو رخصة وصدقة على العباد لا ينبغي أن تعطل ولا أن تزاحم أسباب الاستشفاء من أسقام الجسم التي وضعها الله عز وجل ضِمْن سنته الكونية) 8 .
وهنا نذكر بعض ما جاء في موضوع التحصين في القرآن.
1- الأمر بالاستعاذة بالله
قال اللّه تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين 9 . فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر. ثم قال: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم 10 . وقال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون 11 . وقال تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم 12 .
ويتناسب البعد الثلاثي (ثلاث آيات) مع الأعداء الثلاثة: النفس، وشيطان الإنس، وشيطان الجن. يقول بن كثير في تفسيره للآيات: لكن الذي ذكر في الأعراف أخف على النفس مما ذكر في سورة فصلت، لأن الإعراض عن الجاهل وتركه أخف على النفس من الإحسان إلى المسيء، فتتلذذ النفس من ذلك، ولا تنقاد له إلا بمعالجة، ويساعدها الشيطان في هذه الحال، فتنفعل له، وتستعصي على صاحبها، فتحتاج إلى مجاهدة وقوة إيمان، فلهذا أكد ذلك هاهنا بضمير الفصل والتعريف باللام فقال: فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.
وقد جاء الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم في مواضع أخرى، كما في قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ 13 . وقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ 14 .
وأُمِرَ بها النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة مواضع من كتاب الله، والأمر لـه أمر لأمته، وقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ 15 . وقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ 16 . وقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَٰهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِالناس 1 – 6..
2- القرآن كله هدى وتحصين
يقول الله تعالى: قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور 17 . ويقول جل شأنه: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمومنين 18 .
يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى: نظرا لما لبعض السور والآيات القرآنية من فضائل وفوائد عاجلة وآجلة كالتحصين والحفظ والنجاة من أنواع الأذى، وتفريج الكربات والمغفرة ورفع الدرجات وغيرها، فقد وردت في فضل قراءتها أحاديث نبوية شريفة، فعلى المؤمن المداومة على تلاوتها وجعلها وردا يوميا وهي…) 19 . ويقول أيضا ألا وإن عافية النفوس، وشفاء العقول، وحصانة الكائن الناشئ في حضن الأسرة المسلمة، السليمة مبدئيا، إنما تستمد من القرآن. يكون حرف القرآن المقدس أول ما يطرق سمع الصبي والصبية، تلاوة تتغنى بالآيات بدل الهراء، وأول ما يلامس نفسه) 20 .
التحصين في السنة النبوية
ما جاء مجملا في القرآن عن التحصين نجده في السيرة النبوية الشريفة متمثلا في أدعية كثيرة للتحصين، وفي مختلف المواقف. والغاية الأهم من الأسرار التي أودعها الله تعالى في هذه الأدعية هي شفاء ما في الصدور وهو القلب، وليس فقط الاستشفاء من الأمراض الجسدية وقضاء الأغراض الدنيوية، وإن كانت مشروعة رحمة بالناس، كما نبه إلى ذلك الإمام المرشد رحمه الله 21 . وهنا نذكر جانبا من هذه الأدعية الكثيرة.
1- ما جاء في الاستعاذة
· الاستعاذة من كيد الشياطين
عند الإمام أحمد، سأل رجل عبد الرحمن بن خَنْبَشٍ: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قال: جاءت الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية، وتحدرت عليه من الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرعب منهم، قال جعفر: أحسبه قال: جعل يتأخر، قال: وجاءه جبريل فقال: يا محمد، قل، قال: ما أقول؟ قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن؛ قال: فطفئت نار الشيطان، قال: وهزمهم الله.
· التعوذ من شياطين الإنس والجن
وفي مسند الإمام أحمد، “عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: أوللإنس شياطين؟ قال: نعم.” وقال صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين: “ألم ترَ آيات أنزلت هذه الليلة لم يُرَ مثلهن قط: قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس” 22 .
· الحرز والوقاية من الشيطان
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكان له حرزا من الشيطان يومه حتى يمسي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوا بيوتكم مقابر. إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة. رواه مسلم عن أبي هريرة.
2- ما جاء في الحفظ عموما
· مراعاة حقوق الله تعالى
عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية الإمام أحمد: احفظ الله تجده أَمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك فـي الشدة، واعلم أَن ما أَخطأَك لم يكن ليصيبك، وما أَصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أَن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسرِ يسرا.
· التطهر ظاهرا وباطنا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض. والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغْدو؛ فبائع نفسه فَمعتقُها أو مُوبقها” 23 .
يقول الإمام ياسين رحمه الله: أعلمنا اللّه عز وجل أن الشيطان عدو لنا، وعلمنا كيف نتخذه عدوا، وكيف نستعيذ باللّه منه. الشيطان له مأوى في داخل كياننا، له عش، له حلفاء. تخبث النفس حين لا تتزكى ولا تتطهر، فيجد الشيطان فيها ركنا ممهدا، أو تنجس بالكفر والنفاق فكلها ظلام وكلها مملكة إبليس) 24 .
· ذكر الله حصن حصين
ومن حديث طويل: “… وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله…”. يقول الإمام المرشد رحمه الله: ذكر الله به يتقدس الكيان القلبي للمؤمن، ويكون التقديس أعظم إن كان ذكر الله أدومَ. ويكون ذكر الله أعظم إن كانت دواعي الغفلة وأزمة الموقف أشدَّ. وبهذا يكون الذكر في الجهاد، الذكر عندما يخاف الناس ويزدحمون على مخارج الأمان ومهارب الجبن، أكبر الذكر) 25 .
[2] مقدمات في المنهاج: 68.\
[3] مقدمات في المنهاج: 66.\
[4] الأنعام: 112.\
[5] سنة الله: 272.\
[6] سورة يونس: 57.\
[7] سورة الإسراء: 82.\
[8] تنوير المومنات: 357.\
[9] الأعراف: 199.\
[10] الأعراف: 200.\
[11] المؤمنون: 96 – 98.\
[12] فصلت: 34 – 36.\
[13] فصلت 36 – 37.\
[14] النحل 98-100.\
[15] المومنون 97 – 98.\
[16] الفلق 1 – 5.\
[17] سورة يونس: 57.\
[18] سورة الإسراء: 82.\
[19] سور وآيات فاضلة: 11.\
[20] حوار مع الفضلاء: 155.\
[21] تنوير المومنات: 357.\
[22] مسلم.\
[23] رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.\
[24] مقدمات في المنهاج: 66.\
[25] الإحسان 1: 260.\