مشهد الاستئذان
الحديث عن النخبة حديث عن حيوية المجتمع وبلورة أي مشروع، هي مشتل القيم والأفكار، لكنه مجرد “أوكسجين فكري” لأن البحث والتساؤل السوسيولوجي للنخب ليس مادة جذب معرفي.
فماذا نعني بالنخبة؟ ما امتداداتها في النسق السوسيوسياسي المغربي؟ ما إمكانات الانخراط أو الخروج منها؟ وهل فعلا نخبنا تستشعر طبيعة التحديات الداخلية والخارجية والعلاقات الدولية؟ ولماذا أصبحت الأحزاب تعيش الشرود الفكري لاستنبات النخب، ولا تستطيع احتضان النخب الصامتة المهمشة التي تحلق خارج السرب؟
في التحديد اللغوي
“النخبة” في لغات مختلفة تدل على الندرة والقلة، الاصطفاء والاختيار والانتخاب والقطف من رأس الشيء أومن أساسه، خصيصة الشيء الأكثر تمييزا له عما عداه على أساس عدم الاختلاط مع ما هو عام ومبتذل.
جاء في لسان العرب (نخب، انتخب الشيء، اختاره، ونخبة القوم خيارهم)، ومفهوم الخيار في الحديث: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام)، يفيد أن الخيار نخبة يستفيد منهم المجتمع كيفما كانوا، فقوتهم وتمكنهم للناس.
إذا النخبة هي خيار الأمة وهي في خدمة المجتمع، تنطلق من أرضية (المصلحة العامة)، ويبقى الأفق الأمثل: (إذا فقهوا) المرتبط بمفهوم الحرية والاختيار.
إن معنى “الاختيار” و”الخيار” نجده في الأصل اللاتيني الشعبي exlegere، فنخب بمعنى، قطف واختار وجمع، ونفس المعنى في القواميس الفرنسية، ومنه اشتقت الكلمة الحديثة Elite.
ومن معاني “النخبة” في التصور العربي والإسلامي، “الصفوة”، (صفا فلان القدر أي أخذ صفوها واستخلص ما فيها)، ومن أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم (المصطفى المختار)، والصفي هو النقي من كل شيء، و”النخبة هي المختار من كل شيء”.
شيء من تاريخ النخب وتحولات المجتمع المغربي
إن التفاعلات التي عرفها المغرب من حيث العمق الإفريقي والعلاقة بالأندلس والامتداد المشرقي، جعل نخبه متنوعة ومتناغمة، فقد كان إنتاج النخب في المغرب يثير غيرة المشرق، وهذا ما تشير إليه مقولة التعليق على كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه، (هذه بضاعتنا ردت إلينا).
ومن الأحداث التاريخية المغربية التي غيرت مفهوم النخبة و”بنياته وإبدالاتها”، والتي لا نقف عندها مليا، هي نكبة “حرب إيسلي” التي كانت صدمة للنخبة المغربية، طرحت سؤال انهيار الذات مقابل تقدم الآخر.
وقامت نخبة من الفقهاء والمفكرين بوضع مشاريع دساتير لمواجهة هذا المنعطف التاريخي، منهم (الشيخ علي زنيبر، الشيخ الطرابلسي، وجماعة لسان المغرب)، لكنها ظلت مطالب إصلاحية فقط، لعدم قدرة النظام على مواجهة أطماع الأجنبي وفساد النظام الجبائي وعدم مسايرة المجتمع للمطالب.
هكذا وضعت الحماية قطيعة تدريجية مع النموذج المغربي في إنتاج النخب، وأفرزت شريحتين مختلفتين: الأولى بجلباب المؤسسات المخزنية مع ما فيها من محافظة، والثانية حداثية بجلباب فرنسي.
هذه التناقضات الثنائية تجلت في “الحزب الأم” الذي أفرز نخبا مختلفة: تيار علال الفاسي، بلافريج، القادري، ثم تيار ابن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله إبراهيم، بينما ظل النظام يلعب دور الحكم، أحيانا بالتدخل لخلق التوازن وتعديل مواصفات النخبة (بالاستنبات أو الاحتضان أو التحييد).
وقد عرفت النخبة تحولات بنيوية مع نهاية السبعينيات، وأصبحت إشكالية المفهوم وماهيتها وأدوارها، خاصة مع ظهور الأزمات التي أفرزت تغيرات جذرية.
لكن على مستوى البنيات ظل التوجه الاقتصادي يسير على نفس النمط الإنتاجي السابق، مع انفتاح بداية الثمانينات على اقتصاد السوق والرأسمال الأجنبي، وترسخ الاختيار الليبرالي، وارتبط المغرب بصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية لتحديد السياسة الاقتصادية للبلاد، واضطربت الموارد المالية الخارجية وظهرت نخب اقتصاد الظل.
وبدأت الاختلالات الهيكلية تنتج المفارقات: مشكل التعليم (بكل جوانبه البشرية واللغوية والبيداغوجية)، الهجرة القروية والخلل الديمغرافي…مشاكل الملكية الفلاحية (أراضي الجموع، السلاليات)، قساوة العيش بالبادية والمناطق النائية، نقص أو انعدام الخدمات والبنيات الأساسية، الفوارق الطبقية بين البادية والمدينة…
هنا يأتي دور المجتمع المدني من خلال الهيئات الحقوقية والجمعيات الجهوية التي بلغ عددها تقريبا (100 ألف جمعية)، واعتبر شريكا في التنمية وتعبئة الموارد ومعالجة المشاكل المختلفة، وأصبح قوة اقتراحية زاد من اعتبارها تقنين الدستور الجديد 2011 الذي تبنى ديمقراطية تشاركية من حيث إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية.
نسقية إنتاج النخب
رغم تعدد الاشتغالات المعرفية على النخبة والبحث في شروط إنتاجها وأدائها الاجتماعي والسياسي، فلا زالت الإشكالات مطروحة ترتبط بموقع النخب في السلم الاجتماعي وأدائها وتأثيرها في المجتمع، ويستعاد النقاش مع الحراك الاجتماعي، فهناك من يلتحق وهناك من ينسحب، ليس هناك نمط إنتاج ثابت، فالنخبة في تبنينها هي حراك مستمر، فكم من المثقفين خارج تصنيف النخبة ؟ لهذا يصعب وضع تموقع للنخب نتيجة التداخل بين المجالات إلى حد التناقض أحيانا، بين تصوراتها وانتمائها إلى فضاءات وتنظيمات مخالفة لها. ليست الثروة والثقافة هي المقاييس الوحيدة للنخبة، فالتعيين قد يحدد طريقة الوصول إليها، أو يمكن الحديث عن” النخبة المركز” و”النخبة الهامش” “المحيط”، أو بتعبير باريتو “نخب أصلية” و”نخب فرعية”. إن النخب تبدو شبيهة بـ”الأقليات الاستراتيجية”، فهناك النخبة الاستشارية ونخبة الوزراء، ونخبة العلماء ونخبة المثقفين والبيروقراطيين والنخب المعارضة. ويتخذ مفهوم “النخبة السياسية” ثراء، حسب جون واتربوري، لأنه يوجد في مواقع استراتيجية.
فهناك الصراع والتوجس بين النخبة السياسية والفكرية، فالأولى تهتم بالشأن العام وتتخذ القرارات، والثانية تبتكر الأفكار، تعارض بين من يدبر الواقع وبين من ينظر له.
هكذا يصبح الصراع بين النخب، أو كل نخبة تشتغل في فلك وسياق يختلف إذا لم يتناقض مع الأخرى، فقد نجد دينامية “النخبة الاقتصادية” وتعثر أو تغييب نخب أخرى وبالتالي تغيب “نسقية النخب”، أو ما يمكن أن نسميه “برازخ النخب”، وهوما يتحدثون عنه بـ”الانسجام”، يمكن نسميه أيضا “التناغم” حتى يكون “الإيقاع المجتمعي” واحدا ولا يكون النشاز في الصوت، فنخب المجتمع ترتبط بمنظومة ولها بوصلة واحدة، وتختلف الاستراتيجيات.
أما بعد
إن النخب الحزبية نخب الشخصنة لا المأسسة، حيث أصبحت الأحزاب تسمى بالأسماء، “حزب فلان”، والأفكار ترتبط بالمحاباة لأصحابها لا لمضمونها.
فالمفروض من النخبة أن تطلع بمهام التجديد والتغيير ونشر الوعي ومحاربة “النخبوية” والتمركز حول الذات، وأن تغير نظرتها لملامسة قدرات الشعوب التغييرية والالتحام بقضاياها وتجاوز نعوت الهامشية والإقصاء.
فلماذا لم تعد أحزابنا تنتج مفكرين أو مشروع مثقفين جدد؟ ولماذا يتم إقصاء مثقفين غير حزبيين؟ ولماذا لم تعد الأحزاب مدارس للفكر، تساهم في وضع المشاريع الأساسية للبلاد؟