التربية بالحب على منهاج النبوة

Cover Image for التربية بالحب على منهاج النبوة
نشر بتاريخ

جادت السنة العطرة على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدرر والخير العظيم، ومن تلك الدرر الدعاء، وبه أوصى سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه. عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال، قال معاذ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ بِيَدِهِ وَقالَ: “يَا مُعَاذُ واللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، ثُمَّ أُوصِيكَ يَا مُعاذُ لاَ تَدَعنَّ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُم أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، وحُسنِ عِبَادتِك” 1.

أول ما استهل به النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، هو شد يده الشريفة على يد سيدنا معاذ بن جبل؛ وهو صحابي جليل، من أهل العلم والفقه والبصيرة، فنرى أدب النبوة وتربيته للأمة من خلال إظهاره صدق العواطف “يا معاذ والله إني لأحبك”؛ والله تفيد التأكيد، تأكيد على صدق المشاعر، وكيف لا يصدق وهو الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وبعد هذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيته إلى معاذ: “لا تدعنّ دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”.

المستفاد من الحديث؛ أنه من الضروري والمؤكد قبل الشروع في النصح أو الوصية، لابد من كسب قلب المرء، باللين والرحمة، وصدق المشاعر، وحسن إظهارها، وحسن تقديم النصيحة ليُحسن استقبالها وتقبلها. لذا جاء في التربية النبوية للأمة، أنه صلى الله عليه وسلم أظهر حبه وحنوه لمعاذ،  ثم أقبل يوصيه بقول هذا الدعاء دبر كل صلاة.

اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء أن يردد دبر كل صلاة؛ بعد أن كان العبد بين يدي الله وبحضرته – والصلاة بما هي صلة بالله وأنس وتواصل مع المولى سبحانه – وما أن ينتهي العبد منها فيجد ما يجده، يطلب من الله العون في الذكر، لكي يحفظه الله بذكره من أن تدركه مجاري الغفلة، وأن يحفظ اللسان من الخوض في أعراض الناس وعيوبهم، ومن الغيبة والنميمة.

أما طلب العون من الله على شكره، فهو طلب لتثبيت النعم وزيادتها. فكما في الدنيا النعم، فيها البلاء والنقم، فإن شكرته على نعمه – التي لا تعد ولا تحصى – وقابلت ما يضرك بالصبر، زادك الله من فضله ونعمه، جاء في قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لشَدِيد 2.

بيد أن طلب العون من الله من أجل الإحسان في العبادة؛ يقتضي الاجتهاد لحضور الروح والجوارح معا، حتى لا تنطفأ الحرقة وشمعة الشوق للقيا المولى عز وجل، فطلب وجهه الكريم في دائرة العادة فقط، والغفلة في العبادة، ينقص من روحها – وهي الأصل في العبادة – وهو ما يستدعي الاستغفار مما خالج النفس أثناء تأديتها.

فحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه سولم لسيدنا معاذ؛ هو تربية وتعليم، بالحال قبل المقال. نتأمل الحديث ونتعلم منه صلى الله عليه وسلم، أن القول سبقه الفعل. فقد بدأ عليه الصلاة والسلام، بشدّ يد الصحابي الجليل سيدنا معاذ، ليشعره بدفء محبته عليه السلام له، قبل أن يقدم له وصيته الشريفة. فهذا المشهد العظيم يعلمنا أن أول ما ينبغي تمثله قبل عملية النصح هو تمثل معاني الرفق واللين في الكلام، وهو ما يُسَهل عملية كسب القلوب. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه” 3.

تدعى هاته التربية في علم النفس بـ”التربية بمنهجية الحب”؛ فالإنسان مخلوق عاطفي، يغلب عليه الطابع العاطفي، وتؤثر فيه معاني المحبة، وهي أيضا من أرقى أساليب التواصل الإنساني، وتجعل جو التواصل بين الناصح والمنصوح جوا يغمره الانسجام النفسيّ، والاطمئنان الداخلي، وهو ما يعين على تقبل النصيحة.

فالتربية بالمحبة وعلى المحبة هي منهاج نبوي، وعليها أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء جماعة المسلمين بالمدينة المنورة، عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، وجعل أول عقد يربطهما هو “عقد الأخوة”؛ وهو عقد خاص لصحبة خاصة داخل العقد الأخوي العام.

لقد من الله تعالى على نبيه بقوله عز وجل: وَإِنْ يُّرِيدُوٓاْ أَنْ يَّخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَ۬للَّهُۖ هُوَ اَ۬لذِےٓ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِۦ وَبِالْمُومِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْۖ لَوَ اَنفَقْتَ مَا فِے اِ۬لَارْضِ جَمِيعاٗ مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمُۥٓۖ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ 4. فتلك الألفة القلبية، والمحبة الأخوية، ما هي إلا عنصرا واحدا من عناصر الجمع الثلاث “الحب في الله، والتناصح في الله، والشورى”، ثلاث نواظم لا تقوم إحداها مقام الأخرى، ولا يقوى جسم إسلامي على جهاد إسلامي إلا بها.

ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبه الكرام أن يحققوا ما حققوه من جلائل الأعمال الجهادية، لو بقي الأمر عند الألفة والمحبة، بل هي لبنة مؤسسة لمرحلة الجهاد، ودعامة أساسية في بناء  معية صالحة، يسودها التفاهم الفكري، والتناصح الشوري. وعن هذه المعية قال الله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم 5.                                                                                                             

فبالمحبة تحققت الطاعة والاتباع، وبها أرسى عليه الصلاة والسلام معالم البناء البشري، والحضاري، القيمي والأخلاقي، الديني والدنيوي. وبالمحبة أوصى حتى تتآلف القلوب، ويشتد عود الأمة، ليتحقق فيها نصر الله الموعود.


[1] حديث صحيحٌ، رواه أَبُو داود والنسائي بإسناد صحيح.
[2] سورة إبراهيم، الآية 7.
[3] رواه مسلم.
[4] سورة الأنفال، الآيتان 64-63.
[5] سورة الفتح، الآية 29.