بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم إننا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء حزننا وذهاب همنا وغمنا، آمين يا رب العالمين.
الموضوع “التخلق بالقرآن” أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يخلقنا بأخلاقه وأخلاق كتابه وأخلاق نبيه وأحبابه تكرما منه وتفضلا، إنه سميع مجيب.
أيها الأحبة، إن من يستقرئ أوضاع المسلمين والبشرية جمعاء، يلاحظ أن أخلاق القرآن في تلاش واندثار وتناقص تدريجي، فقلّ أن تجد من يتصف بالصدق والإخلاص والشجاعة والمروءة والكرم والسخاء والعدل والإحسان، والإحسان إلى الجار.. وغير ذلك من مكارم الأخلاق. وأخلاق الشياطين حلت محل أخلاق القرآن؛ الغرور، الخداع الكذب، الزور، البهتان، الكبر، العجب، الأنانية، الشح.. وما شاكل ذلك من أخلاق الشياطين، والسبب هو أن أهل القرآن انزووا على أنفسهم وتركوا المجال فسيحا واسعا لشياطين الإنس والجن يعيثون في الأرض فسادا.
فهل من الممكن إصلاح الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها واكتساب أخلاق القرآن؟ هذا أمر لابد أن يتحقق بإذن الله سبحانه وتعالى عز وجل إن عدنا إلى كتاب ربنا وعقدنا الصلح معه وعكفنا عليه آناء الليل وأطراف النهار، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم، فلما سئل ما المخرج منها؟ قال كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم.. إلى آخر الحديث المعروف المروي عن سيدنا علي كرم الله وجهه.
المخرج هو كتاب الله سبحانه وتعالى عز وجل، ثم إن الشر في البشر ليس أصيلا وإنما هو طارئ، لقد خلق الله تعالى الإنسان على الفطرة؛ فِطْرَتَ اَ۬للَّهِ اِ۬لتِے فَطَرَ اَ۬لنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِ۬للَّهِۖ، ولكن ماذا حدث؟ جاء في الحديث القدسي الذي يرويه الإمام أحمد، يقول فيه الحق سبحانه عز وجل “خلقتُ عبادي حنفاءَ فاجتالتْهم الشياطينُ فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا” والحديث في صحيح مسلم. اجتالتهم أي صرفتهم عن دين الحق، فالشر طارئ في الإنسان، يمكن إزالته ومحوه إن كان في الإنسان القابلية.
كلمة وردت عن الإمام مالك، رحمه الله سبحانه وتعالى عز وجل، وهي من نور النبوة، قال رضي الله عنه: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصْلَح أولها”، بماذا صلح أولها؟ القرآن الكريم، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عز وجل هدى ورحمة ونورا وفرقانا وبيانا وتبيانا لكل شيء، تقمصه الصحابة رضي الله تعالى عنهم فانطلقوا يغزون به العالم، وتكونت الأمة الإسلامية التي كانت خير أمة أخرجت للناس على هذه الأسس، وأخبر كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فسئل: من هم هؤلاء الغرباء؟ قال: الذي يصلحون ما أفسد الناس، أو الذين يصلحون إذا فسد الناس. إذن فهناك وعد بأن الأوضاع ستتغير وأن الأمة ستعود إلى رشدها، وتستأنف حياتها الإسلامية كما حدث في الصدر الأول من الإسلام، والقرآن هو المفتاح؛ ففيه سعادة الناس إن آمنوا به واتبعوه.
المعركة بين الشيطان وبين الإنسان معركة ابتدأت مع سيدنا آدم عليه السلام، قال الله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ. إذن من اتبع هدي الله تعالى فهو مأمون من الضلال ومن الشقاء، إذن سيسعد دنيا وأخرى.
هذا القرآن الذي أحيى الله سبحانه وتعالى به الأمة، ماذا يترتب عن التخلق بأخلاقه وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه؟ لا يمكن أن نحصي المزايا والثمرات والنتائج التي تترتب عن صلحنا مع كتاب ربنا سبحانه وتعالى عز وجل. فإذا تخلق الإنسان بأخلاق القرآن، أصبح من أهل الله وخاصته كما جاء في الحديث “أهل القرآن هم أهل الله وخاصته” وبهذا التخلق يكتسب الخيرية والأمة كلها تكتسب الخيرية “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”، كنتم خير أمة أخرجت للناس، وفي القرآن شرف لمن تخلق بأخلاقه، شرف ورفعة وعزة وكرامة ومجد وفخر لمن تخلق بأخلاقه. قال الله تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ، فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِىٓ أُوحِىَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ، فالقرآن شرف به النبي صلى الله عليه وسلم وشرفت به أمته، ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؛ وقومه هو كل من آمن به صلى الله عليه وسلم.
بالتخلق بالقرآن يكون الإنسان في منأى عن الانحراف، لأن القرآن جعله الله سبحانه وتعالى عز وجل هاديا للتي هي أقوم، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم؛ في المعتقدات، في السلوكيات، في المعاملات، في الأحوال، يعني ليس هناك ما هو أحسن في الهدي من كتاب ربنا سبحانه وتعالى عز وجل.
إذا كان المسلمون اليوم يمدون أيديهم للأيديولوجيات، للأفكار والمناهج الوضعية، يلتمسون من خلال تطبيقها إصلاح أحوالهم، عبثا يحاولون، فلا صلاح للأمة إلا بالعودة إلى كتاب الله عز وجل. بالتخلق بأخلاق القرآن يصبح لدى الإنسان نور يمشي به في الناس، يحييه الله تعالى بعد موات، فيكون له نبراسا يضيء الطريق للناس أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ. والقرآن سماه الله سبحانه عز وجل نورا.
بالقرآن يصبح الإنسان محفوظا من كل شر ومن كل أذى دنيا وأخرى مصداقا لقوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. فإذا كان الله سبحانه وتعالى عز وجل تعهد بأن يحفظ القرآن، فمن كان في صدره القرآن فهو محفوظ كذلك بحفظ القرآن.
فعندما نطرح السؤال: من يحفظ من؟ هل نحن من يحفظ القرآن أم أن القرآن هو الذي يحفظنا؟ الجواب أن القرآن هو الذي يحفظنا، ولكن إن نحن حفظناه؛ إذا حفظناه نصا وتطبيقا وتدبرا وعملا وتنفيذا تصبح الأمة الإسلامية محفوظة بحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى عز وجل.
بالتخلق بأخلاق القرآن يغدق الله سبحانه عز وجل الأرزاق المادية والمعنوية. قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فتحنا عليهم بركات؛ خزائن الله تعالى تفتح للمؤمنين إذا طبقوا حكم الله سبحانه وتعالى عز وجل، الآية كذلك تتحدث عن اليهود والنصارى وكذلك المسلمين عامة لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم؛ إذا لو طبقنا ما أنزل إلينا من ربنا لأصبح الخير فائضا على الأمة، لأكلنا من فوقنا ومن تحت أرجلنا، والله تعالى يأمر السماء تعطي من خيرها ويأمر الأرض فتنبت زرعها وخيرها.
بالقرآن يتطهر الإنسان من الأمراض القلبية، لأن الله سبحانه وتعالى جعله شفاء؛ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. وأهم ما يترتب عن التخلق بأخلاق القرآن هو اقتداؤنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شرف وأي شرف؛ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة.
السؤال المطروح: كيف ندخل إلى القرآن؟ ما هي الأبواب التي تدخلنا إلى الله عز وجل؟ لأننا نرى أن كثيرا من الناس يحفظون كتاب الله عز وجل وأخلاقهم أخلاق الشياطين. إذا ما هي المفاتيح لتشرب نور القرآن وروح القرآن؟ فللقرآن مفاتيح.
الصحابة رضي الله تعالى عنهم أوتوا الإيمان قبل القرآن، إذا مفتاح الدخول على القرآن هو اكتساب الإيمان، القرآن يزيد الإيمان ولكن الذكر يجدد الإيمان، “جددوا إيمانكم، قيل يا رسول الله: وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله”، فهي تجدد الإيمان.
الزيادة لا تكون إلا إذا كان هناك رصيد، فلا بد من كسب رصيد من الإيمان ليتجدد إيماننا. والإيمان يتجدد بكثرة الذكر، فقد أمر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم به فقال: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، ويتجدد بالصحبة “إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها”، ومن المفاتيح التي أمر القرآن باستعمالها أنه دلنا على الصحبة؛ واتبع سبيل من أناب إلي، واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا.
بيننا وبين القرآن وبيننا وبين السنة مسافة، من يوصلك إلى القرآن ومن يوصلك إلى السنة؟ وأمتنا أمة السند، فلابد من السند، والسند هو الصحبة؛ السند في القرآن، السند في الحديث، السند في الأحوال؛ أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
مما دلنا الله عز وجل عليه في تشرب أخلاق القرآن تدبر القرآن، أي قراءة القرآن بتدبر، ومن مفاتيح التخلق بأخلاق القرآن الدعاء، وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم “اللهم اهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت”، “اللهم حسن خُلقي كما حسنت خَلقي”.. وما أكثر الأدعية الواردة في القرآن؛ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة.
ومما يعين على تقمص روح القرآن أداء العبادة بخشوع وإخلاص وإخبات؛ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أيّ صلاة هذه؟ قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، فلكل عبادة ثمرتها، وثمرات العبادات هي الأخلاق، إذا أدينا هذه العبادات كما أمرنا أن نؤديها في قلوبنا وسلوكنا.
أيضا مما يعيننا على تقمص روح القرآن ملازمة مجالس الإيمان؛ بهذه المجالس يستقي بعضنا من بعض أخلاق القرآن ويتأثر بعضنا ببعض، فلا بد لمن يتصدون للدعوة إلى الله عز وجل أن يهيئوا برامج ويرتبوا محطات ومحاضن لهذه التربية للتخلق بأخلاق كتاب ربنا سبحانه وتعالى عز وجل، وهذه المحاضن ليس من أجل الخلاص الفردي إنما يتخرج منها المؤمنون ليزحفوا في الأمة لنشر نور القرآن وهداية القرآن وروح القرآن.
كيف انتشر الإسلام تاريخيا في إفريقيا، وكيف انتشر في آسيا الوسطى والشرق الأقصى؟ فمعظم البلدان هنا وهناك لم يفتحها المجاهدون وإنما ذهب إليها الدعاة فنشروا فيها الإسلام بأخلاقهم، بعبادتهم، بأحوالهم الربانية، تأثر الناس بهم فدخلوا في دين الله أفواجا.
ثم إن إقامة هذه المحاضن التربوية لا تستهدف فقط تكوين الأفراد، فلا بد من تغيير المجتمع، لا بد من السعي لإقامة دولة القرآن التي تحمي أخلاق القرآن، وبدون دولة القرآن تبقى الأحوال كما هي عليه، لأن المؤمنين الذين يتصدون للدعوة قد يؤثرون في بعض الناس ويجلبونهم إلى دعوة الله سبحانه عز وجل، ولكن التيار المعاكس بما له من إمكانيات هائلة تبقى الغلبة له، فلا بد من تصحيح وضع المسلمين أولا والإنسان بإقامة دولة القرآن من أجل حماية أخلاق القرآن، فيتعاضد وازع السلطان مع وازع القرآن، فوازع القرآن وحده لا يكفي، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
نسأل الله سبحانه وتعالى عز وجل أن يخلقنا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهله وخاصته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
فيما يلي شريط لفعاليات مجلس النصيحة الجامع يوم السبت 22 ذو القعدة 1442 / 3 يوليوز 2021