في ماضينا الإسلامي المجيد كان الرجل منا يرد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فيما لو سولت له نفسه على سبيل الافتراضِ الاعوجاجَ عن الطريق المستقيم قائلا: نُـقـوِّمُك بهذا السيف يا عمر!) على اختلافٍ في درجة صحة الرواية، لكن ما يعضد معناها كثير، وتعترضه امرأة بعدما ذكر على المنبر دعوةً إلى تيسير مهور النساء مستدلا بمهور نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومهور بناته، فتحاجه المرأة بآية من كتاب الله ورد فيها وآتيتم إحداهن قنطاراً 1 ، فيرضخ الفاروق العظيم رضي الله عنه للحق، في رواية أبي يعلى فقال: اللهمَّ غفراً، كل النَّاس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مائة درهم، فمن شاء أن يعطى من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل). وفي رواية قال: أصابت امرأة وأخطأ عمر!).
وما أن مضى زمن الخلافة الأولى على منهاج النبوة حتى حكم من يُكرِه الحسينَ حفيدَ رسول الله ورفاقه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الرحمان بن أبي بكر، رضوان الله عليهم، على بيعة ابنه العربيد، ويهددهم متوعدا إن هم عبروا عن رفضهم أمام الملأ قائلا: إني أتقدم إليكم وقد أعذر من أنذر! إني قائل مقالة، فأقسم بالله لئن رد علي رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا لنفسه، ولا يبقي إلا عليها!) 2 .
ثم تمضي عقود وتُنقض عهود، فيرتقي منبرَ رسول الله من يهددُ صلحاء الأمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بقولته السفيهة الشهيرة: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه!).
وعيدٌ وإرهابٌ لمن يدعو إلى الخير وينصح لأئمة الأمة وعامتها، وصدٌّ عن الهدي النبوي الشريف، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث تميم الداري: “الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.
ومع توالي القرون، ازداد الحاكم ابتعاداً عن العروة الوثقى بقدر زيادته انغماساً في الترف والهوى، وغرته وبطانته العظمة والكبرياء، وغرهم بالله الغرور، فازداد تنكيلهم بالرعية في سجون البغي والعدوان، واشتد الأذى في زنازن الظلم والطغيان، بطشٌ وعذابٌ لا يتحملهما ولا يتصورهما إنسان إن تجرأ على انتقاد قداسة السلطان.
أضحى السلطان محاطا بهالة العظمة والكبرياء، وأُلبِسَ لباس النبوغ والذكاء، أصبح هو كل شيء، وأصبحت الأمة كلها لا شيء بدونه، قاصرة لا وزن لها ولا قيمة إلاّ به، فما أسعدها به! إذ هو المفكر الأول، والمعلم الأول، وهو المبدع الأول، وهو المصلح الأول، وهو المجاهد الأول، وهلم جرا… كيف لا وهو سلطان الله في الأرض؟! من أطاعه فقد نجا واهتدى، ومن عصاه فقد غوى واعتدى، وبنفسه إلى التهلكة قد ألقى! هكذا تكون دعاية ديدان القراء وإعلام الافتراء.
من حين لآخر، ومن قرن لقرن ينبري من اصطفاهم الله جلت عظمته من فحول العلماء العظماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، فيقوم قائمهم لله ويؤدي واجب الأمر والنهي الشرعيين لأولي الأمر، ويؤدي الثمن غاليا، تارة حصاراً وتضييقاً، وتارة سجنا وتعذيباً، وتارة قتلا واستشهاداً، غير أن الجائزة المنتظرة نفيسة جدا لا تضاهيها جائزة، إنها رضا الله تعالى ورضوانه، مشاهدُ متكررة على مر عصور الحكم العاض وأزمنة الملك الجبري تتمثـلُ سنةَ الله في قصة موسى وفرعون، حتى يأتي وعد الله: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا 3 ثم موعود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخلافة الثانية على منهاج النبوة: “… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” 4 .
لكن على طول زمان العض والجبر، وفي انتظار تحقق تلكم البشارة الكريمة وذلكم الفتح المبين، فالناس عامة يتعايشون مع وضع مَهينٍ مُذِل، فيحتسي بعضهم زقومه بالصبر المبرَّر بعدم دوام الدنيا، وبأن الله عز وجل يمهل و لا يهمل، حتى إذا أخذ الظالم لم يفلته، ويستسيغه بعضهم لكون الأمة لا يصلح لكبح جماحها ورعوناتها غير الحاكم القاهر، وآخرون يعيشون التماهي مع السكون لواقع لا غنى فيه عن حاكم هو عندهم ظل الله في الأرض ولا بديل عنه، انقادت له الأمة طيعة واستقالت من جميع شؤونها بين يديه، عند هؤلاء يستحيل حتى مجرد تصور العيش والوجود دون بركة “مولانا المعتصم بالله” أو “مولانا الملهم” أو “المجاهد الأكبر” أو “خادم المقدسات” أو “حامي الملة” أو “قائد الثورة” إلى غير ذلك من الألقاب والأوسمة التي يُعظَّم بها الحاكمُ من لدن بطانة السوء، وهو الذي يعلم في قرارة نفسه قبل غيره مدى بُعده عن تلك الألقاب، وبراءتها منه براءة الذئب من دم يوسف…!
لا شك أن الله سبحانه يمهل الظالمَ ولا يهمله، قال عز وجل: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار 5 ، ويعجل للظلمة المترفين طيباتهم فيذهبونها في الحياة الدنيا، لكن في فهم أكثر الناس وفي همتهم إزاء هذا الأمر الإلهي قصور، وهو خبر يقين، إذ يتخذه أقوامٌ تكأةً لتبرير الجبن والمسكنة والانسحاب من ساحة التدافع لاسترداد الحقوق الضائعة، ومنطلقاً للقبول بكل دنية والرضا بكل مهانة، والتنازل عن عزة المؤمن بالله ورسوله، فلا يعدو أن يكون ذلك الفهم وذلك السلوك بمثابة حجة المنهزم الذي اختار التطبيع مع الخنوع طوعا وكرها، والله المستعان.