إن من كرم الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للخير تهل الواحدة تلو الأخرى، منحها لتجديد العهد، والعزم، والإيمان. مواسم يجول المؤمن بين خيراتها ونفحاتها، يغنم ويغترف إن فاته خير وعطاء ما كان في قبلها.
وها نحن اليوم ننهل من نفحات شهر رمضان، شهر الخير والرحمات، شهر عظمه الله تعالى وخصه بنزول كتابه الكريم، شهر التقت فيه الأرض بالسماء وارتبطتا برباط من نور، نور القرآن الكريم. وقد شرع الله عز وجل لنا صيامه وقيامه، وحثنا فيه على الجد والاجتهاد في اكتساب الحسنات، والمسابقة إلى الخيرات، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة، 185).
علاقة وطيدة تلك التي تربط بين رمضان والقرآن الذي أنزله الله تعالى هدى للناس، فمن أخذ بهديه، فقد اتبع وسلك الهدي الكامل. وهو المقصد والمغزى الذي من أجله أنزل القرآن، إنما أنزل للتخلق بأخلاقه قولا وفعلا ومعاملة.
ذلك هو الهدي الذي أراد الله تعالى لعباده المؤمنين؛ التخلق بأكمل الأخلاق، وهي تلك التي كان يتحلى بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم (القلم، 4).
فقد كان أحسن الناس خلقا وأكرمهم وأتقاهم، وقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: “كان خلقه القرآن” (رواه أحمد).
وعن صفيَّة بنت حيي رضي الله عنها قالت: “ما رأيت أحسن خُلقًا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم” (رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن).
شهادات نستشف منها أنه عليه الصلاة والسلام كان في مسلكه الخُلُقي محققاً لأدب القرآن في كل ما أحبه الله من الصفات الطيبة والأخلاق العالية، متبعا لما فيه من أوامر ونواهي، وكان من أكمل أخلاقه دعاؤه الدائم لله أن يحسن أخلاقه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم كما أحسنت خَلْقي فأحسن خُلُقي” (رواه أحمد).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق” (رواه أبو داود والنسائي).
إن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل ما يزكي به المسلم نفسه، وهو القدوة المثلى للمؤمنين إلى يوم القيامة، وقد جعل الله عز وجل طاعته واتباعه والتأسي به شرط صدق الإيمان فقال عز وجل: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (آل عمران، 31).
ونحن في هذا الشهر الكريم نورد بعضا من شمائله وهديه بغية رفع الهمم وشحذ العزائم للتأسي والسير على خطاه صلى الله عليه وسلم، لنزاوج بين الأخلاق والعبادة فننال الأجر و الثواب.
هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان
كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل امتثالا لأمر الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) (المزمل)، وكان يرتل القرآن الكريم ويحث على ترتيله، كما كان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وكان أحسن الناس تلاوة للقرآن، وأجمل من قرأ القرآن ورتله ترتيلاً.. فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة أي بالمطر حين تخالطه الريح فينزل مدراراً” (الصحيحين).
هذا الحديث قاعدة في الجود النبوي، والجود في الشرع كما عرفه الحافظ ابن حجر رحمه الله بأنه: (فيه – أي رمضان – أن مدارسة القرآن تجدد العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة..) (1)؛ جود بالعبادة وبقراءة القرآن.. ثم بالمال والصدقة.
كان كريما يشجع الصائمين على الجود والكرم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من تصدق بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة”.
لقد قدم عليه الصلاة والسلام للأمة النموذج الأعظم للقدوة الحسنة في العطاء والكرم، كما توضحه هذه الرواية: أهدت امرأة إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام شملةً منسوجة، فقالت: “يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام محتاجًا إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل مِن الصَّحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه! فاكْسُنِيها، فقال: نعم، فلمَّا قام النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام لامه أصحابه، فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها، ثمَّ سألته إيَّاها، وقد عرفت أنَّه لا يُسْأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعلِّي أكفَّن فيها” (رواه البخاري)، وكان صلى الله عليه وسلم يُؤْثِـر على نفسه، فيعطي العطاء ويمضي عليه الشَّهر والشَّهران لا يُوقَد في بيته نارٌ.
وكان يعجل الفطر، كما في الحديث عن عَائِشَةَ رضي الله عنها: “كَانَ صلى الله عليه وسلم يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ”، وكان يبدأ بالفطر قبل الصلاة، ويفطر على اليسير. من الرطب، أو التمر، أو الماء؛ كما في الحديث عن أَنَس بْن مَالِكٍ قال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ، فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ” (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي).
وكان يؤخر السحور، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: “تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ. قيل: كَمْ كَانَ قَدْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً” (رواه البخاري).
وكان يصلي إحدى عشرة ركعة، فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا” (رواه مسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف آخر عشر ليالٍ من رمضان تحريًا لليلة القدر، وتفرغًا للعبادة، فعنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ”، ويحض على الإكثار من الدعاء: “اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري).
حلمه صلى الله عليه وسلم
يقول الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران، 134).
فقد كان عليه الصلاة والسلام حليما لا يغضب إلا لله، يدعو لمن آذوه وطردوه ويقول: “اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون”.
فكظم الغيظ صفة عظيمة حث عليها القرآن الكريم، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم الصائمين فقال: “الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يفسق ولا يرفث فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم” (رواه أبو داود). وكظم الغيظ صبر والصوم صبر، ولا يقدر على كظم غيظه إلا مؤمن صام إيمانا واحتسابا، وقمة الكمال في خلق الحبيب عليه الصلاة والسلام حين مكنه الله من أعدائه في فتح مكة فقابل الإساءة بعفو المحسنين، وهو يقول لهم: “يا أهل مكة ماذا ترون أني فاعل بكم، فيقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول: أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.. أذهبوا فأنتم الطلقاء” (تاريخ الطبري، ج: 2، ص: 161).
ما أروع لغة الحبيب عليه الصلاة والسلام حين قال: الصوم جنة، والجنة هي الدرع الذي يلبسه المحارب ليتقي به ضربات السيوف والسهام، يشبه الصوم بالدرع الواقي، فكما أن الدرع يقي ويحفظ من أخطار الحرب، فكذلك الصوم يقي ويحفظ من أخطار الذنوب والآثام. والدرع من أدوات الحرب ولوازم المعركة، وكذلك الصوم من لوازم المعركة، لأن الصائم في الحقيقة يخوض معركة عنيفة ضد شهوات النفس ووساوس الشيطان، لذلك فهو يحتاج إلى درع يقيه وسلاح يستعمله، أما الدرع الواقي فهو الصوم، وأما السلاح الذي يستعمله فمراقبة الله.
جهاده صلى الله عليه وسلم
على غير ما عرف عن الناس في رمضان من الكسل والتراخي تذرعًا بالصيام؛ كان صلى الله عليه وسلم يعتبر رمضان شهر العمل الجاد والمجهد، إنه شهر الجهاد في سبيل الله تعالى، حتى أنَ أَوَّلَ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كان فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. ثم أرسل عددًا من السرايا في رمضان، وكان أول لقائه في جهاد المشركين ببدر، وفتح له الله تعالى مكة في شهر رمضان.
فاللهم أعنا فيه على الصيام والقيام، وجنبنا فيه الهفوات والآثام، وارزقنا فيه ذكرك وشكرك يا أكرم الأكرمين.
(1) فتح الباري، ج: 1، ص: 31.