الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على الطيب السمح دفع بالتي هي أحسن فكان منه العفو والصفح.
لما كانت النفوس السليمة للصفاء وعاء وللعطاء سقاء، فأصحابها في نعمة من الله ذي المن والعطاء، يحبهم لما صبروا وتحملوا ويتفضل عليهم بحبه تعالى لما سمحوا وسامحوا وتسامحوا.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ، سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ الْقَضَاءِ”. (صحيح الترمذي، 1319).
السماحة: هي السهولة والجود. وسمحًا أي: سهلاً جوادًا. والسماحة من الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: “الإيمان الصبر والسماحة” أخرجه أحمد.
وسمح البيع والشراء: هو الذي يكون سهلاً جوادًا إذا باع وإذا اشترى، ويتجاوز عن بعض حقه إذا باع.
وسمح القضاء: هو الذي يطلب حقه بسهولةٍ ورفقٍ ولين جانبٍ، وعدم إلحاحٍ أو إضرار؛ فالسمح: هو الذي يتعامل مع الناس بسماحةٍ وسهولة، ويستعمل معالي الأخلاق، ويترك الخلاف..
كيف السبيل إلى التسامح؟
التسامح ورقة من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها بإذن ربها، التسامح فضيلة خلقية قرينة الرفق واللين، كرم الله تعالى بها الانسان وفضله على سائر خلقه قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [1].
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “إن الأخت الصالحة مدعوة لكسب الفضائل ومقاومة الرذائل وامتلاك القوة الإيمانية الإرادية لتَرقَى صعُدا في معارج الكمال الروحي والكمال العلمي والكمال الخلقي والكمال الجهادي” [2].
ما الأمر كلام في الهواء أو شعارات جوفاء، ظاهرها المناداة بالحب والاحترام، وباطنها إصرار على العداوة والازدراء، بل هي حركة دؤوبة على تغيير ما بالأنفس من أمراض وأدواء إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[3] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [4].
السبيل إلى التحلي بخلق التسامح والتخلي عن أضداده من الحقد والقسوة يكون باتباع خطوات منتظمة ومستمرة:
– نية صادقة
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امريء مانوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه” (رواه البخاري ومسلم في صحيحهما).
– همة عالية وإرادة قوية
يقول الحق سبحانه: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [5]. روى الإمام البخاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم وإنما الصبر بالتصبر”. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “علو الهمة ألا تقف – أي النفس – دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات” [6].
– خلة صالحة
قال صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه). دعاء وتضرع وطرق متواصل لباب المنعم المتفضل وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ كما علمنا الصادق صلى الله عليه وسلم: “اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها ألا أنت” (رواه مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو الله تعالى أول ما ولي الخلافة فيقول: “اللَّهُمَّ إِنِّي غَلِيظٌ فَلَيِّنِّي، وَشَحِيحٌ فَسَخِّنِي، وَضَعِيفٌ فَقَوِّنِي”.
من ثمرات التحلي بخلق التسامح
* محبة الله ذي المن والعطاء وجبت للسمح كريم الخصال، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ، سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ الْقَضَاءِ”. وظل تحت عرش الرحمن وقرب ودنو من جوار الكريم المنان.
* محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرب منزلة منه عليه أفضل الصلاة والسلام يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا” [7].
* بلوغ أفضل درجات العبادة. روى ابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعا عن عائشة رضي الله عنها: “إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم” [8].
وروى أحمد والطبراني مرفوعا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: “إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه وكرم ضريبته” [9].
وصدق الشافعي رحمه الله تعالى حين قال:
إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى ** وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَن مِنكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ ** فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعائِباً ** فَدَعها وَقُل يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ
وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى ** وَدافِع وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ
[1] سورة الاسراء.
[2] تنوير المومنات، 1/15.
[3] سورة الرعد، الآية 11 .
[4] سورة الأنفال، الآية 53.
[5] سورة آل عمران، الآية 125.
[6] من مختصر منهاج القاصدين للإمام بن قدامة المقدسي.
[7] سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، حديث 1941.
[8] موارد الظمآن: 1/475.
[9] مسند الإمام أحمد: 2/177.