مقدمة
كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الشخص الذي اختاره الله تعالى واصطفاه، لا لمجرد أداء رسالته فقط؛ بل اختاره ورفع ذكره ومقامه ليتعلق به المؤمنون كما تعلق به أصحابه رضي الله عنهم تعظيما واتباعا، اقتداء واقتفاء.
ولعل ما جعل الصحابة الكرام أكثر تعلقا بجنابه صلى الله عليه وسلم، وأشد ذودا عنه بعد تلك الأحوال الشريفة التي عاشوها معه، وتربوا في كنفها حتى صاروا رجالا ربانيين، فتغير بذلك حالهم وحال أقوامهم والأمم المحيطة بهم. وما نهضوا بتلك الأعباء كرها، وما حملوا عبء المجتمع، وهمّ الأمة قصرا؛ وإنما حملوها برضى واختيار. فقاموا بالمسؤولية خير قيام، وخرجوا من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن سلطة القهر إلى نسائم الحرية والعدل.
فكيف ربّى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه على الاختيار؟
1ـ الاختيار من معاني القلوب
الاختيار من اختار. ونقول اختار الطريق الأفضل، إذا توجه إليه بمحض إرادته، واسم الفاعل المختار. وتقول خيَّرته فاختار 1 وكلمة اختار تحمل معنى صرفيا يدل على المطاوعة. والمطاوعة من الطاعة. والطاعة إما أن تكون خضوعا إراديا، أو تكون خضوعا إجباريا. وشتان بين طاعة قائمة على يسر ورغبة، وأخرى قائمة على عسر ورهبة. والله عز وجل يريد منا أن نعبده اختيارا. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “…في عباده أراد أن يتحقق فيهم التعبد له اختيارا، كما تحققت فيهم صفة العبودية له إجبارا” 2.
2 ــ التخيير الرحيم بث لروح المنافسة
ما يعنينا في الحديث عن التربية بالاختيار في السلوك النبوي هو التأكيد على تلك الأحوال الشريفة المفعمة بالرحمة والسكينة التي تدور رحاها حول محبة رسول الله لأصحابه ورأفته بهم وحرصه عليهم ورفعه العنت عنهم. ومن ثمّ حرص الصحب الكرام على تعظيمه فكانوا على استعداد دائم للدفاع عنه، وافتدائه بالمهج.
وليتضح المعنى سنعرض موقفا من المواقف أو مشهدا من مشاهد السيرة النبوية تبرز بعض مظاهر تلك التربية المحمدية العطرة، الموقظة للقلوب، والباعثة للهمم، والمنورة للعقول، والمحفزة للجوارح.
قال الواقدي رحمه الله وهو يصف تحركات رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه نحو حنين: “ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا فارس يحرسنا الليلة؟” إذ أقبل أنيس بن أبي مرثد الغنوي على فرسه، فقال: أنا ذا يا رسول الله، فقال – صلى الله عليه وسلم: “انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا فلا تنزلن إلا مصلياً أو قاضي حاجة، ولا تغرن من خلفك”.
قال: فبتنا حتى أضاء الفجر وحضرنا الصلاة. فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أأحسستم فارسكم الليلة؟” قلنا: لا والله، فأقيمت الصلاة فصلى بنا، فلما سلم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر خلال الشجر، فقال: “أبشروا جاء فارسكم”. وعندئذ جاء أي الفارس وقال: يا رسول الله إني وقفت على الجبل كما أمرتني فلم أنزل عن فرسي إلا مصلياً أو قاضي حاجة حتى أصبحت، فلم أحس أحدا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انطلق فانزل عن فرسك، وأقبل علينا”، فقال “ما عليه أن يعمل بعد هذا عملاً” 3.
3ـ التخيير مفتاح العمل المثمر
عمد الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو قائد الجيش وقتئذ إلى استعمال أسلوب الاختيار في ظروف خاصة، فالعدو متربص بالمؤمنين من كل جانب، والبرد قارس. فاقتضت الرحمة القلبية والحكمة العقلية النبوية أن يلجأ إلى التخيير قائلا: “ألا فارس يحرسنا الليلة؟”، علما أنه كان يحق له كقائد أن يأمر فيطاع. لكنه لجأ إلى التخيير مراعيا قدرات من يقود. والظروف المحيطة بهم.
فلما علم الحبيب أن هذه المهمة لا يقدر على إنجازها إلا من يُقبل عليها باختيار ويتحمل مسؤوليتها طوعا فبث روح المنافسة بين الصحابة رضي الله عنهم. فما لبث أن انبرى للمهمة أنيس بن أبي مرثد الغنوي. ولعل هذا درس مفيد لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
أنيس لم ينزل بعد عن فرسه -ومعنى هذا أنه لم يسترح من عناء السفر بعدُ- فسمع طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقفه من بعيد: “أنا ذا يا رسول الله”، فانبرى للمهمة الجديدة لم يهتم لمشقة القدوم بل تجددت همته فورا فقرر ولم يتردد.
عمّ يعبر كل هذا؟
أ ـ يعبر على أن القلوب حين تتشرب حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تشُحذ الهمم، وتعلو العزائم.
قال الشاعر:
“وإذا كانت النّفوس كبارا .. تعبت في مرادها الأجسامُ”
ب ـ تميز الرجل بجندية عالية في الدفاع عن مصحوبه وجماعته معا… مدركا فضل الحراسة باعتبارها عملا جليلا يعظُم بحسب الزمان والمكان والأشخاص. أن تحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة عمل لا يقدر بثمن. ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله” 4.
ج ـ يتحدث الرجل بفرح عن قيامه بدوره وإجادته لعمله بنفس طيبة راضية قائلا: “يا رسول إني وقفت على الجبل كما أمرتني فلم أنزل عن فرسي إلا مصلياً أو قاضي حاجة حتى أصبحت فلم أحس أحداً”. فلم يتهمه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرض موقفه بنقص في إخلاصه لا سيما وأنه يدلي بهذا الحديث أمام جمع من الصحابة رضوان الله عليهم”.
د ـ ثمرة عمل الرجل جعلته ينال رضى رسول الله صلى الله ويمنحه هذا الوسام العالي: “ما عليه أن يعمل بعد هذا عملاً”. وكأن هذا العمل كفاه عمره كله وإن لم يعمل غيره.
كل هذا وغيره يظهر لنا الأثر الإيجابي للتخيير النبوي في أسلوب قيادته. وسيرة المصطفى مليئة بالامثلة.
فما أحوجنا إلى الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم في أسلوب التخيير في علاقاتنا: الأزواج فيما بينهم والآباء مع أولادهم، والمسؤولون مع رعيتهم، والمربون مع متعلميهم، وأرباب العمل مع مستخدميهم… لأن بغيابه قل الإتقان في العمل وعمّت الرداءة، وضعفت المسؤولية وشاعت اللامبالاة، وتردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية، وتفشى الفساد حتى بلغ ذروته.
وحري بأمة تريد النهوض أن تقتفي أثره في التربية بالاختيار لأسباب ومزايا نجملها فيما يلي:
ü نيل رضى الله عز وجل باستحضار النية الخالصة.
ü إحياء سنة المختار صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة “من أحيا سنتي بعد فساد أمتي فله أجر مائة شهيد” 5.
ü إذكاء روح المنافسة.
ü القيام بالأعمال على مستوى عالِ من الإتقان والإحسان.
ü استنفاذ الطاقة والتفاني في العمل، واستفراغ الجُهد والجَهد.
ü استشعار المسؤولية بشكل أقوى وأكبر.
ü كسب ودّ المسؤول واستجلاب عطفه وتشجيعه.
ü موافقة الأسلوب القرآني. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) 6. وقال أيضا ألا تحبون أن يغفر الله لكم 7.
ü تحقيق تربية ناجحة بمستوى عال سواء في التعليم أو الدعوة أو القيادة أو غيرها.
ü بناء الشخصية الربانية المتوازنة، المتشبعة بقيم الحرية والمسؤولية.
ü توفير الطمأنينة والحب والحنان والأمن بجميع أبعاده.
خاتمة
إن كان لذكرى المولد النبوي من معنى، فتذكر أفعال الرسول المختار صلى الله عليه وسلم وأقواله وأحواله مع أصحابه رضي الله عنهم، والسعي صادقين إلى إحياء سنته في حياتنا اليومية علما وعملا فرادى وجماعات.أينما حللنا وحيثما ارتحلنا.
ومجمل القول أن تلك الأحوال الشريفة، والمشاهد الرائعة من هديه صلى الله عليه وسلم كفيلة أن تغير ما ورثناه من أساليب فاشلة أنتجت أجيالا من المحبطين، العالة على أنفسهم ومجتمعهم وأمتهم. وأن تربينا على أساليب مباركة موفقة تخرج جيل التغيير المنشود. وهذا لا يتأتى بمجرد الاستماع إلى أفكار وأقوال… وإنما لابد من معايشة أحوال الصالحين الموفقين ومصاحبتهم حتى تتشرب القلوب منهم معاني الرحمة والطمأنينة والسكينة، فيتحفز العقل وتنشط الجوارح وتتسارع للتنفيذ الجاد والعمل المثمر.
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “يتصور بعض الناس أن دولة الإسلام يمكن أن تقوم بمجرد انتشار الفكر الإسلامي والالتزام بالصلاة والأمر والنهي ثم الجهاد. ما نتحدث عن الرحمة والسكينة ومعاني القلب وعن الكمال الروحي كما عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا لنؤكد أن تلك الأحوال الشريفة هي اللب وهي العماد” 8.